كنت أنوي أن أتناول في مقال هذا الأسبوع في «الاتحاد» انطباعاتي وملاحظاتي عن الولايات المتحدة الأميركية من الداخل حيث أمضي إجازتي السنوية فيها هذا الصيف، وأراقب وأتابع القضايا التي تشغل الرأي العام الأميركي، وقبل ذلك تستقطب اهتمام الساسة، وخاصة أنني هذه الأيام في واشنطن التي تغط في الإجازة الصيفية، فلا الرئيس في البيت الأبيض، ولا الكونجرس منعقد، بل هو في الإجازة الصيفية.

 

ولكنني اضطررت لتأجيل مقالي ذلك الذي سينتظر للأسبوع القادم إن شاء الله، بعد أن سعدت أثناء تصفحي لموقع «الاتحاد» الذي أحرص على متابعته يومياً، بتقديم الإخوة في «وجهات نظر» في «الاتحاد» مشكورين عرضاً لدراستي «تحديات ومستقبل الاتحاد الخليجي» التي صدرت في كتيب وتسلمته قبل أقل من شهر. وقد عرضتُ تلك الدراسة بدعوة كريمة من مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية في أبوظبي، أحد أهم مراكز الدراسات المتخصصة في العالم العربي ومنطقة الخليج، وقدمت في أغسطس عام 2012، كمحاضرة ضمن إصدارات «سلسلة محاضرات الإمارات -158» لباحثين ومتخصصين وقادة سياسيين ومسؤولين وخبراء في قضايا ومواضيع مهمة ومؤثرة. ومن حسن الطالع أن تصدر الدراسة في كتيب وتقدم «وجهات نظر» عرضاً لها يحتوي على أبرز وأهم محاور وأفكار الكتاب عشية الذكرى الأولى لعرض وتقديم الدراسة في مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية.

وقد رأيت من المناسب أن أؤكد على بعض الثوابت المهمة التي وردت في تلك الدراسة، والتي أكدتُ فيها على أن قضية الوحدة أو الاتحاد بين دول مجلس التعاون، الذي مر أكثر من ثلاثة عقود على قيامه وتحوله إلى أنجح وأكثر المنظمات الإقليمية العربية نجاحاً، وكنموذج للتعاون الإقليمي بين الدول العربية، لم تعد ترفاً بل أصبحت واقعاً ومطلباً شعبياً واستراتيجياً وحتى رسمياً في ظل عصر التكتلات والتعاون، ولمواجهة التحديات العديدة المحدقة بمنطقتنا التي باتت الاستجابة لها بحاجة إلى جهد جماعي وليس فردياً.

 

وقد أثبت تطور وتسارع وتيرة وخطورة الأحداث الإقليمية خلال الآونة الأخيرة حاجة متزايدة للمضي وبشكل جدي ومدروس في طريق الاتحاد الخليجي الذي طال انتظاره وتأخر بسبب غياب القدرة الردعية للمجلس كمنظومة أمنية بالدرجة الأولى، وذلك على رغم الحضور القوي والفاعل لدول المجلس، كما أوضحتُ في الدراسة وفي عدة مقالات نشرت في «وجهات نظر» هنا في صحيفة «الاتحاد»، وكذلك أيضاً في محاضرات عامة، على الساحتين العربية والدولية.

 

إن دعوة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز إلى قيام اتحاد خليجي بعد أكثر من ثلاثة عقود من التعاون تؤكد أنه قد بات أمراً ملحاً في ظل تصاعد حضور وقوة وتأثير ومبادرات ومكانة المجلس ودوله، حيث أصبحت دول المجلس اليوم هي القلب ولم تعد ضمن الأطراف في المشهد الجيو-سياسي والاستراتيجي العربي، فهي القلب والمحرك الرئيسي للعالم العربي اليوم. ولدى دول المجلس مجتمعة أكبر اقتصاد في المنطقة الممتدة من إسبانيا إلى الهند، بدخل إجمالي تجاوز 1,5 تريليون دولار. وقد أصبحت دول المجلس لاعباً مؤثراً في السياسة الإقليمية والدولية وفي أمن الطاقة والمشتقات النفطية والاستثمارات، وتمتلك سوقاً كبيرة للتجارة والسياحة والسلاح. وهناك أيضاً الهواجس من التغلب على التحديات الكثيرة التي تواجهها دول مجلس التعاون الخليجي، بسبب الخلل في التركيبة السكانية والتركيبة الديموغرافية. وهناك كذلك انعدام القوة العسكرية الصلبة.

 

وقد لعبت دول المجلس دوراً محورياً فيما بات يعرف بـ«الربيع العربي»، سواء عن طريق المبادرات السياسية والدعم المالي لجمهوريات هذا «الربيع»، أو في التصدي لمشاريع إيران للهيمنة على المنطقة وفرض الأجندة الإيرانية عليها، حيث يتفاعل اليوم الشأن الإيراني والشأن العراقي والحرب الطائفية- المذهبية الطاحنة في المنطقة، التي ستكون حاضرة وبقوة بسبب تصاعد الفرز والنفَس الطائفي والمذهبي، ونرى تجليات ذلك في سوريا المحترقة في أتون الحرب الأهلية، والعراق الذي عاد للمربع الأول، هذا إضافة إلى خطورة ما يجري في لبنان، وهناك أيضاً النفس البغيض والنفس الإقصائي عند البعض. وتداعيات «الربيع العربي»، وكلها قضايا تشكل مجتمعة تحديات واضحة لدول مجلس التعاون، التي نجحت في التعامل مع «الربيع العربي» بذكاء واقتدار. كما أن نشاط ومساهمات المغردين والمدونين الخليجيين هي الأكبر في الدول العربية. وأعداد ونسب المشاركين في وسائط التواصل الاجتماعي مثل «الفيسبوك» و«التويتر» و«واتس آب» و«انستغرام» هي الأكبر عربياً من دول مجلس التعاون الخليجي، وخاصة من المملكة العربية السعودية.

 

وكما أورد عرض الكتاب على موقع وجهات نظر عن «تحديات ومستقبل الاتحاد الخليجي» فإن المناخ الإقليمي اليوم في المنطقة العربية يشهد احتقاناً وتداعيات أطاحت بعمداء الزعماء العرب في السلطة، وقد تم عزل رئيسين في مصر، وبن علي والقذافي وعلي صالح. أما المخاوف فهي واقعية ومشروعة للدول من فكرة الاتحاد وخاصة من بعض الدول الصغيرة في المجلس وذلك بسبب الدور الكبير المؤثر للأعضاء الكبار في المنظومة. وهناك رفض، أو في أحسن الأحوال تحفظ، من بعض الدول الصغيرة وخاصة من انعكاسات الاتحاد الخليجي على مكونات النسيج الاجتماعي في عدد من دول المجلس.

 

وأؤكد في الكتاب كما ورد في عرضه في وجهات نظر، أن «أحد أهم معوقات المشروع يتمثل في عدم وضوح مفهوم الاتحاد الخليجي. وهو غموض يثير أسئلة تتعلق بمدى استعداد الدول الأعضاء للتنازل الجزئي عن السيادة الوطنية، وتوافر الإرادة السياسية لإحداث تلك النقلة نحو الاتحاد، وهل سيتم انضمام الدول الست بشكل جماعي، ولو على مراحل؟ ولماذا تفاوتت الحماسة بين دولة وأخرى؟ وهل سيكون الاتحاد الخليجي كونفدرالية أم فيدرالية؟ وكيف سيتعامل مع تهديدات الداخل والفراغ الاستراتيجي ومطالب الإصلاح السياسي؟».

 

وإضافة إلى ذلك «وعلى الرغم من تلك التحديات التي تقف دون قيام الاتحاد الخليجي، تبقى المصالح المشتركة والدوافع إلى إقامته أقوى وأكثر إلحاحاً من كل العراقيل، ما يجعل فكرة الاتحاد توجهاً استراتيجياً دائماً لدول المجلس، وليس قراراً آنياً يختفي باختفاء الأخطار المؤقتة التي تواجهها الدول الأعضاء. فمجلس التعاون الخليجي لديه خصائص واضحة ومحددة، جغرافية وتاريخية وسكانية وسياسية واقتصادية واجتماعية... ما فتئت تتطور عبر التاريخ، وتتحول إلى خصائص مشتركة، تجعل مشروع الاتحاد مشروعاً استراتيجياً لدول المجلس».

 

والملاحظ منذ إطلاق المبادرة حول الانتقال من التعاون إلى الوحدة في قمة الرياض في ديسمبر عام 2011 أن الزخم والاندفاع نحو الاتحاد قد تراجع، ولم نعد نسمع من المسؤولين أو القادة أي تعليقات حول مشروع الاتحاد. بل إن اللجنة المكلفة بإعداد دراسة الجدوى تعمل.. ولكن نخشى أن تصبح مبادرة الانتقال إلى الاتحاد كبالون اختبار ضم الأردن والمغرب إلى دول مجلس التعاون.. ثم تتحول إلى مبادرة ويتم تقديم دعم مالي دون أي استثمار استراتيجي لتلك القدرات والإمكانيات. فهل سيتكرر ذلك مع الاتحاد الخليجي؟

 

وفي الأخير، أشكر الإخوة في وجهات نظر و«الاتحاد» على نشر الدراسة بشكل احترافي، وكذلك الشكر موصول لمركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية على الدعوة والمحاضرة ونشر الكتيب. على أمل أن تكون تلك مساهمة منا في تسليط الضوء على أهم وأنجح تجمع عربي، وعلى التحديات والآمال المعقودة عليه!

 

-------------------

* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الإثنين 26/8/2013.