لعقود طويلة ظل المسيحيون في الشرق الأوسط بمثابة «الضحايا غير المرئيين، أو المهملين» في عموم المنطقة، وفي أحسن الأحوال لم تول الولايات المتحدة سوى اهتمام متواضع بالمسيحيين الأصليين الذين عاشوا في الشرق الأوسط لقرون مديدة سواء في فلسطين، أو سوريا، أو العراق، أو مصر، ويعانون حالياً من مشاكل وتهديدات تجبرهم في كثير من الأحيان على حزم حقائبهم ومغادرة أوطانهم. وهذه اللامبالاة التي يُقابل بها المسيحيون العرب ترجع في الحقيقة إلى سبب أساسي يتمثل في الجهل بوجودهم أصلاً، أو بظروف عيشهم في المنطقة وإسهامهم في تطور مجتمعاتها. وأغلب الأميركيين لا يعرفون الكثير عن العالم العربي، وعن تاريخه وشعوبه، وهو ما يتعين تصويبه ما دام استمرار الجهل بالدور المهم الذي اضطلع به المسيحيون في تطوير مجتمعاتهم يحول دون فتح نقاش عميق وعقلاني حول ماضيهم في المنطقة، أو حتى حاضرهم ومستقبلهم. ولعل من الأمثلة الدالة على جهل الأميركيين بالمسيحيين في الشرق الأوسط تلك الحادثة التي جرت قبل سنوات وأستحضرها اليوم، حيث استضفت قساً فلسطينياً في واشنطن ونظمت على شرفه إفطاراً رسمياً حضره عدد من الصحفيين، ولأني اقتصرت على دعوت محرري الشؤون الدينية اعتقدت أنهم على علم بوجود المسيحيين العرب وتاريخهم في المنطقة. ولكن ما أن بدأت الأسئلة حتى تبين لي العكس، وأيقنت من الحديث الذي بدأه محرر الشؤون الدينية بوكالة «أسوشيايتد بريس» أن اللقاء الصحفي الذي أردته مثمراً لن يكون كذلك، فقد تساءل المحرر ليفضح جهله الشديد: «تقول إنك مسيحي عربي، كيف لهذين الوصفين أن يلتقيا؟ أليسا متناقضين؟»، ثم أعقب ذلك بسؤال أسوأ منه «متى اعتنقت عائلتك المسيحية؟».
لكن القس، وعلى رغم عبثية الأسئلة، حافظ على هدوئه دون أن يند عنه ما يشي بأنه قد انزعج من جهل الصحفيين، ورد على سؤاله بالقول إن عائلته دخلت المسيحية منذ ألفي عام، ومضى شارحاً الوجود المسيحي في فلسطين منذ أيام المسيح نفسه، موضحاً الدور الذي لعبه المسيحيون في تاريخ المنطقة ونضالهم المشترك مع إخوتهم المسلمين. ومع الأسف لا ينحصر الجهل في الصحفيين، بل يمتد أيضاً إلى بعض المسؤولين، فقبل عقدين من الزمن أخبرني مسؤول في الخارجية الأميركية عن نيته السفر إلى سوريا، وأن من بين القضايا المطروحة على أجندته إثارة موضوع «الأسد واضطهاد البعث للمسيحيين»، فما كان مني إلا أن سارعت إلى تحذيره بعدم إثارة الموضوع لأن المسيحيين أنفسهم كانوا من مؤسسي حزب «البعث»! وبصرف النظر عن استبداد النظام في سوريا، ينظر إليه المسيحيون على أنه مناصر لحقوقهم.
وما زلت أذكر أيضاً ذلك اليوم الذي تحدثت فيه إلى مسؤول أميركي عن سوريا، واتفقنا على أن نظام الاستبداد لم يعد له مكان في دمشق، ولكنني أشرت إلى مخاوف المسيحيين، فجاء رد محاوري صادماً من أن الوقت قد حان ليحزموا حقائبهم ويغادروا سوريا، وقد قال ذلك دون أدنى انشغال بمصير هؤلاء الذين ينصحهم بالمغادرة، أو بمستقبل سوريا دون نسيجها المسيحي. وحتى عندما يُعترف بالوجود المسيحي في الشرق الأوسط ومشاكله العديدة، فإن ذلك غالباً ما يغيب عن النقاش السياسي لتداخله مع أجندات سياسية أخرى وتصورات تبسيطية للوضع تجعل المسيحيين على الهامش.
وعلى سبيل المثال التزم الغرب الصمت إزاء تفريغ فلسطين من مسيحييها سواء في الضفة الغربية، أو القدس، وذلك تفادياً لإثارة حساسية إسرائيل. وفيما يحج أفراد اليمين المسيحي في الولايات المتحدة إلى الأراضي المقدسة لإظهار تأييدهم لإسرائيل، يقابل وجود المسيحيين في فلسطين وما يعانونه تحت الاحتلال الإسرائيلي من صعوبات إلى جانب إخوانهم المسلمين بالتجاهل التام. وهذا ما عبر عنه أحد رجال الدين المسيحيين في فلسطين قائلاً إنهم يأتون ليشاهدوا الطريق التي سلكها المسيح، ولكنهم لا يشعرون بنا، بل لا يعتبروننا موجودين أصلاً. ولا ننسى أيضاً بعض الأخطاء القاتلة التي ارتكبتها أميركا وفاقمت الوضع بالنسبة لمسيحيي الشرق الأوسط مثل المغامرة العسكرية السيئة لبوش الابن في العراق التي دمرت النسيج المجتمعي وأطلقت جحيم التطرف والطائفية التي كادت تدمر نهائياً الطائفة المسيحية القديمة في العراق، حيث تعاملت أميركا مع مأساة المسيحيين العراقيين إما بالتجاهل، أو بالتهوين منها باعتبارها نتيجة لا مفر منها وثمن لابد من دفعه لتحقيق الأجندة السياسية الأميركية وإسقاط صدام، وحتى اليوم ما زالت الصراعات الطائفية في العراق والاضطرابات السياسية في مصر التي تلقي بظلالها على المسيحيين في البلدين بتاريخهم الذي يعود إلى آلاف السنين، خارج دائرة الخطاب السياسي للولايات المتحدة. وفي كلا البلدين تهمين رواية سياسية عامة تضع المعارضة ضد النظام في سوريا و«القاعدة» في مقابل «حزب الله»، وتهتم في الحالة المصرية بالتقابل الموجود بين «الإخوان المسلمين» والجيش، أو الديمقراطية ضد الانقلاب، فيما تتعرض الكنائس للحرق ويعيش المسيحيون حالة من الخوف.
وحتى عندما تتبنى أطراف أميركية قضية المسيحيين في الشرق الأوسط فذلك غالباً ما يتم انطلاقاً من اعتبارات سياسية الغرض منها تسجيل نقاط ضد الخصم السياسي، كأن يوظفها الجمهوريون للهجوم على الإدارة الديمقراطية، أو لاستغلالها لتشويه صورة الإسلام، ولذا فلن تتجرأ تلك الأطراف مثلاً على انتقاد إسرائيل ومعاملتها السيئة للمسيحيين في القدس وبيت لحم. ولا التطرق إلى واقع المسيحيين في العراق الذي كانت أميركا نفسها سبباً في تدهوره. وفي هذا السياق من الضروري ألا نستبدل تشويه صورة الإسلام بالجهل بتاريخ المسيحيين في الشرق الأوسط، وألا نسعى إلى الخلط بين الأمرين، فالهجوم على الإسلام ليس هو الطريق الأنسب لإنصاف المسيحيين لأن ذلك ينطوي على إجحاف كبير ضد الأغلبية المسلمة التي عاشت لقرون طويلة مع المسيحيين وعملت معهم ويناضل أبناؤها اليوم لحماية جيرانهم وأصدقائهم المسيحيين من العنف والتطرف.
------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الأحد 25/8/2013.