18 أغسطس 2013
يأتي الحديث عن مؤتمر "جنيف 2" كإطار يمكن أن الوصول من خلاله إلى حل سياسي للأزمة السورية في وقت دخلت فيه الأزمة عامها الثالث على التوالي دون حسم أو وجود بوادر للحل السياسي. ويبدو أن هناك اتفاقا بين النظام وقوى المعارضة حول كون موازين القوة العسكرية على الأرض والعوامل الخارجية هي الطريق لتعزيز قدرة الأطراف عند الجلوس على طاولة المفاوضات.
ورغم تصريحات الدول الغربية أواخر العام الماضي 2012 باقتراب نهاية وسقوط نظام بشار الأسد، خاصة بعد أن حقق مقاتلو المعارضة مكاسب متتالية في أول عامين من الصراع، فإن سيطرة القوات الحكومية على بلدة القصير القريبة من لبنان كانت مؤشراً على سعي نظام بشار الأسد إلى استعادة توازنه على الأرض، مما أثار التساؤلات حول تداعيات هذه التطورات على إمكانية الوصول إلى حل سلمي، خاصة بعد وقوع اقتتال في صفوف المقاتلين الإسلاميين والجيش السوري الحر المدعوم من دول عربية وغربية.
ويقف هذا التحليل على قراءة أبعاد التوازنات المتعلقة بمشهد الأزمة السورية، وذلك من خلال الوقوف على أبعاد توازن القوى الداخلية في سوريا، وملامح التوازن العسكري على الأراضي السورية، وأخيراً الأبعاد الخارجية لتوازنات الداخل السوري.
توازنات القوى الداخلية في سوريا:
يرى أطراف الأزمة السورية أن الحل السياسي عبر وسائل دبلوماسية هو انعكاس لموازين القوى على أراضي سوريا، والتي تحدد مدى تأثير العوامل الخارجية على الداخل السوري إلى حد كبير. ويكشف الواقع عن أنه من الصعوبة بمكان القول إن سوريا يسيطر عليها أحد الأطراف دون الأخر، سواء نظام بشار الأسد، أو أحد أطراف المعارضة السورية. فالواقع السوري يشهد انقساما متزايدا غير محسوم حتى اللحظة في صالح أي من الجهات، حيث خطوط المواجهة دائمة التغيير، ويتخذ العنف أشكالاً جديدة.
ويلاحظ إذا نظرنا لتركيبة القوى السياسية الداخلية في المشهد السوري فسوف نجد قوى النظام تتشكل بصورة رئيسة من العلويين وعناصر الأقليات من العرب المسيحيين والدروز والتركمان وغيرهم الذين تشكل مخاوفهم من تعرضهم لبطش التيارات الإسلامية المتطرفة دافعا كبيرا في ارتباطهم بالنظام. ورغم ذلك التنوع، فإن القوى المسلحة المرتبطة بالنظام تتسم بالمركزية إلى حد ما، فهي تتمركز حول قوات الجيش والأمن النظامية، فضلاً عما يسميه النظام بـ "لجان شعبية" والتي تعرف لدى المعارضة بـ"الشبيحة". ويلاحظ أن نظام الأسد قد أصبغ صفة قانونية على هذه القوى تحت مسمى "قوات الدفاع المدني" لتضم تلك العناصر المدنية الداعمة للنظام في إطار يتيح شكلا من أشكال الهيراركية التي تحقق له السيطرة على تحركاتها إلى حد ما.
على الجانب الآخر، يشكل العرب السنة الكتلة الرئيسة لقوى المعارضة السورية، وهي كتلة تتسم بالتجانس إلى حد ما عن أطراف قوى نظام الأسد، التي تتشكل من جماعات مختلفة ومتنوعة. ورغم ذلك، تعاني المعارضة السورية الانقسام، فالائتلاف الوطني السوري الذي تشكل، نتيجة ضغوط مارستها القوى الخارجية بشكل خاص الولايات المتحدة الأمريكية وقطر في نوفمبر 2012، لا يتمتع بنفوذ يذكر على وحدات المقاتلين داخل سوريا، الأمر الذي يؤثر في ديناميكيات الصراع، نتيجة تنوع توجهات المجموعات المقاتلة واختلاف توجهاتها.
ولعل تصريح أحمد الجربا في 5 أغسطس 2013 عن مبادرة تأسيس نواة لجيش سوري وطني في شمال وجنوب سوريا خطوة في اتجاه توحيد قيادة هذه المجموعات، ومحاولةً أيضاً لإقناع الغرب بتزويد مقاتلي المعارضة بالسلاح مباشرة عبر إنشاء قوة أكثر انسجاماً ومنفصلة كلياً عن الجهاديين. ويُلاحظ في هذا السياق أن الإعلان عن هذه المبادرة لم يلاق قبولاً من كافة قوى المعارضة المسلحة، حيث رأتها بعض القوى خطة أمريكية سعودية لتحويل المقاتلين المعارضين إلى مجموعات مناهضة لتنظيم القاعدة على غرار مجالس الصحوة في العراق التي دعمتها الولايات المتحدة الأمريكية لمواجهة مقاتلي القاعدة في العراق منذ عام 2006 ، وهو ما يرفضه عدد من المعارضة المسلحة التي تسيطر بشكل جلي على واقع العمليات العسكرية في سوريا.
وتضم المعارضة المسلحة، إلى جانب قوات المجلس العسكري، عددا من الميليشيات المسلحة مثل ميليشيات الإخوان المسلمين، وجبهة النصرة المحسوبة على الجماعات السلفية، وأحرار الشام والقاعدة في العراق، وغيرها.
ملامح التوازن العسكري في سوريا:
في ضوء حرص أطراف الأزمة السورية على تغيير ميزان القوى العسكري لصالحها من منظور أن ذلك سوف يكون محددا رئيسيا في تغيير المعادلة السياسية، وهو ما يتجلى في تصريحات "أحمد الجربا" عقب انتخابه رئيساً للائتلاف في مقابلة لرويترز في 6 يوليو 2013 بأن المعارضة لن تشارك في مؤتمر"جنيف2" الذي تسعى الولايات المتحدة وروسيا لعقده، إذا لم تتحسن فرصها العسكرية.ومن ثمَ، يبدو من الأهمية بمكان أن نلقي نظرة على خرائط القتال على مختلف الجبهات السورية. ويُلاحظ أنه في حين تبدو سيطرة نظام الأسد على أغلب جنوب سوريا ووسطها، تبدو سيطرة مقاتلي المعارضة على مناطق في الشمال قرب الحدود التركية، وبامتداد وادي نهر الفرات في اتجاه العراق.
من ناحية أخرى، يسعى السوريون الأكراد في الركن الشمالي الشرقي من البلاد إلى منطقة كردية تتجه إلى الحكم الذاتي. فمنذ انسحاب قوات الرئيس بشار الأسد من تلك المناطق العام الماضي، تولت المجالس المحلية الكردية والمسلحون التابعون للإقليم إدارتها. وقد حرص الأكراد بعد ذلك على تجنب التحالف مع النظام أو الجماعات المعارضة المسلحة، مركزين على تعزيز سيطرتهم على المناطق الكردية.
وجدير بالذكر أن هناك غيابا للتنسيق بين قوى المعارضة السورية والأكراد في سوريا، بل شهدت الآونة الأخيرة معارك بين الأكراد وقوات المعارضة السورية، راح ضحيتها عشرات القتلى، والتي أخذت بعداً إقليمياً.
وعلى الرغم مما شهدته الفترة الأخيرة من نجاح قوات الأسد في تنفيذ هجوم مضاد لإبعاد المعارضة عن محيط العاصمة دمشق، واستعادة السيطرة على عدة بلدات قرب الحدود مع لبنان، فإن قوى المعارضة استطاعت أن تحرز تقدما على الأرض بإعلانها السيطرة على مطار منغ العسكري الذي يقع على الطريق بين حلب وتركيا، الأمر الذي يعزز قبضة سيطرة المعارضة على طريق إمدادات مهم إلى الشمال من مدينة حلب التي لا تزال السيطرة عليها منقسمة بين النظام والمعارضة، فضلاً عن التقدم الذي تسعى إلى إحرازه المعارضة في "اللاذقية" التي تعد معقلاً للعلويين، والتي ظهر فيديو للواء سليم إدريس الذي يقود المجلس العسكري الأعلى بث على الإنترنت في 11 أغسطس 2013 ، وهو يزورها في إشارة إلى سيطرة المعارضة.
وفي كل الأحوال، فمجريات الأحداث منذ اندلاع الأزمة السورية تكشف عن التحدي الذي يواجهه الأسد لدى محاولته استعادة سلطته في أنحاء سوريا. كما تكشف عن أن النظام والمعارضة يعيدان التأقلم والتكيف بشكل مستمر مع صراع متصاعد ومتعدد المستويات، حيث يتمتع أحد الطرفين بتفوق مؤقت على الطرف الآخر.
الأبعاد الخارجية للتوازنات الداخلية في الأزمة السورية:
لا شك في أن أطراف الأزمة السورية تراهن بشكل كبير على العوامل الخارجية التي أضحت فاعلاً مؤثراً في ديناميكيات الصراع، حيث يحظى كل طرف بدعم من قبل القوى الخارجية. فمن ناحية، يتلقى نظام بشار الأسد دعماً سياسياً وعسكرياً من قبل روسيا، التي عرقلت ثلاثة قرارات من مجلس الأمن الدولي ضد نظام بشار الأسد، منذ اندلاع الأزمة في عام 2011، ذلك إلى جانب دعم إيران وحزب الله، اللذين يشاركان بقوات فعلية على أرض سوريا. كما تحظى المعارضة أيضا بدعم من قبل الغرب وتركيا ودول الخليج بصفة رئيسية.
ويُلاحظ في حين عدم الإعلان عن وجود خلافات بين القوى الداعمة لنظام الأسد، إلا أن هناك خلافات جوهرية بين القوى التي تدعم قوى المعارضة السورية. فعلى سبيل المثال، مخاوف بعض دول الخليج من طموحات الإخوان المسلمين في الوصول إلى السلطة والسيطرة على العالم العربي جعلت دولا مثل السعودية والإمارات والكويت تنصب مساعداتها على الجماعات السلفية، على عكس جهود تركيا وقطر التي انصبت على دعم قوى الإخوان. وقد شكل ذلك أحد أبعاد الصراع الداخلي بين قوى المعارضة مختلفة التوجهات.
على الجانب الآخر، يأتي تصريح مسعود البارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق في 10 أغسطس 2013 ، بأن الإقليم مستعد للدفاع عن الأكراد في سوريا، إذا تبين أنهم يتعرضون لتهديد من مقاتلين على صلة بتنظيم القاعدة، مؤشراً على احتمال وجود تدخل خارجي مباشر في الأزمة السورية دعماً لإحدى قوى المعارضة ضد الأخرى.
أيضاً على الرغم من أن الغرب أكد اعتبار تسليح المعارضة أمراً ضرورياً، بعد أن بدأت قوات الأسد وقوات حزب الله عمليات بدا منها أنه يسعى إلى تحقيق مكاسب أخرى على الأرض، من خلال تأمين حزام من الأرض بين العاصمة ومعقله على ساحل البحر المتوسط، فإنه لا يزال هناك قلق من أن تصل الأسلحة إلى فصائل، مثل جبهة النصرة التي تعد واحدة من أكثر جماعات الثوار تأثيراً، وعدتها الولايات المتحدة في ديسمبر 2012 جماعة إرهابية، كما قرر مجلس الأمن الدولي في 30 مايو 2013 ضمها إلى قائمة العقوبات للكيانات والأفراد التابعة لتنظيم القاعدة.
ومن ثم، يتضح إدراك عدد من القوى الدولية صعوبة حسم الصراع في سوريا دون تدخل عسكري. فعلى سبيل المثال، صرح قائد الجيش البريطاني، ديفيد ريتشاردز، في 18 يوليو 2013، لصحيفة ديلي تليجراف، بأنه إذا اتخذ قرار سياسي بمحاولة تغيير اتجاه الصراع في سوريا لفرض ضغوط على الحكومة السورية، فإنه سيتعين على بريطانيا التدخل مثلما تدخلت في ليبيا "وهذا يعني أن ندخل حرباً إذا كان هذا ما نبغيه".
ومع ذلك، يمكن القول إن التخوف من تصدير الصراع في سوريا هو ما يصعب السيطرة عليه أو التنبؤ به طرفاً رئيسياً في معادلة التحركات الدولية، وهو ما أكده الجنرال مارتن ديمبسي، رئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات المسلحة الأمريكية في 22 يوليو2013 " لا يكفي أن نغير فقط موازين القوة العسكرية...يجب أن نتوقع، وأن نكون مستعدين للتداعيات غير المقصودة لأفعالنا".