15 أغسطس 2013
عرض: طارق راشد عليان، باحث في العلوم السياسية
أصبحت الطائفية عنصرًا جديدًا في تفاعلات منطقة الشرق الأوسط، حيث تحولت في بعض الحالات إلى أداة من أدوات الزعماء السياسيين في الصراع مع معارضيهم، كما الحال في النموذج السوري الذي أطلت فيه الطائفية برأسها على الصراع وزادته تعقيدًا.وفي هذا السياق، تأتي أهمية تحليل نشرته مجلة "ناشيونال إنترست" لـ"سكوت هيلفشتاين" حول صعود نجم الطائفية الشعبية في الشرق الأوسط، إذ يقول إن القادة السياسيين في المنطقة أصبحوا ينزعون إلى توفيق مواقفهم مع التوجهات الطائفية للظهور بمظهر الداعمين لجمهورهم، بما يؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار الإقليمي في الشرق الأوسط.
ويضيف هيلفشتاين قائلا: إن الأحداث الجارية في سوريا دفعت المنطقة باتجاه الطائفية الشعبية إثر الربيع العربي في أتون لا خيارات للخروج منه تلوح في الأفق. فبينما تنهار سوريا، ستبحث إيران عن حليف جديد بالمنطقة. وستزداد العراق قلقًا بشأن استقرارها الإقليمي، خاصة إذا ما سيطر السنة على الأجزاء السورية إلى جوارها، بينما ستواجه الأردن وتركيا ولبنان ومصر على الأرجح آثارًا غير مباشرة على الاقتصاد الوطني من شأنها أن تفضي إلى المزيد من الاضطرابات السياسية.
ووفقًا للتحليل، فإن تنامي الإحساس بالطائفية في المنطقة يدفع الحكومات إلى القوى المحلية التي يمكنها تقديم خدمات حقيقية لهم، بينما تظل المؤسسات الديمقراطية الناشئة تعاني من غياب الدعم المجتمعي لها. وطالما أن النشطاء المحليين عادةً يلتزمون بمسارات طائفية، فإن ذلك من شأنه تعميق الإحساس بالطائفية في العديد من المجتمعات.
التأثير والطائفية والعنف
ويرى الكاتب أن أخطر استقطاب طائفي على الإطلاق في سوريا. ففي الخامس والعشرين من مايو، تعهّد حسن نصر الله -زعيم حزب الله- بدعم بشار الأسد. ولو أن ذلك التصريح لم يكن مفاجأة في ظل الدليل القولي على أن مقاتلين لبنانيين وآخرين من حزب الله يتسللون إلى سوريا، فقد كان أول تصريح عام بالدعم لبشار. ومن المتوقع أيضًا أن يحدث موجة من الاستعراض الطائفي.
ولم يتوانَ الشيخ يوسف القرضاوي، وهو رجل دين مصري، عن مواجهة تلك التصريحات. ففي الثاني من يونيو 2013، دعا القرضاوي للجهاد في سوريا، مؤكدًا أنه فرض عين على كل مسلم، وذلك في جمع من الناس في الدوحة. واتهم القرضاوي إيران بإرسال مقاتلين لدعم نظام الأسد، بينما لم يحرك السُنة ساكنًا. وانقلب موقف القرضاوي رأسًا على عقب من حزب الله حيث دَرَجَ تاريخيًّا على دعمه لذلك التنظيم. وبلغ به الأمر أن أطلق على حزب الله "حزب الشيطان".
وتصاعدت نبرة الحرب الكلامية التي انحصرت في عدد من كبار المشايخ بقدر أكبر؛ حيث أدلى مفتي السعودية بدلوه في السادس من يونيو. ولم يدعُ الشيخ عبد العزيز آل الشيخ للجهاد في سوريا، لكنه أعلن عن دعمه للشيخ القرضاوي. وإذ أعلن عن اتفاقه الصريح مع موقف القرضاوي بشأن حزب الله، فقد وصف الشيخ عبد العزيز حزب الله بـالحزب "الكريه الطائفي"، ودعا رجال الدين المسلمين إلى اتخاذ موقف مناوئ لحزب الله. ولعل موقف المؤسسة الدينية السعودية سيكون محوريًّا مع مرور الوقت.
وبينما يُنحي حسن نصر الله باللائمة على السعودية لوجود مقاتلين أجانب من السُنة في سوريا، ويزعم أن حزب الله يدافع عن الشيعة ضد المتطرفين، استمر العنف الطائفي في التصاعد في المنطقة بأسرها. وقُتل أكثر من ألفي شخص في العراق منذ شهر أبريل الماضي. وقتلت المليشيات السُنيّة في مدينة صيدا اللبنانية الساحلية عشرين من أعضاء القوات اللبنانية المسلّحة في الرابع والعشرين من يونيو.
وجاء هذا الهجوم بعد أسابيع قليلة من إجازة الجهادي الكبير أبو منذر الشنقيطي الهجوم على حزب الله في لبنان، حتى ولو ترتب على ذلك سقوط قتلى مدنيين. وكتب ما مفاده أن الوقت قد آن لشن حرب طائفية شاملة.
ماذ لو سقطت سوريا؟
هناك مثل قديم في الشرق الأوسط مفاده أن لا حرب بدون مصر، ولا سلام بدون سوريا. ولكن ماذا لو سقطت سوريا؟. من وجهة النظر الغربية المحايدة، من الصعب الوقوف على أية نتائج مواتية للصراع السوري. فإذا احتفظ الأسد بالسلطة، ربما عاد ذلك على المنطقة بشيء من الاستقرار، لكنه استقرار سيحصد في طريقه ضحايا كُثُر. وسيسدد أيضًا ضربة قوية لسمعة الغرب، ويمكن حزب الله أكثر من لبنان.
أما إذا سقط النظام السوري، فإن التبعات ستكون مؤسفة على أقل تقدير. فقد تحل محله سلطة علمانية، ولو أن ذلك السيناريو تقل أرجحيته تدريجيًّا، بحسب الكاتب. فالطبيعة الطائفية للصراع تخدم المتطرفين الدينيين الذين يقومون بمهمة رائعة من حيث تقديم الخدمات الاجتماعية خلال الصراع المحتدم. وصعودهم إلى سُدة الحكم من الأرجح أن تنحرف بالأحداث إلى منعطف خطير بالنسبة للعلويين، وربما يقدم ملاذًا آمنًا للسلفيين الجهاديين للتدريب وشن الهجمات.
بدلا من هاتين التبعتين المتطرفتين، يرى التحليل أن من المحتمل أن تنهار سوريا ببساطة، وتنقسم بين العرقيات المختلفة. وسيحتفظ العلويون بمنطقتهم الشيعية على طول الساحل، والتي سيؤمّنها لهم إما ترسانة الأسلحة غير التقليدية الخاصة بنظام الأسد أو شريك دولي كإيران. أما الأكراد فسيسعون إلى تأسيس منطقة شمال شرق البلاد، بينما سينصب تركيز الدروز على الجنوب الغربي. وسيبسط السُنة سيطرتهم على المنطقة المركزية على أن يشق تأثيرهم طريقه عبر الحدود العراقية وحتى محافظات الأنبار ونينوى وصلاح الدين.
وبغض النظر عن التبعات المرتقبة، فإن الحرب في سوريا بدأت بالفعل في إحداث شق جغرافي-سياسي شديد في المنطقة، بحسب الكاتب. وتقف إيران، القوة الشيعية العظمى في المنطقة، موقف المتفرج، بينما تنهار سوريا حليفها الصنديد من خارطة التأثير. وبينما يذوي نجم التحالف الثلاثي المكون من إيران وسوريا وحزب الله، ستبحث إيران بطبيعة الحال عن شركاء جدد ليحلوا محل سوريا. ومن قبيل المصادفة أن ثمة حكومة شيعية إلى جوار إيران.
فالتأثير الإيراني في الحكومة العراقية الناشئة موثّق بالفعل، ويوحي الدليل القولي بأن شيعة العراق يقاتلون بالفعل في سوريا. وربما أن الحكومة العراقية تعمل عن كثب مع الإيرانيين بالفعل.
إذا كانت الحكومة العراقية تتحرك أكثر باتجاه إيران، فإن هذا التحرك له أسبابه الوجيهة، برأي الكاتب. فبعيدًا عن السلالة الشيعية المشتركة، من المتوقع أن تخسر الحكومة العراقية الكثير في حال سقوط الأسد أو سقوط سوريا. ومن الأرجح أن تُمثل سوريا المحكومة من قبل السنة أو الدولة الخاضعة لسيطرة السُنة في الأجزاء المركزية والشرقية من البلاد تحديًا خطيرًا للاستقرار الإقليمي للعراق الحديث. فطالما كانت منطقة الأنبار في غرب العراق صعبة المراس وعصية على الحكم، وهو ما أدركته قوات التحالف.
ولا شك أن السُنة في الجزء الغربي من العراق سيرتاحون أكثر في التعامل مع الحكومة السُنيّة في حلب عن التعاطي مع حكومة شيعية في بغداد. وقد يدفع ذلك بالفعل الحكومة العراقية الناشئة باتجاه استرضاء كل من إيران وجمهورها الشيعي. وفي هذه الحالة تتلاقى الشعبية الطائفية مع السياسات الجغرافية.
الضغوطات الطائفية على تركيا
ومن المرجح أن تتسبب حالة عدم الاستقرار في كل من العراق وسوريا في ضغوط على تركيا التي ربما تشجب "اللعبة الطويلة". وتتعاطى تركيا حاليًّا مع الرغبات الانشقاقية لسكانها الأكراد. فكل من العراق وسوريا لديهما سكان أكراد في شمال البلاد وفي أماكن تتقاطع مع الحدود الجنوبية التركية. وقد شنّ حزب العمال الكردستاني حملة عنف منذ عام 1974. ومن المتوقع أن حالة عدم الاستقرار في سوريا التي تؤجج الطائفة السنية ستزيد من رغبة الأكراد في الأمن والحكم المستقل في البلدان الثلاثة.
وهنالك تبدأ السياسات الجغرافية في المزاوجة بين شركاء غرباء، فبينما من المرجح أن تخلق سوريا الخاضعة لحكم السُنة أو يخلق سقوط الدولة بالكامل مشاكل بطول الحدود الجنوبية، فإن تركيا تدعم الثوار السُنة ضد نظام الأسد. ومرة أخرى، فإن ذلك يتسق مع التوجهات الطائفية في ظل دعم الحكومة التركية لشركائها السُنة ضد شيعة حكومة الأسد. ومن الواضح أن تركيا تتبنى استراتيجية امتطاء الدولة، دولة الأسد المتاخمة لها والنظام الشيعي أولا، وبعدها تتعاطى مع تبعات السلفيين الجهاديين وطموحات الأكراد لاحقًا. ويمكننا القول إن هذا السيناريو قد لا يؤتي ثماره، بحسب التحليل.
وأوضح الكاتب أن تركيا ليست الدولة الوحيدة العالقة في مواقف لا تحسد عليها في حال انهيار سوريا. فالأردن استقبلت حتى الآن حوالي نصف مليون لاجئ نتيجة الصراع في سوريا، وهو العدد المهول في دولة لا يتجاوز تعداد سكانها 6.5 ملايين نسمة، وإجمالي ناتج محلي يبلغ تقريبا 37 مليار دولار.
إن مشكلات اللاجئين ليست غريبة على الأردن نظرًا للتوترات الإسرائيلية الفلسطينية التاريخية على حدودها الغربية. وتضيف قضية اللاجئين بُعدًا آخر للضغوط يضاف للمشهد السياسي الأردني المضطرب. لقد صمد الملك عبد الله حتى الآن في مواجهة العاصفة، لكن مزيج الضغوط الخارجية والداخلية يجعل الأردن أقل استقرارًا مما كانت عليه طوال عقود ماضية.
وللمملكة العربية السعودية أيضًا مصلحة ويد في سوريا. فبينما تنأى السعودية بنفسها عن أرض المعركة، من الصعب أن يلتزم النظام الحاكم الصمت في مواجهة الدعم الإيراني ودعم حزب الله لنظام الأسد. وبينما تلقي سوريا باللائمة على السعودية بسبب الصراع الدائر، وتدفق المقاتلين الأجانب السُنّة، أخذ السعوديون في ممارسة ضغوط من أجل تسليح المعارضة السورية. ولا شك أن النظام الملكي سيخسر مصداقيته داخليًّا إذا لم يحرك ساكنًا، وسمح بقتل المعارضين السُنة على يد قوات الأسد دون أدنى محاولة لمد يد العون لهم. ومرة أخرى، تدفع الشعبية الطائفية باتجاه الصراع، وتوحي تصريحات المفتي بأن السعودية ليست مستعدة للتواني عن مضاهاة القوة الإيرانية.
ومن المرجح أيضًا، وفقًا لتحليل المجلة، أن تواجه مصر ضغوطًا مجددًا بالتزامن مع زيادة الاضطرابات الطائفية. وقد يشعر ساسة آخرون بالحاجة إلى تبرير موقفهم الشعبي الطائفي لأغراض البقاء السياسي، لكن ذلك لا يبشر بضرورة الحال بالخير في سياق الاستقرار الداخلي أو الإقليمي بحسب المعلومات التي وردت إلى مصر. إن الأحداث التي تضمن التمكين للجانب المحافظ من الطيف السياسي قد تجعل من الصعب بمرور الوقت السيطرة على أكثر العناصر تطرفًا بمن فيهم العناصر المنتشرة في سيناء.
واشنطن وطهران.. شركاء الصراع
ومع ذلك، لم نأتِ على ذكر أغرب الشركاء -يقول الكاتب- ألا وهما الولايات المتحدة الأمريكية وإيران. فإذا سقط نظام الأسد وحلّت محله حكومة سُنيّة، أو إذا انهارت سوريا بالكامل؛ سيتعرّض الشيعة العلوية للخطر. فكلما طال الصراع، كان من الأرجح أن يسعى الطرف المنتصر إلى الانتقام من الطرف الخاسر. وإذا سقط نظام الأسد، وهو ما تبغاه الولايات المتحدة الأمريكية منذ زمن طويل، ووصل السُنة إلى سُدة الحكم؛ فسيكون من مصلحة واشنطن وطهران حماية الطائفة العلوية من القتل. ونادرًا ما يوضع البلدان في موقف يتطلب حماية مصالح مشتركة بينهما، لكن هذا الموقف يمكن أن يدفعهما لذلك، برأي الكاتب.
وتوحي الأحداث التي جرت على مدار الشهر الماضي في سوريا والإقليم بأسره بأن كل المفارقات ستقدم شيئًا جديدًا وتطمس قديمًا. وبدلا من توقع الأفضل والتخطيط للأسوأ، يرى سكوت هيلفشتاين في تحليله أنه يتعين على صُنّاع السياسة التركيز على الانخراط في منطقة تحكمها بشكل متزايد الأجندات الشعبية والمصالح الطائفية، مقارنة بالأنظمة السياسية الديمقراطية أو المطلقة أو العلمانية أو الدينية.