واقع الأمر في مصر يؤكد أنه لا أحد من أطراف الأزمة لديه خطة واضحة للمستقبل، وبالتالي لم تتحدد معالمه بعد، صحيح هناك خريطة طريق سياسية أعلنها وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي، وتوافق عليها المجتمع باستثناء الإسلاميين، إلا أن الأوضاع على الأرض تشير إلى أن الفرقاء يلعبون السياسة بنظرية «اللي تكسب به إلعب به»، أو «التجربة والخطأ»، أو «المكسب سيأتي بأرباح أخرى والخسارة ستقود إلى خسائر جديدة».
حتى الآن لا يبدو أن طرفاً لديه رؤية لما هو قادم، وإذا ما مضى الرئيس الموقت ومعه الجيش والقوى المدنية، مستندين إلى الزخم الشعبي الذي ظهر في 30 حزيران (يونيو) و3 و26 تموز (يوليو)، في خريطة الطريق وعُدل الدستور وأجريت انتخابات برلمانية ثم رئاسية لا أحد يضمن تأمين تلك المراحل أصلاً ولا السير فيها، وإذا تأمنت فماذا عن ردود فعل المستبعدين أو المقاطعين وتأثيرها على البلاد. كذلك فإن الارتباك في التعاطي مع قضية الاعتصام في رابعة والنهضة والمسيرات في مختلف الأنحاء لا يبشر أصلاً بنجاح في السير بخريطة الطريق حتى النهاية.
عموماً لم تستغل غالبية القوى الفاعلة على الساحة المصرية من مكتسبات الثورة إلا ما هو سيئ بل قل الأسوأ، وأعتقد أن متابعي السياسة وكذلك الإعلام، الذي يلاحقها أو أصبح جزءاً فاعلاً فيها منذ إنطلاق الثورة، تعرضوا كما لم يتعرضوا من قبل لمثل هذا الكم من البذاءات والشتائم والإدعاءات والأكاذيب والتحريض والتعريض والانفلات والضلال والمتاجرة وركوب الموجات وتبديل وتغيير المواقف وضرب القيم كما حدث منذ سقوط نظام حسني مبارك. أصبحت السياسة في مصر تمارس للاستحواذ لمصلحة الجماعة أو الحزب أو الفريق أو الجبهة أو الزعيم، وكذلك لإقصاء المنافسين واستبعادهم ونفي وجودهم من الأصل، وفي سبيل تحقيق هذا الهدف «النبيل» مورست كل أشكال الترهيب والترغيب، وانتهكت الأعراف والتقاليد وجرت المتاجرة بالدين والشعارات، وحتى التاريخ الذي حُرف لمصلحة هذه الجهة أو تلك لتحقيق هذا الغرض أو ذاك. بطبيعة الحال لم يقتصر الأمر على بعض المصريين من ذوي الايديولوجيات أو حتى أصحاب الادعاءات الدينية أو السياسية وإنما امتد أيضاً إلى حلفائهم في الخارج، أو كل أصحاب المصالح الذين جيشوا وجندوا ومولوا ودعموا وساندوا بالحق والباطل مادياً أو معنوياً، سياسياً أو إعلامياً، فريقاً ضد آخر، ونظاماً ضد شعب، وجماعة ضد جيش!! يقولون إن هذا هو حال البلاد بعد الثورات وأن المجتمعات التي تشهد تغيرات اجتماعية وسياسية واقتصادية تعاني عادة انفلاتاً أمنياً وأخلاقياً وصراعات سياسية وبروزاً للتدني والانحطاط وتوارياً للنزاهة والشفافية والأمانة والصدق، وأن الديكتاتورية والكبت يولدان بعد زوالهما مشكلات يتم حلها أو تجاوزها بعد فترة، لكن واقع الحال في مصر يشير إلى أن نتاج الثورة حتى هذه اللحظة كان سلبياً على غالبية المواطنين مقابل الذين استفادوا، من دون استثناء تيار أو فئة، وقفزوا إلى واجهة الأحداث وصاروا يحركون الأمور ويتحكمون في أمن الشارع والوطن ولديهم القدرة على الحشد أو تغييب وعي الناس والضحك على الذقون واللعب في العقول، الذين يتنفسون الكذب ويحترفون الخداع ويصعدون إلى القمة وتحتهم جثث الشهداء وأجساد الجرحى وآلام الفقراء ومعاناة شعب تصور حين لبى نداء الثورة أنه سيحقق عيشاً كريماً وإنسانية لأولاده وأحفاده وحرية لا تعني أبداً التحريض على القتل أو بيع البلد لمن يدفع أكثر أو تبديل المواقف بحسب العائد والفائدة!
ملخص المشهد في مصر الآن: إسلاميون لديهم الاستعداد للقتال من أجل «المشروع الإسلامي» الذي لم يحققوا منه شيئاً طوال سنة من حكمهم، وداخلهم جماعة أخطأت كثيراً من دون أن تقر بخطأ، ويعاند قادتها ورموزها الآن، ويستخدمون كل الأساليب تحدياً للفشل الذي وقعوا فيه ومارسوه ومستمرون فيه، وقوى مدنية هزيلة تنتظر المكاسب دائماً من دون جهد أو نضال أو حتى مجرد طرح رؤى للمستقبل، أو المساهمة في حل مشكلات المجتمع أو الأزمة التي تعاني منها البلاد الآن، بل المدهش أنها نفسها من تتاجر بالأزمة وتسعى إلى المكسب من ورائها، وحكومة ضعيفة مرتبكة تضم في تشكيلتها كل الأعمار والألوان والاتجاهات والأهداف، فجاء أداؤها بهذا الشكل من الاهتراء والضعف والتردد، وجيش سعى إلى الحفاظ على كيان الدولة منذ انطلاق الثورة، أخطأ قادته في المرحلة الانتقالية ولو بحسن نية، لكن أخطاءهم ترتب عليها كوارث، وحين سعى بعد حكم الإخوان إلى تصحيح الأخطاء وتداركها وجد أخطاء الآخرين تحيطه أو تستغله أو تربكه، وهو يواجه خطر الإرهاب في سيناء ومؤامرات قوى خارجية تصطاد في الماء العكر، وفساداً سياسياً من المتصارعين على السلطة يزيد دائماً الماء عكارة.
------------------
* نقلا عن الحياة اللندنية، الإثنين 12/8/2013.