لا شك في أن الأحداث التاريخية التي وقعت في مصر وأبرزها على الإطلاق سقوط حكم «الإخوان المسلمين» نتيجة موجة ثورية ثانية لثورة 25 كانون الثاني (يناير) تمت في 30 حزيران (يونيو) بتوقيع غالبية الشعب المصري، يثير عديداً من الأسئلة البالغة الأهمية والتي لا تتعلق بالحاضر فقط ولكنها تمس المستقبل أيضاً.
ويمكن القول من دون أدنى مبالغة أن الخروج الشعبي الكبير والذي تمثل في تدفق ما لا يقل عن 20 مليوناً من المصريين إلى الميادين والشوارع استجابة لحركة «تمرد» في 30 يونيو لإسقاط حكم «الإخوان»، حدث تاريخي نادر ليس له سابقة في التاريخ المصري الحديث، بل إنه – كما عبر عديد من المراقبين الغربيين - ليس له سابقة في تاريخ العالم.
وقد خرجت الملايين بعد أن تم توقيع أفرادها الموثق على استمارة حركة «تمرد»، والهدف كان محدداً وهو إسقاط حكم «الإخوان المسلمين» المستبد الذي عصف بالحريات السياسية، ومارس القمع المنظم للأحزاب السياسية المعارضة، ودخل في عداء مع مؤسسات الدولة الأساسية، وفي مقدمها القوات المسلحة والقضاء والإعلام والرموز الثقافية والفنية. وقد بادرت القوات المسلحة المصرية لدعم الإرادة الشعبية بعد أن كانت أصدرت تحذيراً للدكتور محمد مرسي بأن عليه أن يحاول التوافق السياسي خلال أسبوع مع قوى المعارضة، وتحذير آخر مدته ثماني وأربعون ساعة، ولم يتحرك إلى أن وقعت الواقعة في 30 يونيو.
وقد بادرت القوات المسلحة في مواجهة الانهيار السياسي للنظام إلى إصدار قرار بعزل رئيس الجمهورية وإعلان خريطة طريق بعد تعيين رئيس المحكمة الدستورية العليا رئيساً موقتاً للجمهورية، وتشكيل وزارة جديدة، وتعديل الدستور، وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية خلال مدة لا تتجاوز ثمانية أشهر.
وهكذا سقط حكم «الإخوان المسلمين» نتيجة أسباب متعددة، أبرزها عجز الدكتور محمد مرسي الرئيس السابق لحزب «الحرية والعدالة» والذي أصبح رئيساً للجمهورية عن إدارة الدولة، وفشله الذريع في إقامة توافق سياسي يضمن استقرار المرحلة الانتقالية من حيث وضع دستور توافقي تشارك فيه كل الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني والممثلون الحقيقيون للشعب المصري.
وإذا أضفنا إلى ذلك السعي المنهجي لجماعة «الإخوان المسلمين» في مجال «أخونة الدولة وأسلمة المجتمع» من خلال الدفع بكوادرها لتشغل المناصب الرئيسية في مفاصل الدولة جميعاً، ومحاولة فرض قيمها المعادية للحداثة على المجتمع، وفشل الحكومة الإخوانية في حل المشكلات الجسيمة التي تواجه البلاد، يمكن ان نستنتج أن سقوط حكم جماعة «الإخوان» كان محتماً، وإن لم يتصور أحد أن يتم بهذه السرعة نتيجة للرفض الشعبي العارم من ناحية، والدعم الإيجابي للقوات المسلحة من ناحية ثانية.
السقوط المدوي لحكم «الإخوان المسلمين» يطرح سؤالاً جوهرياً: هل هو مجرد فشل سياسي أم هو سقوط تاريخي بكل ما تحمله هذه العبارة من معان لها دلالات مهمة؟
لكي نجيب عن هذا السؤال المحوري علينا أن نفرق تفرقة واضحة بين الفشل السياسي للنظم أو الأحزاب، والسقوط التاريخي للإيديولوجيات السياسية.
يمكن القول إن ظاهرة الفشل السياسي معروفة في ممارسات كل النظم السياسية، شمولية كانت أو سلطوية أو ليبرالية.
والفشل السياسي يمكن أن يرد إلى أسباب عدة. فقد يحدث لأن توجهات صانع القرار لم تكن صحيحة في منطلقاتها، أو أن أدواته التي اعتمد عليها لم تكن مناسبة لتحقيق أهدافه الاستراتيجية، اي أنه تجاهل رد الفعل المتوقع على القرار، سواء على الصعيد الدولي أو على الصعيد الإقليمي الوطني.
والأمثلة التاريخية على الفشل السياسي في ممارسة الأنظمة المختلفة لا حصر لها، إضافة إلى فشل الأحزاب السياسية وممثليها في مجال المنافسات الانتخابية البرلمانية والحزبية.
ولكي نوضح الفكرة نضرب أمثلة على الفشل السياسي من واقع أنظمة سياسية مختلفة وفي مراحل تاريخية متعددة.
ويمكن القول إن القرار الأميركي بغزو فيتنام في إطار الصراع مع الحركة الشيوعية العالمية والذي أدى في النهاية إلى هزيمة أميركية ساحقة، كان نموذجاً صارخاً للفشل السياسي لممارسة نظام ليبرالي في مجال العلاقات الدولية.
ولو نظرنا الى العالم العربي لقلنا أن القرارات الخاطئة للقيادة الناصرية قبيل حرب حزيران (يونيو) 1967، كانت نموذجاً للفشل السياسي في ممارسة نظام سلطوي لأنها أدت إلى هزيمة ساحقة للقوات المصرية.
أما في مجال الفشل السياسي الذريع لبعض الأحزاب السياسية في الديموقراطيات الغربية في مجال الحصول على الغالبية في الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية فهناك أمثلة متعددة، لعل أبرزها فشل الحزب الاشتراكي الفرنسي بقيادة ليونيل جوسبان في النجاح في الانتخابات الرئاسية ونجاح جاك شيراك اليميني، مما أدى إلى استقالة جوسبان من رئاسة الحزب بل واعتزاله السياسة اعترافاً بمسؤوليته عن الفشل. ولا نريد أن نقف طويلاً عند الأمثلة الأجنبية عن الفشل السياسي، لأن جماعة «الإخوان المسلمين» قدمت لنا أبرز نموذج لهذا الفشل، بعد أن أتيح لها- نتيجة الأخطاء الجسيمة التي تمت أثناء المرحلة الانتقالية التي بدأت عقب سقوط نظام حسني مبارك- أن تحصل على الأكثرية في مجلسي الشعب والشورى، ثم أن تدفع برئيس حزبها (الحرية والعدالة) الدكتور محمد مرسي ليكون مرشحاً في الانتخابات الرئيسية وينجح فعلاً –نتيجة أخطاء شتى ارتكبتها النخبة الليبرالية- في أن يصبح رئيساً للجمهورية وإن كان بفارق ضئيل للغاية مقارناً بمنافسه الفريق أحمد شفيق.
منذ أن تولى مرسي رئاسة الجمهورية كان ذلك إيذاناً ببداية مرحلة الفشل السياسي لجماعة «الإخوان المسلمين»! فالقيادي الإخواني الذي رفع في مرحلة ترشحه للرئاسة شعار «مشاركة لا مغالبة»، بمعنى أن فلسفته وفلسفة جماعته في حال الفوز ستكون التوافق السياسي، إذا به بعد أن أصبح رئيساً يقلب المعادلة ويصبح الشعار «مغالبة لا مشاركة»!
وقد ترجمت جماعة «الإخوان» هذا الشعار في الإقصاء الكامل لكل الأحزاب السياسية المعارضة عن دائرة صنع القرار، إضافة حتى إلى حليفها وهو حزب «النور» السلفي. ومارست الجماعة منهج الانفراد المطلق بالسلطة، والسعي إلى غزو الفضاء السياسي المصري بالكامل وذلك بالسيطرة على مجلسي الشعب والشورى. وبعد ذلك الهيمنة الكاملة على اللجنة التأسيسية لوضع الدستور، والإصرار على وضع دستور غير توافقي، وفرض استفتاء عليه مشكوك في شرعيته.
وقد أدت ممارسات رئيس الجمهورية المعزول الدكتور محمد مرسي في مجال الإخلال بثوابت الأمن القومي، إضافة إلى اعتدائه المستمر على السلطة القضائية، ومعاداته للإعلام بل وللمثقفين وإصداره إعلاناً دستورياً أعطى فيه لنفسه كل السلطات، إلى أن يدرك الشعب المصري أن حكم جماعة «الإخوان» الذي يستند إلى شرعية شكلية تقوم على نتائج صندوق الانتخابات ليس سوى حكم استبدادي صريح من شأن استمراره هدم كيان الدولة المصرية ذاتها.
وهكذا يمكن القول إن الخروج الشعبي الكبير في 30 حزيران (يونيو) كان إعلاناً جهيراً بالفشل السياسي المدوي لحكم جماعة «الإخوان المسلمين»، ولكن أخطر من ذلك كله أنه دليل مؤكد على السقوط التاريخي لمشروع الجماعة والذي يتمثل في هدم الدولة المدنية وإقامة دولة دينية في مصر تكون هي الأساس في المشروع الوهمي الخاص باستعادة الخلافة الإسلامية.
ولكي نفهم أسباب السقوط التاريخي للإيديولوجيات السياسية المتطرفة كالنازية والفاشية والشيوعية لا بد لنا أن نحلل بعمق أسباب سقوطها ليس فقط لتعارضها الكامل مع مسار تاريخ التقدم الإنساني، ولكن أيضاً للضعف الكامن في بنيتها الفكرية.
------------------
* نقلا عن الحياة اللندنية، الأحد 4/8/2013.