ضمنت أمريكا، والغرب عامة معها، الصلة القريبة والمباشرة بمصر وكذلك النفوذ والتأثير فيها من خلال القوتين “الصديقتين” لها فيها وهما الجيش المصري والإخوان المسلمون . هذا منذ ما بعد عبد الناصر، وما كان يتكرر في أولويات وما كان معروفا من بديهيات تستحضر دائما حول السياسة الغربية في مصر . إن خروج الجيش المصري على المستوى الوطني عن حدود الدور المتوقع منه غربيا أو المسموح به قد غير من الضمان الذي كان أكيدا وذلك في إحدى كفتي المعادلة . لقد ظهر عامل آخر له قوته الساحقة وهو الشعب وإرادته وصوته، فكيف إذا اقترن أيضا باصطفاف الجيش مع قوة الشرعية هذه . لقد أخذت مصر بالتطورات الأخيرة هذه وبتنحية “الإخوان” منحى جديداً مربكاً للغرب حاول مواكبته وعدم إبداء رأي صريح أو ناقد أو معارض له ما دام أنه يحدث في صفة جماهيرية طاغية الغلبة عددياً على الطرف الآخر وهو “الإخوان” .
ما كان حذرا وغموضا ولاموقف غربياً في الأسابيع الأخيرة إزاء ما يحدث في مصر، أصبح يتكشف في الحقيقة عن أنه أمر آني فحسب . فها قد ظهرت الآثار الكاملة في الأيام الماضية لخروج الجيش المصري عن الدور المفترض أو المتصور غربيا بصفته الوطنية واصطفافه مع القوى المناوئة للإخوان وأهم من ذلك كله، لحقيقة ظهور روح وطنية مصرية جامعة تعطي الأمل بما يسمح بالخروج من المأزق وللعب مصر لدورها ولإمكانياتها الاستراتيجية والسياسية بعيداً عن الدائرة الضيقة التي يحصرها الغرب فيها ضمن نفوذه . لا يريد الغرب لمصر الإرادة السياسية الحرة أو الانطلاق بعيدا عن نفوذه خاصة وقد تبين للجميع أن ما حدث من تطورات كان من دون مباركته وتصديقه بل من دون العلم المسبق له .
خطاب وزير الدفاع المصري عبد الفتاح السيسي المتوجه بشيء من “الحميمية” للشعب (حسب الوصف الغربي) والطلب المباشر منه أن يخرج للتأييد والتفويض لمعالجة الإرهاب وجد صداه في الإعلام القريب من دوائر صنع القرار من خلال التعبير عن عدم القبول والتشكيك في الأهداف والتحذير من محاولة التأسيس لنمط زعامة شعبية على المثال الناصري الذي خسر الغرب من ورائه كثيراً . لقد كان هذا الخطاب وما استدعاه من مظاهرات كبرى وما تلاه في الليلة ذاتها من أحداث قتل غير مبررة مناسبة لإعلان تغير منهجي في السياسة الغربية إزاء الحكومة المصرية الجديدة بما يضمن الضغط عليها ومحاصرتها وتحجيم دورها المتوقع شعبياً .
لماذا تصطف مؤسسسات إعلامية غربية عملاقة و مؤثرة مثل ال”سي إن إن” وال”بي بي سي” اصطفافها الغريب وغير الطبيعي وغير المتوقع مع المعسكر الإخواني في رابعة العدوية؟ هل لأن خطاب هذا المعسكر الذي ينفي وجود الإرادة الشعبية المصرية في حدث الثلاثين من يونيو والسادس والعشرين من يوليو هو خطاب يروق للغرب ويريد إعطاءه صدى إعلاميا مؤثرا وكذلك أيضا الخطاب القائم على وصف التغيير الذي حدث في مصر على أنه انقلاب عسكري و”دموي” خصوصا مع سقوط الضحايا من المتظاهرين . يعلنها “الإخوان” حرباً باسم الديمقراطية الغربية ضد الجيش المصري و”تسلطه” و”ديكتاتوريته”، وهذه الحرب هي جزء من رسالة الربيع العربي ضد الجيوش العربية وموقعها في الأمن القومي العربي، ولا يريد الغرب و”الإخوان” معه أن يكون هنالك حضور مستقل للشعوب في صناعة التغيير السياسي والتأثير فيه كما حدث في الثلاثين من يونيو .
الإخوان هم طرف المعادلة الآخر بإزاء الجيش لدى الغرب . لا شك في ذلك، وكان لافتاً أن تصر البارونة أشتون مفوضة الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي على زيارة الرئيس السابق المحتجز والاجتماع معه لمدة ساعتين، وهي الزيارة التي لم تحدث أبدا لرئيس كان صديقا كذلك للغرب ولفترة طويلة . للزيارة ومدتها إيحاءاتها في دعم الإخوان وكذلك تصريحات العديد من المسؤولين الغربيين الداعية إلى إطلاق سراح مرسي الذي يصر هو وجماعته على أنه الرئيس الشرعي، على الرغم من الإطاحة الشعبية به وعلى الرغم من الواقع السياسي الجديد .
لقد إستنجد “الإخوان” بالغرب قائلين إنهم ضحايا الانقلاب على الديمقراطية وشهداؤها وذلك في نداءات العديد من زعمائها كان آخرهم البلتاجي . ولقد جاءت النجدة الغربية بالفعل وكان لها أثر مد الرقعة التي يقف عليها الإخوان سياسيا وإعلاميا . تتوالى الزيارات لمسؤولين غربيين إلى مصر، فبعد أشتون سوف يأتي عضو الكونغرس الأمريكي المعروف بصفقاته مع الإخوان جون ماكين والذي أعلن مقدما المحتوى الابتزازي لزيارته موجها خطابه للحكومة المصرية بعامة وللسيسي بخاصة: سجنكم للقادة السياسيين (من الإخوان) يحمل المخاطرة باعتباركم قادة “انقلاب عسكري” . هل كانت الإدارة إذن في وضع المحتار والباحث في تشخيص التغير السياسي في مصر وفيما إذا كان “ثورة” أو “انقلابا” أم أنها كانت تبحث عن الفرصة والوقت الأفضل لحشر الحكومة المصرية في زاوية الاتهام بالانقلاب ومحاولة معاقبتها جراء هذا الزعم وشل حركتها في الصراع الدائر مع الإخوان على الأرض .
لقد اكتسب الإخوان أرضية سياسية أوسع فيما أصبحت الحكومة المصرية في وضع المشلول والمقيد، وأصبح من الصعب عليها بالفعل أن تقتلع الإخوان من معسكرهم في رابعة العدوية أو في النهضة . إن دلالات ما يحدث في مصر تنعكس مباشرة على الخريطة العربية وحضور جماعة الإخوان السياسي فيها ووجودهم على رأس حكومات مثل تونس وليبيا . ولن يسمح الغرب، كما يبدو في مصر الآن، بتحديد الدور الإخواني وتأطيره بشكل يغاير وضعه السابق، ما دام هذا الدور في مصر مثلا هو المعادل التقليدي للجيش في نظر الغرب، هذا الجيش الذي تدور المحاولات كلها إلى إعادته لمواقعه السابقة على 30 يونيو .
------------------
* نقلا عن دار الخليج، الخميس 1/8/2013.