16-7-2013
تشير كل الدلائل إلى أن هناك فرصة لبناء علاقات مصرية - خليجية أقوى بعد 30 يونيو 2013 ، وانتهاء حكم الإخوان المسلمين، تتلافى العيوب التي شابتها في ظل حكم الرئيس الأسبق مبارك، وتتفادى المأزق الذي مرت به في ظل حكم الرئيس السابق مرسي. ولكن يبقى السؤال: كيف يمكن اغتنام هذه الفرصة؟، وكيف يمكن فك طلاسم وأسرار اللغة والرموز الخاصة بهذه العلاقات؟.
"شخصنة" مبارك.. وهاجس الإخوان
يعود جانب من أزمة العلاقات بين مصر والخليج في الستينيات والسبعينيات إلى عدم استيعاب مصر لحساسيات النظم الخليجية، وللدور الذي تتوقعه هذه النظم من مصر. ولقد تمكن مبارك من تطوير علاقات خاصة وشخصية مع حكام الخليج، تجاوزت الرسميات، وأسست لعلاقات حميمية بين الأنظمة والأجهزة على الجانبين، وامتدت العلاقات إلى مجالات ونواحٍ غير مسبوقة، تحدث عنها بجلاء وزير الخارجية، أحمد أبو الغيط، في كتابه عن السياسة الخارجية المصرية (شهادتي).
ولكن اكتساب العلاقات طابعا شخصيا في عهد مبارك حمل تهديدا لهذه العلاقات في ظل أي رئيس جديد يأتي بعده، فالحميمية لا تمنحها أنظمة الخليج بالتبعية والوراثة لكل قادم جديد لحكم مصر من دون تقديم أوراق اعتماده.
وفي حواره بالأهرام 16 مارس 2012 ، يقول أ. مكرم محمد أحمد: إن مبارك "كان يشاور السعودية في كل كبيرة وصغيرة، إذا تنفس الهواء يذهب للسعودية، ويقول لـ(الملك) عبدالله". وهذا النمط من العلاقات كان مريحا لحكام الخليج، الذين يقدرون الجانب الشخصي، ويتعاملون في الخارج، وعيونهم على شعوبهم في الداخل، ولم يكن ذلك مؤكدا أن يلبيه الوافد الجديد لحكم مصر، خصوصا إذا كان من خارج المؤسسة.
في ظل حكم مرسي، مرت العلاقات المصرية- الخليجية بمأزق حقيقي، فلا هو امتلك خصائص مبارك الشخصية، ولا تمكن من إبقاء العلاقات عند مستوى التعامل مع مصر الدولة. فقبل أي تعامل من جانبه، ترسخت لدى الخليجيين وجهة نظر مسبقة عن رئيس ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين، وكان ذلك كافيا للتوجس منه. ثم لم يأت الأداء الرئاسي ليبدد هذا الانطباع، وإنما أضاف إليه وعمقه.
لذلك، شهدت العلاقات، خلال السنة الماضية، توترات مكتومة كادت تنفجر، وبدت المسافة بين القاهرة، والرياض، وأبوظبي، مليئة بالعراقيل. ويكفي أنه خلال الفترة (يونيو 2012 – يونيو 2013) لم تطأ أقدام العديد من المسئولين السعوديين أو الإماراتيين أرض مصر، على الرغم من زيارات المسئولين المصريين على أعلى مستوى للبلدين، خصوصا المملكة التي زارها الرئيس مرسي مرتين في يوليو 2012 (وحرص على أن تكون هي الزيارة الأولى له خارج مصر)، وفي يناير 2013 (لحضور قمة منظمة التعاون الإسلامي).
وللحقيقة، فلم يبدأ التوتر بين القاهرة والعاصمتين الخليجيتين مع حكم الإخوان. فمنذ ثورة يناير والإطاحة بمبارك، نشأت حالة من الفتور مع دول الخليج -باستثناء قطر- كشفت عن نفسها مع أحداث السفارة السعودية بالقاهرة في سبتمبر 2011. وكان ذلك مفهوما بالنظر إلى ارتياب دول محافظة إزاء أي تغيير ثوري في الجوار، وفي بلد بحجم مصر، وعلى أثر الإطاحة بصديق حميم، مثل الرئيس مبارك.
لكن هذا الفتور تحول إلى توتر معلن بعد تولي الرئيس مرسي. فقد ظل وجود الإخوان في الحكم مثل حجر جاثم على صدر العلاقات، إلى أن تمت إزاحته في 30 يونيو. ولم تُخف دول الخليج ابتهاجها بالتغيير، فأعلنت عن دعمها لمصر قبل مرور عشرة أيام على عزل مرسي، وأتى وفد إماراتي على أعلى مستوى للقاهرة. وكان حجم الدعم المعلن (12 مليارا) أفضل تعبير عن مدى إحساس هذه الدول بالراحة من إزاحة عبء ثقيل، كاد يهدد حضورها الشعبي في أرض الكنانة.
ولم يكن انهيار تجربة حكم الإخوان بعيدا عن تطورات الداخل الخليجي، وقد برز ذلك في تأكيد الملك عبد الله بن عبد العزيز- خلال كلمته بمناسبة حلول شهر رمضان- أن "المملكة لن تسمح أبدا بأن يُستغل الدين لباسا يتوارى خلفه المتطرفون والعابثون والطامحون لمصالحهم الخاصة"، وهو ما يعد غمزا في قناة الإخوان، وردا تلقائيا في الداخل على تجربة فشل الإخوان في مصر، واستثمارها داخليا في المملكة في التصدي لحجج هذا التيار.
كان الخوف من حكم الإخوان مفهوما، في ظل القلق من إخوان الداخل، والشكوك بشأن أجندة التنظيم الأم في مصر. وعلى الرغم من أن الرئيس مرسي حاول بشتى الطرق تبديد المخاوف، وتقديم صورته كرئيس حريص على احترام الملوك، والتقرب إلى الله بأداء العمرة، كلما زار المملكة، فإنه لم يستطع تجاوز امتحان الثقة، ولم يستوعب كامل الصورة في علاقات الجانبين التي تمكنت على مدى سنين مبارك من إرساء قواعد وأعراف بين أجهزة أصبحت بارعة في التعامل بالهمس، ولغة الإشارة، وهو ما لم يكن بالإمكان عليه تحقيقه أو استيعابه، وهو الذي لم يحظ بثقة الأجهزة المسئولة في بلاده أولا. ومكنت هفوات وسقطات لفظية من جانب أعضاء بجماعة الإخوان من تقديم الأدلة على أجندة إخوانية خفية.
تحولات خليجية بعد 30 يونيو
قد يكون من اللافت أن أحد أهم المكاسب من انتهاء فترة حكم الإخوان أنها سرعت من عودة الدفء للعلاقات المصرية- الخليجية، فلم يكن من المرجح أن تعود العلاقات بهذه السرعة، لو لم تكن مصر قد مرت بتجربة حكم الإخوان، التي أكدت للخليجيين خطورة الابتعاد عن مصر، التي من المؤكد أن تؤثر في الخليج، في ظل أي حال.
وقد أدت تجربة الإخوان إلى تسريع استيعاب الخليجيين للفارق بين مصر الثورة التي يمكن احتواؤها في ظل التوازن بين تياراتها في الداخل، ومصر الإخوان التي لا يمكن موازنتها بأطياف داخلية، لو تمكنت من الاستيلاء على الحكم. وأكدت فترة الإخوان أيضا أن هناك مشتركات بين الخليجيين وتيارات وقوى مختلفة من الشعب المصري، وأن لهم وجودا قويا في مصر قبالة الإخوان. وليس غريبا أنه خلال السنة الماضية، تأكد لدول الخليج وجود ظهير شعبي ووطني تمثل في مئات الآلاف من المصريين الذين عملوا –ويعملون- في الخليج، والذين تلقفوا تصريحات قادة الإخوان المعادية لدول الخليج بالنقد اللاذع.
وتوفر هذه الحالة فرصة لبناء علاقات جديدة تتجاوز شخصنة فترة مبارك، ومأزق سنة مرسي، يساعد على ذلك أن دول الخليج بدأت، خلال السنة الماضية، في فهم وامتلاك أبجديات التواصل مع الداخل المصري بمفاتيحه الجديدة دون غضاضة من قبل الدولة المصرية، ولم يعد تواصلها مع الأجهزة فقط، وإنما مع الشعب والنخبة من كل أطيافها. وهذا البعد الجديد يمكنه أن يخدم علاقات الجانبين، ويزيد العلاقات متانة ورسوخا.على سبيل المثال، فإنه على مدى السنة الماضية، لم تفقد دول الخليج علاقاتها بالأزهر الشريف، وكانت زيارة الشيخ الطيب لكل من السعودية، والإمارات، والبحرين، وسلطنة عمان لافتة، ومثل ذلك بديلا للخليج، في وقت تعثرت فيه العلاقات مع مؤسسة الرئاسة، وكان لافتا تبرع الإمارات بمبلغ ٢٥٠ مليون درهم للأزهر.
كما كان إجراء المناورات العسكرية المصرية- السعودية لافتا أيضا، في ظل أجواء فتور العلاقات مع مؤسسة الرئاسة. ومن المرجح أن وجود الإخوان على رأس الحكم قد أحدث تقاربا بين دول الخليج والتيار القومي والناصري في مصر، على وجه الخصوص، حيث التقى الطرفان على مناهضة حكم الإخوان. ويشير كل ذلك إلى التعامل الخليجي مع الواقع المصري بمدخلاته الجديدة، واستجابة للتحديات البازغة، على نحو لا يسمح بقطع علاقات مصر بالخليج في ظل أي حال.
مستقبل العلاقات المصرية- الخليجية
على مدى الأشهر المقبلة، سوف تتوقف علاقات دول الخليج بمصر على طريقة تعامل الدولة مع الإخوان بعد 30 يونيو، وطبيعة المصالحة الوطنية التي يمكن أن تتم، وحجم المساحة التي سوف يتحرك فيها الإخوان، إذا تحققت المصالحة. فمن المؤكد أن استقرار مصر هو أمر يهم دول الخليج، شريطة ألا يسمح ذلك بتكرار وجود الإخوان على رأس السلطة. وسوف تظل دول الخليج حريصة على عدم تكرار تلك التجربة، وذلك يعني أن المساعدات التي أعلنت عنها السعودية، والإمارات، والكويت قد يجري التراجع عنها، أو تقليصها، أو التباطؤ فيها، إذا لمست هذه الدول أن الإخوان عائدون.
وهنا، ينبغي على الدولة المصرية أن تتحرك في مساحة حساسة وبذكاء، وبما لا يضر بالحاجة إلى الاستقرار الداخلى، والمصالحة الوطنية، وفي الوقت نفسه لا يتعارض مع المصلحة الاستراتيجية في الحصول على الدعم الخليجي.في كل الأحوال، فإن التفضيل الأول لدول الخليج هو عودة الدولة القوية في مصر، التي يهيمن عليها صانع قرار رئيسي مدرك لضرورة الحفاظ على علاقات بلاده الاستراتيجية مع الخليج، وذات أجهزة أمن قومي ضامنة لعدم انعكاس تأثير تفاعلاتها الديمقراطية أو غير الديمقراطية في الإقليم الخليجي، وهذا أمر غير مضمون، سواء بوجود الإخوان أو الليبراليين في الحكم.
ويهم دول الخليج، في المقام الأول، أن تنتج تفاعلات الداخل المصري منتجات رشيدة بشأن علاقات مصر معها، وألا تفرز تجربة مشابهة لتجربة الستينيات الكلاسيكية في العداء للخليج، أو تجربة الإخوان المستبطنة لعداء من نوع آخر، وذلك يمكن الوصول إليه عبر تكريس الوعي، وترشيد القوى والتيارات المصرية الثورية، التي ينبغي أن تستفيد من الأخطاء السابقة، وأن تقيم علاقاتها مع الخليج وفقا للمصالح الوطنية المصرية، وليس وفق المبادئ الطوباوية، أو الثورية الحالمة بالتغيير السريع للواقع في الإقليم.
والسؤال هو: كيف تنجح الثورة في تقديم ضمانات مقابلة لدول المجلس، تعوضها عن الضمانات التي قدمها نظام مبارك؟ هنا، يمكن للثورة، من خلال خبراتها الخاصة، ومن خلال مفاهيم رشيدة، أن تستفيد من الحقبة السابقة، بأن تتوصل إلى أن مبدأ الدعم التلقائي لكل النزعات الثورية ليس صحيحا أو صحيا في عموم المنطقة العربية، وإنما يتوقف حسب كل حالة، وأن حفظ استقرار الدول الوطنية في دول الخليج هو مسألة بالغة الأهمية الاستراتيجية للأمن القومي المصري، ومن ثم لا مجال لتصدير الثورة في مصر.