في الوقت الذي تمر فيه مصر بمرحلة شديدة الحساسية والخطورة، منذ ثورة 25 يناير 2011، وصولا لأحداث 30 يونيو 2013، تتعاظم التحديات الإقليمية التي تواجه السياسة الخارجية المصرية، حيث تضعف قدرة الدولة على مواجهة هذه التحديات بحكم الانشغال بمصير الوطن، والانكفاء على الهم الداخلي. ولا شك في أن استكمال إنشاء سد النهضة الإثيوبي يعد بمثابة أخطر التحديات التي تواجه مصر حاليا ومستقبلا.
فوفقا لتحليلات الخبراء، سوف يؤثر هذا السد في حصة مصر المائية من مياه النيل، وهو الأمر الذي يعد تهديدا مباشرا للأمن القومي المصري. وتلك الأزمة التي تتكشف ملامحها الآن لا تقتصر على الخلاف المصري - الإثيوبي فقط، لكنها تتشابك جذورها بجميع دول حوض النيل، وتشكل تداعياتها خطورة كبيرة على دور مصر ومصالحها في القارة الإفريقية.
وتعود بداية هذا الخلاف إلى الاتفاقية الإطارية "عنتيبي"، التي وافقت عليها حتى الآن ست دول، وهي إثيوبيا، وأوغندا، ورواندا، وتنزانيا، وكينيا، وبوروندي، في حين رفضتها كل من مصر والسودان، لأنها تنهي الحصص التاريخية للدولتين (55.5) مليار متر مكعب لمصر، و(18.5) مليار متر مكعب للسودان، المقررة لهما والثابتة، والتي أكدتها اتفاقية 1959. وتري مصر أن توقيعها الاتفاقية بشكلها الحالي سيحرمها من حقوقها التاريخية المكتسبة في مياه النيل، وسيجردها من مزايا أكدتها اتفاقية 1929، على أساس أن التخلي عن هذه الحقوق سيلحق ضررا بأمنها القومي.
ومن الناحية العملية، أقدمت إثيوبيا على تدشين حجر أساس بناء سد النهضة في 2 أبريل 2011، مستغلة الوقت الذي كانت فيه مصر منشغلة بإعادة بناء نظامها السياسي من جديد، عقب الثورة المصرية، ثم شكلت لجنة ثلاثية تضم مصر، والسودان، وإثيوبيا، وبعض الخبراء الدوليين للنظر في الأضرار المتوقعة من بناء السد على كل من مصر والسودان. واستمرت إثيوبيا في أعمال البنية التحتية، وقامت بتحويل مجري النيل الأزرق، تمهيدا لبدء منشآت السد على مجري النهر دونما انتظار لتقرير اللجنة الثلاثية، الأمر الذي أثار قلق وتوتر الرأي العام المصري من أن يحجب هذا السد عن المصريين مياه النهر الذي قامت عليه حضارتهم منذ فجر التاريخ، بدون أن ينازعهم منازع، مما عد حقا تاريخيا مكتسبا وفقا للقانون الدولي.
فإثيوبيا تجاهلت قواعد القانون الدولي المنظمة لمجاري الأنهار الدولية، مثل قاعدتي عدم الضرر، والإخطار المسبق، وأنكرت كافة الاتفاقيات الدولية التي أقرت حقوق مصر والسودان التاريخية المكتسبة في مياه النيل، منها اتفاقيتا 1929، و1959، وحجتها في ذلك أن معظم هذه الاتفاقيات تمت في عصور الاستعمار، وأنها غير ملتزمة باتفاقيات لم تشارك فيها، وهي بذلك تهدم القواعد القانونية التي قام عليها المجتمع الدولية، ومنها قاعدة التوارث الدولي للحدود والأوضاع الإقليمية.
والخطير في الأمر أن النظام الإثيوبي يجعل من بناء هذا السد هدفا قوميا للإثيوبيين، رغم تأكيد أن الاستمرار في بناء السد، بالمواصفات المعلنة، قد يشكل تهديدا لحياة المصريين، وفناء لحضارتهم، على أساس أن نهر النيل المصدر الوحيد لحياتهم.
وقد كشفت الحكومة الإثيوبية عن رغبتها في الاستمرار في عملية البناء، متجاهلة الأضرار التي رصدها تقرير اللجنة الثلاثية، الذي أكد أن معظم الدراسات والتصميمات المقدمة من الجانب الإثيوبي بها قصور في منهجية عمل تلك الدراسات، التي لا ترقي لمستوي مشروع بهدا الحجم على نهر عابر للحدود. كما أن الجانب الإثيوبي لم يقم بعمل دراسات متعمقة تسمح للجنة بوضع رؤية علمية عن حجم الآثار ومدي خطورتها على دولتي المصب. كما أشارت الدراسات إلى أنه في حالة ملء خزان سد النهضة في فترات الجفاف، فإن منسوب السد العالي يصل إلى أقل منسوب تشغيل له لمدة أربع سنوات متتالية، مما سيكون له تأثير بالغ في توفير المياه اللازمة للري، وعدم القدرة على توليد الكهرباء لفترات طويلة.
وطبقا لرأي الخبراء، فإن العجز المتوقع أثناء فترة ملء السد يتراوح ما بين 15 و19 مليار متر مكعب من المياه، التي تمتد لست سنوات. ولتوضيح أثر ذلك، يكفي القول إن مقدار النقص في المياه بمعدل أربعة مليارات متر مكعب من شأنه تبوير نحو مليون فدان من الأراضي الزراعية، وتشريد مليوني أسرة ريفية، يقابل ذلك نقص في إنتاج الطاقة الكهرومائية من السد العالي في حدود 40٪ لمدة 6 سنوات أيضا، فضلا عن نقص الإنتاج الزراعي بمعدل 12٪ وتكليف الدولة مليارات الدولارات لتوفير مواد غذائية، ولتحلية مياه البحر، علاوة على زيادة ملوحة التربة، وعجز في تشغيل محطات مياه الشرب، نتيجة انخفاض المناسيب. وما يزيد من خطورة المشكلة أن هناك نقصا في الاحتياجات المائية الحالية لمصر يقدر بنحو سبعة مليارات متر مكعب، في ظل حالة الفقر المائي التي تعيشها مصر، بالإضافة إلى حزمة كبيرة من الأضرار السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية.
ولم تحرك مصر ساكنا تجاه هذه الأزمة، خلال العاميين الماضيين، سوي زيارة وفد الدبلوماسية الشعبية لإثيوبيا بعد الثورة، حيث وعدهم الراحل ميليس زيناوي بتأجيل العمل في السد لفترة محددة، تقديرا للثورة المصرية، ثم زيارة الرئيس المصري لإثيوبيا لحضور مؤتمر القمة الإفريقية، وزيارته أيضا لأوغندا للمشاركة في عيد الاستقلال، وأيضا زيارة رئيس أركان الجيش المصري لإثيوبيا، والتي تركت نتائج إيجابية على صعيد العلاقات مع إثيوبيا.
وأخيرا، تبلور الموقف الرسمي المصري من سد النهضة، بعد صدور تقرير اللجنة الثلاثية، في البيان الذي ألقاه رئيس الوزراء أمام مجلس الشوري في 10 يونيو 2013، حيث أكد أن مصر لم ولن تفرط يوما في حقها التاريخي الذي تكفله المواثيق الدولية لها، في إطار الحفاظ على مواردها المائية من نهر النيل، مشددا على أن صانع القرار المصري لديه خطة واضحة للتحرك هدفها الأساسي هو الحفاظ على أمن مصر المائي، وعدم المساس بأي قطرة من مياه النيل، موضحا أن هناك بدائل عديدة ومتنوعة، منها الفنية، والدبلوماسية، والقانونية، في إطار التصدي للمخاطر المحتملة من بناء سد النهضة، مشيرا إلى أن مصر دولة عريقة، وستسعي - طبقا للاتفاقيات الدولية - لحماية شعبها في هذا الإطار. وقد أعقب ذلك زيارة وزير الخارجية المصري لأديس أبابا، ثم قام نائب وزير الخارجية الإثيوبي بزيارة القاهرة، وربما وجدت المفاوضات الدبلوماسية طريقا لحل الأزمة.
ولا شك في أن أزمة سد النهضة كشفت عن تراجع في علاقات مصر بدول حوض النيل، وفي مقدمتها إثيوبيا، كما كشفت أيضا عن تراجع الدور المصري في إفريقيا في سياق تراجع عام عانته مصر في دوائرها الثلاث العربية والإسلامية والإفريقية طيلة العقود الماضية، واقتصرت العلاقات مع الجانب الإفريقي، طبقا لقاعدة التكلفة والعائد، في حين كانت رسالة مصر، في إفريقيا في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، تقوم على دعم حركات النضال الإفريقي للتحرر من الاستعمار، وضد سياسات التمييز العنصري.
وكانت القاهرة مقرا للعديد من هذه الحركات، ووفرت لها كافة أنواع الدعم المادي والمعنوي لعرض قضايا الأفارقة في المحافل الدولية. كما أسهمت مصر في كل جهود منظمة الوحدة الإفريقية الرامية للحفاظ على سلامة ووحدة واستقلال دول القارة، وتحقيق التنمية والسلام بين ربوعها. وبفضل هذه السياسة، أصبحت الكتلة الإفريقية ظهيرا سياسيا للحقوق العربية ككتلة تصويتية في المحافل الدولية. فبعد عدوان 1967، قطعت معظم الدول الإفريقية علاقاتها بإسرائيل، وساندت مجمل المواقف العربية من السياسات العنصرية لإسرائيل.
وإذا كانت أزمة سد النهضة قد كشفت عن تراجع الدور المصري في إفريقيا، فإنها في المقابل قد أكدت حتمية العودة للقارة الإفريقية مجددا، ليس فقط لمجرد تأمين مصادر المياه، ولكن بحكم كون إفريقيا امتدادا طبيعيا وتاريخيا لمصر والعرب جميعا. ولكن إفريقيا الآن تغيرت، فقد أصبحت بيئة تنافسية لبعض القوي الكبري (الولايات المتحدة، والصين)، والقوي الصاعدة (البرازيل، والهند)، والقوي الإقليمية (إيران، وتركيا، وإسرائيل)، وهذا يفرض تحديا أمام صانع القرار. كما أن إفريقيا قارة واعدة في المجال الاقتصادي، حيث أصبحت من أكثر وأسرع مناطق العالم نموا، وناتجها السنوي تجاوز مبلغ 1.6 تريليون دولار عام 2008، وأصبحت مقصدا لحركة الاستثمارات العالمية.
ومن ثم، فإن كل المتغيرات تحتم ضرورة العودة لإفريقيا بإعطائها الأولوية المناسبة في استراتيجية العمل الخارجي. كما أن إعادة صياغة العلاقات المصرية - الإفريقية تحتاج بالضرورة إلى حشد كافة الخبرات المصرية في التعامل مع إفريقيا، وإلى الاستفادة من خبرات الرجال الأفذاذ الذين خبروا هذه القضية، طوال عقود طويلة، مثل السيد محمد فائق وزير الإعلام الأسبق، والدكتور بطرس بطرس غالي، الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، وزير الدولة للشئون الخارجية السابق، والذي تم ترشيحه أخيرا من قبل رئاسة الجمهورية لرئاسة للجنة الوطنية التي ستتولي التفاوض حول ملف سد النهضة، وكذلك الخبراء الأفذاذ في مدرسة الري المصرية، والاستفادة من تراثهم في التعامل مع حوض النيل والقارة الإفريقية، وهناك خبرات كبيرة موجودة لدي مؤسسات الدولة التنفيذية والعلمية.
وهناك ضرورة لاتباع وسائل التفاعل الإيجابي، والقدرة على بناء الثقة المتبادلة والمصالح المشتركة مع الأشقاء في إفريقيا، من خلال ما تبقي لمصر من رصيد إيجابي لدي الكثير من الشعوب الإفريقية. كما يجب اتباع المنهج الصحيح في التعامل مع أزمة سد النهضة بما يحقق المصالح المتبادلة بين الدولتين، ويحول دون فرض أمر واقع على مصر، ولا يحرم إثيوبيا من تحقيق خططها التنموية، لأن أدوات وآليات التعامل التي ستتبعها مصر في هذه الأزمة ستؤثر في كل علاقاتها بالدائرة الإفريقية، ويمكن اللجوء للوساطة من قبل بعض حكماء إفريقيا، وسيكون ذلك محل تقدير من مصر لهم.
وهناك ضرورة لتوجيه أجهزة الدولة المختصة لزيادة الوعي الوطني بالهوية الإفريقية للشعب المصري، وبإلمامه الكامل بكل قضايا القارة الإفريقية، وشعوبها، وعاداتها. ويجب أن يستقر لدي الشعوب الإفريقية أن مصر دولة إفريقية، وأن مصر قدمت تضحيات كثيرة من أجل حرية الشعوب الإفريقية، وهذا أيضا يجب أن يكون مستقرا في الوعي والضمير الجمعي للشعب المصري.
كذلك، فإن هناك ضرورة لقيام مراكز البحوث ومراكز التفكير، والمعاهد العلمية المتخصصة بدراسة هذه القضية، وطرح الحقائق كاملة أمام صانع القرار والرأي العام. واتساقا مع هذا الدور، فقد نشرت مجلة "السياسة الدولية" في عدد يناير 2013 ملفا بعنوان: "النهر المتأزم .. خيارات مصرية تجاه التحولات الاستراتيجية في حوض النيل"، كما عقدت مائدة مستديرة بعنوان "مصر وقضية مياه النيل .. ما العمل؟"، وتواصل المجلة إيلاء هذه القضية اهتمامها بنشر دراسة هذا العدد بعنوان: "سد النهضة نموذجا: التحكيم في منازعات الأنهار"، وتقريرين عن موقف الداخل الإثيوبي تجاه سد النهضة، وخيارات مصر أمام السد الإثيوبي.
وأخيرا، فإن التوافق والتوحد الوطني المصري حول القضايا المصيرية من شأنه التصدي لكل التحديات التي تواجه مصر، وتحقيق نتائج إيجابية في التعامل معها، فمصلحة الوطن لا تخضع لأي مزايدة، والمصلحة الوطنية لمصر فوق الجميع.