حملت الصحف صباح يوم الأحد الماضي 30 يونيو ما يفيد اجتماع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في مقر إقامته بالعاصمة الأردنية مع جون كيري وزير الخارجية الأميركي للمرة الثانية خلال 24 ساعة. ويأتي هذا الاجتماع وسابقه في إطار الدبلوماسية المكوكية التي يقوم بها كيري بين عمان وتل أبيب بهدف إحياء عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين المتوقفة تماماً منذ شهر أكتوبر 2010. وقد ذكرت وكالة الأنباء الفلسطينية أن الجانبين استكملا في اجتماعهما الأخير هذا ما تم بحثه خلال الأسابيع الماضية بخصوص جهود إحياء مفاوضات التسوية، ومن الواضح أن دبلوماسية كيري المكوكية لم تحقق أي اختراق، وكان كل ما ارتبط بالزيارة من تطورات هو تأكيد مسؤول إسرائيلي اعتزام وزير الخارجية الأميركي الإعلان عن عقد قمة رباعية أميركية إسرائيلية فلسطينية أردنية في عمان تكون منطلقاً لمفاوضات ثنائية فلسطينية، وقال المسؤول الذي لم يذكر اسمه في تصريحات نشرتها صحيفة «ها آرتس» الإسرائيلية إنه من المرجح عقد هذه القمة في وقت قريب هذا الأسبوع.
والواقع أن هذه القمة حتى إن عقدت لا تعد من قبيل الإنجازات، ويعرف الذين يتابعون جهود التسوية السلمية منذ حدث تحول نوعي في مسار هذه الجهود بعد توقيع اتفاقية أوسلو 1993 أن ثمة عديداً من المبادرات المشابهة لفكرة عقد القمة الرباعية قد سبق طرحها كلما مرت هذه الجهود بأزمة أدت إلى توقفها، وأن هذه المبادرات كانت كلها تؤول في النهاية إلى لا شيء نتيجة تعنت الموقف الإسرائيلي، وأنه حتى عندما انتهت هذه المبادرات إلى نتائج شكلية فإن هذه النتائج سرعان ما كانت تتعثر بسبب المماطلات الإسرائيلية، فليس هناك إذن أي جديد في فكرة عقد القمة الرباعية، بل إن كيري نفسه فيما يبدو ليس مقتنعاً بالجدوى الحقيقية للفكرة بدليل أنه ألغى المؤتمر الصحفي الذي كان ينوي عقده في مقر السفارة الأميركية بعمان لوضع وسائل الإعلام في صورة الجهود التي يبذلها لاستئناف المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية، وكانت مصادر صحفية أردنية قد توقعت يوم 29 يونيو عقد هذا المؤتمر.
والسؤال الآن: هل يدرك وزير الخارجية الأميركي طبيعة الموقف الإسرائيلي حتى يتصور أن بمقدوره تحقيق اختراق في إعادة المفاوضات الإسرائيلية- الفلسطينية والنجاح فيما فشل فيه آخرون أكثر منه خبرة بشؤون الصراع العربي- الإسرائيلي؟ أستبعد أن تكون الإجابة على هذا السؤال بالنفي لأنه حتى إذا كان كيري محدود الخبرة في هذا الصدد فإن مؤسسات وزارة الخارجية بالإضافة إلى مؤسسات الأمن القومي الأميركي يفترض أنها تزوده بما يلزم من دراسات وتقارير ومعلومات تعوض النقص في خبرته، اللهم إلا إذا كانت هذه المؤسسات نفسها تتبنى رؤية للمسألة مفادها أن بذل مزيد من الجهود يحل عقدة الموقف الإسرائيلي. وقد يساعدها في تبني هذه الرؤية أن إسرائيل تبدي تجاوباً مع المبادرات الأميركية وهي تعلم في النهاية أنه لا يمكن أن تقدم فيها تنازلاً جوهرياً للفلسطينيين، وأنها تستطيع لاحقاً أن تخرب أي نتائج شكلية يتم التوصل إليها. وثمة سؤال مشابه يمكن طرحه بالنسبة للسلطة الفلسطينية: لماذا تقبل المشاركة في هذه المبادرات وهي تعلم مسبقاً أن فرصها في النجاح منعدمة؟ الواقع أننا ينبغي ألا ننسى أن وضع السلطة بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية يختلف جذرياً عن وضع إسرائيل، فإسرائيل تملك قدرة ضغط على مؤسسات السياسة الخارجية الأميركية وصولاً إلى مؤسسة الرئاسة ذاتها، وذلك عن طريق اللوبي الصهيوني الأميركي، بينما السلطة الفلسطينية لا تملك أدنى قوة ضغط في هذا الصدد، بل هي على العكس لا تستطيع أن ترفض الاستجابة لأي مبادرة أميركية وإلا تعرضت للعقوبات الأميركية وعلى رأسها حرمانها من المساعدات الاقتصادية التي تقدمها لها الولايات المتحدة الأميركية والتي تلعب دوراً بالغ الأهمية في الاقتصاد الفلسطيني. ومن ناحية ثانية فإن السلطة الفلسطينية لا تملك خياراً آخر سوى قبول المبادرات الدبلوماسية بصفة عامة ناهيك عن الأميركية، لأن الوضع الفلسطيني يتدهور كل يوم أكثر مما سبق نتيجة النشاط الإسرائيلي الاستيطاني المحموم. ولذلك فإن السلطة تريد أن تظهر لشعبها أن ثمة حركة في هذا الوضع، وأنها تقوم بدورها في هذا الصدد بدليل هذه المبادرات المتتالية يوماً بعد يوم. أما إسرائيل فتقبل المشاركة في هذه المبادرات وهي تعلم أنها ستخربها بمواقفها، وذلك لأن رفض المشاركة قد يظهرها بمظهر الطرف الرافض لجهود التسوية السلمية.
وتدرك فصائل المعارضة الفلسطينية التي كانت يوماً ما فصائل مقاومة كل الحقائق السابقة دون شك، بدليل أنها استبقت نتائج الجولة المكوكية التي قام بها وزير الخارجية الأميركي، ودعت رئيس السلطة الفلسطينية إلى عدم الرهان على الموقف الأميركي لإعادة الحق الفلسطيني. وفي هذا السياق حذرت «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» من أن جولات كيري باتت وسيلة للتغطية على سياسات دولة الاحتلال ومخططاتها الماضية في تنفيذ المشروع الصهيوني على الأراضي الفلسطينية. وطالبت الجبهة رئيس السلطة بالكف عن مواصلة التعلق بأوهام إقناع الإدارة الأميركية بتغيير موقفها الداعم للاحتلال ونفي حقوق الشعب الفلسطيني المكفولة بقرارات الأمم المتحدة. ورأت الجبهة أن جولات كيري توظيف للاستراتيجية الأميركية الرامية لتفتيت المنطقة وإشعال الحروب والفتن الداخلية وإجهاض طموح شعبها. وكذلك قالت حركة «الجهاد الإسلامي» في فلسطين إن الولايات المتحدة لا تملك مبادرة حقيقية لإعادة الحق الفلسطيني، وذكَّرت بأنها لا تستطيع أن تمارس أي ضغط على إسرائيل لإجبارها على تغيير مواقفها المتطرفة تجاه الفلسطينيين. وقال أحد أعضاء المكتب السياسي للحركة في تصريحات يوم السبت الماضي إن الولايات المتحدة على العكس «تلجأ للضغط على الفلسطينيين كي يقبلوا بالأمر الواقع لتصفية قضيتهم»، وأضاف: «الجهود التي يبذلها وزير الخارجية الأميركي لن تُكلل بالنجاح انطلاقاً من عدم قدرته على الضغط على الجانب الإسرائيلي شأنه في ذلك شأن الإدارات الأميركية السابقة»، ووصف عضو المكتب التنفيذي وعود كيري سواء بإطلاق سراح أسرى أو تسهيلات اقتصادية بالسراب، ومن ثم فعلى السلطة الفلسطينية أن تصمد في وجه الضغوط الأميركية والإسرائيلية وعدم العودة للمفاوضات. ولا شك أن المواقف السابقة لفصائل المعارضة تعبر عن فهم سليم لأبعاد الموقف وتوجه صحيح في هذا الصدد، غير أن هذه الفصائل لا تقوم بما يتعين عليها القيام به، وهو ممارسة المقاومة التي غابت عن الساحة الفلسطينية خاصة بعد تحول «حماس» إلى دويلة في غزة بعد نجاحها في الانتخابات التشريعية لعام 2006، وبدون المقاومة سيظل ميزان القوى على ما هو عليه بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وبالتالي ستبقى المواقف الإسرائيلية المتشددة المتطرفة على ما هي عليه أيضاً، وبالمقاومة وحدها يمكن أن تبدأ المعادلة في التغير، وأن نطمح إلى تغير نوعي في جهود التسوية.
--------------------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الثلاثاء، 2/7/2013.