الثلاثاء 12 يونيو 2012
هل تكون الجولة الراهنة هي الفاصلة في الصراع بين الدولة والجهاديين من عناصر تنظيم "القاعدة" وجماعة "أنصار الشريعة" في اليمن، أم لا تكون أكثر من جولة، ضمن جولات عديدة خاضتها الدولة اليمنية مع التنظيم والجماعة على مدى السنوات الماضية؟.تشير خبرة الحرب بين الدولة والجهاديين إلى أن هذه الجولة قد لا تقضي تماما على جماعة أنصار الشريعة أو تنظيم القاعدة، وأنها قد لا تنتهي إلى أبعد من الانحسار المرحلي الذي يعيد بعدها الجهاديون تنظيم صفوفهم.
لكن هناك أيضا من الإشارات على جدية الدولة في هذه الجولة من صراعها مع التنظيم والجماعة، يعكس ذلك حجم الفرق والألوية والوحدات المسلحة المشاركة في الحرب، وامتداد الرقعة الجغرافية للصراع. ويعزز رغبة الدولة في الحسم هذه المرة أن هذه الجولة هي الأولى للدولة مع تنظيم القاعدة وأنصار الشريعة بعد الثورة اليمنية، وعقب الإطاحة بالرئيس علي صالح الذي وجهت إليه الاتهامات بأنه من يؤوي القاعدة. كما يعزز ذلك أيضا أن هذه الجولة تأتي بعد تسلم السلطة للرئيس الجديد المنتخب عبد ربه منصور هادي.
هناك أيضا من الأسباب ما يقنع كلا من الدولة والجماعة والتنظيم باعتبار هذه الجولة قضية حياة أو موت. بالنسبة للدولة، تعني الهزيمة في هذه الجولة تكريس وضعية "الإمارات الإسلامية" التي أعلن عنها الجهاديون من أتباع التنظيمين في مدن مختلفة، أهمها مدينتا زنجبار وجعار بمحافظة أبين. ولأنها المواجهة الأولى مع التنظيم في ظل الرئيس هادي، فإنه حريص على تكريس شرعيته، واستعادة سلطان الدولة على كل مناطق اليمن. علاوة على ذلك، تقاتل الدولة مع تنظيم القاعدة وأنصار الشريعة، وعينها بالأساس على صراعها المنتظر مع الحوثيين والحراك الجنوبي.
أما بالنسبة لتنظيم القاعدة وجماعة أنصار الشريعة، فإن الهزيمة في هذه الجولة تعني انتهاء وجودهما في اليمن، بعدما انحسر نجم القاعدة الأم في أفغانستان. ويقاتل التنظيم اليمني نيابة عن التنظيم الأم، ويتلقى المدد منه ومن باقي أفرع القاعدة في العالم. وفي السنوات الماضية، احتل الفرع اليمني -من الناحية الفعلية- مركز القلب بين أفرع تنظيم القاعدة العالمي. وتعني الهزيمة للتنظيم أيضا أنه دخل مرحلة الجزر بعد فترة طويلة من المد، كما تعني انتهاء حلم الإمارات الإسلامية وتطبيق الشريعة، وخروج اليمن للأبد من حلم وفكر التنظيم.
وتتبين خطورة ذلك على التنظيم من قراءة فكر التنظيم بخصوص اليمن، التي يسعى فيها إلى تحقيق أهداف ثلاثة أساسية: هدف محلي، يتمثل في إقامة إمارة إسلامية في أي منطقة يسيطر عليها، وتطبيق الشريعة الإسلامية فيها، وتجهيز جيش لنصرة المستضعفين في الأرض. وهدف إقليمي، هو إخراج المشركين من جزيرة العرب. وهدف عالمي، يتمثل في تشكيل النظام الإسلامي الكامل (الخلافة الإسلامية على منهاج النبوة). ولا يخفي التنظيم سعيه للسيطرة على المنافذ البحرية الاستراتيجية، لتكوين شبكة قادرة على التحكم بالممرات المائية ومضيق باب المندب، بما يمنحه قوة تمكنه من تهديد المصالح التجارية والعسكرية العالمية.
أسباب تنامي القاعدة :
تتمثل أهم أسباب تنامي مشروع "القاعدة" و"أنصار الشريعة" في اليمن فيما يلي:
- حالة الفراغ الأمني والسياسي: فاليمن أكثر الدول العربية شبها من الناحيتين الطبوغرافية والجغرافية بأفغانستان، التي يستوطن فيها تنظيم القاعدة الأم، بل إن الملامح الجبلية والقبلية في اليمن أشد تعقيدا، وهي التي تسمح بإنشاء معامل ومصانع بدائية للأسلحة، وتصنيع العبوات الناسفة بعيدا عن سلطان الدولة في بيئة ينتشر فيها حمل السلاح بكثافة. وفضلا عن ذلك، فإن السيطرة الرخوة للدولة على أقاليمها ومدنها ومحافظاتها أحد الأمور المشجعة للتنظيم. ففي الأغلب، تفقد الدولة اليمنية سيطرتها على جزء كبير من أراضيها، والشعور بالدولة مفتقد في عديد من المناطق البعيدة عن المركز لمصلحة القبائل. والوصف الشائع لليمن هو أنه يعبر عن حالة "الدولة القبيلة والقبائل الدول". فضلا عن ذلك، تساعد حالة الفقر الشديدة تنظيم القاعدة على شراء ولاء القبائل وشيوخها وأبنائها بالمال.
- البيئة الاستراتيجية والإقليمية: إن نظرة فاحصة على المحافظات والمدن التي يسيطر عليها تنظيم القاعدة وجماعة أنصار الشريعة تشير إلى أنها من أكثر المحافظات اليمنية فقرا، وهي تقف على خميرة من الجهاديين ممن شاركوا في الجهاد الأفغاني، وهي محافظات كانت منقسمة تاريخيا إلى سلطنات ومشيخات، فتقاليد الاستقلال الذاتي عن الحكومة أصيلة في البيئة اليمنية. والمحافظات التي يتركز بها التنظيم هي محافظات مفتوحة على البحر، على نحو يمكن من هروب العناصر الجهادية عند التعرض لخطر داهم، وذلك من خلال التسهيلات التي تقدمها عناصر من القراصنة بالمياه الدولية. فمحافظة شبوة التي يوجد بها الجهاديون بكثافة تطل من الجنوب على بحر العرب وخليج عدن، ومحافظة أبين التي أعلن الجهاديون بها الإمارات الإسلامية تقع على الشريط الساحلي لبحر العرب.
وإذا تأملنا أيضا المدن والبلدات التي أُعلنت فيها إمارات إسلامية، فسنجد أن لكل منها ظروفها الخاصة، وتمثل مركزا مهما في إطلالته على المياه الدولية، فمدينة زنجبار تقع قبالة الساحل الشرقي. وقد مكن ذلك من توفير البيئة اللوجيستية المسهلة لانتقال وحركة عناصر التنظيم. وقد مكنت هذه البيئة المفتوحة عناصر التنظيم المسلحة من الهرب في المواجهات الأخيرة والراهنة، حيث هرب عدد من القيادات الميدانية التي كانت تشرف على جبهات القتال في مدينتي زنجبار وجعار، بواسطة قوارب صيد من مدينة شقرة الساحلية إلى مناطق غير معروفة، وهربت القيادات من أبين، بعد أن شعرت بتضييق الخناق عليها من جميع الجهات.
- ويضيف المحيط الإقليمي لليمن إلى تهيئة الظروف المواتية لنشاط التنظيم. فالامتداد الجغرافي والجيوسياسي المهم لليمن يوفر لتنظيم القاعدة أرضية خصبة تمكن عناصره من التعبئة والتجنيد والمناورة، وسط بيئة جيواستراتيجية مهيأة من ناحية توافر عناصر التجنيد والاحتياط المهمة للتنظيم، ووسط إقليم الخليج والجزيرة المكتنز بالأفكار والجماعات السلفية. وقد ساعد ذلك على إتمام التزاوج بين فرعي تنظيم القاعدة في السعودية واليمن رسميا في عام 2009، واللذين اختارا التوحد خلف تسمية "القاعدة في شبه الجزيرة العربية". كما يوفر القرب اليمني من منطقة القرن الإفريقي والصومال مخزنا آخر للعناصر الجهادية من حركة "شباب المجاهدين" الصومالية.
مستقبل الصراع:
هناك ثلاثة سيناريوهات لمستقبل الصراع بين الدولة والجهاديين من تنظيم القاعدة وجماعة أنصار الشريعة، في ضوء المعركة الحالية:
- سيناريو استمرار الصراع لفترة أطول: يؤكد هذا السيناريو خبرة الصراع بين الدولة والجهاديين على مدى السنوات الماضية، والذي لم تحسمه عشر سنوات، اتسم فيها أداء الأطراف بقدر من المناورة والعناد. ويؤكد هذا السيناريو أنه ليس ثمة متغيرات نوعية جديدة، تمكن أحد الأطراف من الحسم والإجهاز الكامل على خصمه. فباستثناء كم السلاح وحجم القوات التي تم توجيهها في الجولة الراهنة -وهي أكثر من كل المرات السابقة- فإن نوع القوة العسكرية المستخدم لم يجر تطويره، وتكتيكات الأطراف كما هي، والجيش اليمني ليس في أفضل أوضاعه، مع استمرار ظاهرة تمرد عدد من القيادات على أوامر القيادة السياسية والرئيس منصور هادي. ولا يزال التدخل الأمريكي عبر هجمات الطائرات من دون طيار التي تستهدف قادة تنظيم القاعدة وخلاياه كما هي أيضا، وهي فاعلة، لكنها تبدو عاجزة عن الحسم.
ورغم استمرار ذلك، فإن تنظيم القاعدة وجماعة أنصار الشريعة لا يزال لهما القدرة على إلحاق خسائر بشرية ومادية هائلة في صفوف المؤسسة العسكرية. ويشير إلى قوة التنظيم حجم الخسائر التي يجري الإعلان عنها وسط القوات المسلحة، وهو ما يبلغ العشرات أحيانا في اليوم الواحد. كما يشير حجم القوات المسلحة التي تم الدفع بها إلى جبهة القتال ضد القاعدة وأنصار الشريعة إلى مشاركة ألوية وكتائب كاملة بكل أسلحتها. وتشير مشاركة القوات الجوية إلى حجم وقوة التنظيم والجماعة.
- سيناريو توقف الصراع عند نقاط محددة: عبر خوض جولات لا تنتهي إلى الحسم، هذا السيناريو هو أقرب إلى التحقق، في ضوء تزايد اقتناع الدولة بأن التنظيم يصعب القضاء عليه، لأنه بالأساس صناعة محلية. ولا تشير تجربة السنوات العشر الماضية إلى أن الجهاديين يمكن إفناؤهم، وإنما يمكن أن ينحسروا أو يتقلص نشاطهم إلى حين. وهذه الموجة ممكن أن تأخذ فترة طويلة أو قصيرة، لكن احتمالات عودتهم مرة ثانية هي احتمالات مؤكدة، في ضوء بقاء نفس العوامل المهيئة لاستيطان القاعدة في اليمن.
إن ذلك يشير إلى أنه قد ينتهي كل من الطرفين إلى صيغة توافق غير مكتوب بينهما، تكتفي فيها الدولة بكسر شوكة التنظيم والجماعة دون القضاء عليهما تماما. وقد يدفعها إلى ذلك الحل الوسطي ببروز تحديات ومخاطر ومشكلات أخرى مفاجئة أمامها، أو إذا ازدادت تكاليف استمرار مواجهتها للتنظيمين على قدرة الحكومة على تحملها، في ضوء تنامي المطالب الشعبية بعد الثورة، أو إذا أدى تركيزها على القاعدة إلى تنامي أخطار أخرى أكثر إلحاحا في مناطق الحراك الجنوبي والحوثيين. فأوضاع الدولة اليمنية تشير إلى إمكانية الإسناد المتبادل لجبهات الصراع إزاء الدولة، إذا تنامى إدراك كل جبهة أن انتصار الدولة في جبهة القاعدة سيعظم سلطانها في المواجهة التالية معها.
- السيناريو التفاوضي: فليس بمستبعد أن تلجأ الدولة إلى التفاوض مع الجهاديين، أو يلجأ الأخيرون إلى التفاوض معها من خلال صفقة معينة. يدعم ذلك أن أغلب الجهاديين هم أبناء الوطن من جماعة أنصار الشريعة أو القاعدة، وهم في الأغلب يمنيون أصلا، وهم مرتبطون بقبائلهم التي قد تسعى لطرح صفقة بينهم والدولة، في ظل التزامات معينة منهم بعدم الاستمرار في إحراج سلطة وهيبة الحكومة المركزية، مقابل التزام الدولة بعدم تتبعهم أو محاربتهم، أو بضمان عودتهم كأفراد طبيعيين إلى الحياة المدنية دون عرضهم على القضاء والمحاكمة.
وهذا السيناريو لا يمكن استبعاده في ضوء الواقع اليمني بعد الثورة الذي مكن للرئيس السابق نفسه من أن يخرج بصفقة ارتضاها اليمنيون. وفي ظل هذا السيناريو، قد يُتصور وقوع خلافات وصراعات بين الجهاديين وبعضهم، سواء داخل كل تنظيم على حدة، أو بينه والتنظيم الآخر، في ضوء اختلاف تقديرات المصالح. كما يمكن تصور قيام نسخ وطبعات متناثرة من خلايا جهادية أصغر وأقل شأنا على أنقاض التنظيمين الكبيرين. ويمكن أيضا تصور إدماج الجهاديين في أحزاب مدنية قائمة، أو إنشاء أحزاب جديدة لهم تمكنهم من العمل السياسي الشرعي.
هذه السيناريوهات جميعها محتملة، وبالتأكيد سيكون لكل منها انعكاساته على الصراعين الكبيرين الآخرين في اليمن: الحراك الجنوبي، والحوثيين في صعدة.