ردود الفعل الإيرانية الصاخبة على المستوى الخليجي في الأسابيع الأخيرة على وجه الخصوص، يصعب تصور أنها ناتجة من فراغ، ولذلك يبقى السؤال المهم هو، لماذا تتعمد إيران التصعيد، على هذا النحو غير المسبوق، في قضايا خلافية لها امتداداتها التاريخية، مثل قضية جزر الإمارات الثلاث التي تحتلها منذ نهاية العام 1971؟ لكن الأهم من ذلك هو، لماذا تحدثت على هذا النحو ضد مسعى تطوير مجلس التعاون الخلجي ليتحول إلى اتحاد بين الدول المؤسسة لهذا المجلس منذ العام 1981؟
فالتصعيد الإيراني بخصوص الجزر الإماراتية تجاوز كل الحدود، وتخلّت إيران عن سياستها السابقة التي كانت تحرص على تضييق نطاق الخلاف ضمن حدود ما كانت تردده دائماً ب”سوء الفهم”، هذه المرة تعمّد الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد أن يزور جزيرة أبوموسى في سابقة هي الأولى من نوعها منذ الاحتلال الإيراني للجزر الثلاث، وأن يتجاوز كل حدود العلاقات القائمة على الاحترام المتبادل بين الدول، بل أن يتجاوز كل تقاليد العلاقات بين إيران والأمة العربية باعتبارهما ركيزتين أساسيتين من ركائز الحضارة العربية الإسلامية، حيث تعمد أن ينال من الحضارة العربية لدرجة إنكار وجود مثل هذه الحضارة .
ففي الوقت الذي قرر فيه أحمدي نجاد أن يتحدث عن “فارسية الخليج” في خطابه الذي ألقاه بجزيرة أبوموسى، وأن يؤكد أن “جميع الوثائق التاريخية تؤكد وجود تسمية “الخليج الفارسي” عبر آلاف السنين ولحد الآن”، تعمّد أن ينكر وجود حضارة عربية، وأن يخصّ إيران وحدها دون غيرها بذلك عندما قال: “إن الدول التي تحاول حالياً مصادرة اسم “الخليج الفارسي” لا تمتلك مطلقاً ثقافة وحضارة كي تريد أن تقف في وجه إيران، وفي السابق لم يكن لديهم شيء بحيث يزعمون مثل هذا الادعاء في الوقت الحاضر” .
المواجهة لم تعد على الجزر فحسب، بل تحولت إلى مواجهة بين حضارتين، أو مواجهة في إطار الصراع الحضاري، وهذه كارثة كان الجميع يتجاهلها عند متابعة الاستعلاء الإيراني في رفض قبول اللجوء إلى التحكيم الدولي في قضية الجزر، ولذلك فإنهم يتحدثون الآن عن ضم الجزر إلى إيران كحق وليس فقط كأمر واقع، على نحو ما جاء في البيان الذي وقعه 225 نائباً من أصل 290 في مجلس الشورى (البرلمان) الذي تحدث عما أسماه ب”إدعاءات إيرانية واهية بخصوص ملكية الجزر”، ورأى أن “هذه الإدعاءات والمزاعم عن الجزر الإيرانية الثلاث لا تشكل أي تهديد للشرعية التاريخية ولحقوق شعب إيران باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من تراب أرض إيران الإسلامية” . وامتد الأمر من ادعاء حق الملكية المطلق إلى التهديد باستخدام القوة العسكرية للدفاع عن هذا الحق . لم يصدر التهديد بذلك على لسان كبار القادة العسكريين فقط وفي مقدمتهم قائد القوات البرية اللواء أمير أحمد رضا بوردستان، بل امتد أيضاً إلى كبار المسؤولين في الدولة على نحو ما جاء على لسان محسن رضائي مرشح الرئاسة السابق السكرتير العام لمجمع تشخيص مصلحة النظام، في تأكيده، وهو ينتقد موقف الإمارات من الجزر، أن “إيران في أوج قدرتها وقوتها وهي مستعدة لإبادة أو تدمير أي محاولة للاعتداء عليها”، وهو هنا لا يقصد الأراضي الإيرانية فقط، بل يقصد هذه الأراضي ومن بينها الجزر الثلاث المحتلة .
تصعيد غير مسبوق وغريب، لكن ردود فعل الإيرانيين على الاقتراح المقدم من العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز الداعي إلى الانتقال بمجلس التعاون الخليجي من مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد، جاءت سريعة وقبل أن تبدأ أعمال القمة الخليجية التشاورية في الرياض (1452012) . فقد عَدّ الناطق باسم وزارة الخارجية الإيرانية أن “مشروع إقامة اتحاد بين السعودية والبحرين قد يفاقم الأزمة البحرينية”، وقال في بيان خاص بهذا الشأن إن “أي نوع من التدخل الأجنبي من دون احترام صوت الشعب لن يؤدي إلا إلى تعميق الجروح الموجودة”، وأضاف، إن “حل الأزمة في البحرين يتطلب إيلاء الأهمية للمطالب المشروعة للشعب والاستجابة لها” .
نظرت إيران إلى دعوة الاتحاد الخليجي من منظور رؤيتها للبحرين، ولم تكترث بالدعوة إلى اتحاد يضم الدول الست بالشكل الذي تراه هذه الدول، كل حسب اختيارها السيادي المطلق . واعتبر الإيرانيون أن دعوة الاتحاد تخص البحرين فقط، وأنها مجرد هروب إلى الأمام من جانب الحكم في البحرين، هروب من معالجة الأزمات المثارة بالاتحاد مع السعودية .
كان السؤال ضرورياً عن أسباب رفض إيران دعوة اتحاد البحرين مع السعودية أو مع أي دولة خليجية أخرى، وهل الرفض يقتصر فقط على مسألة الهروب المزعومة تلك من مواجهة مطالب المعارضة الإيرانية؟ وما هي حقوق إيران في البحرين كي تتعامل معها وكأنها الوصي صاحب الشأن؟
هذه الأسئلة مهمة، وجاءت الإجابات صريحة وكاشفة للحقيقة التي ظلت متجاهلة على مدى العقود الأربعة الماضية منذ إعلان قيام دولة البحرين كدولة مستقلة عقب الانسحاب البريطاني من الخليج .
فالحقيقة التاريخية التي نعرفها تؤكد أن شاه إيران محمد رضا بهلوي كانت له مطالب محددة عقب إعلان هارولد ويلسون رئيس الوزراء البريطاني العام 1968 “عزم بريطانيا الانسحاب بعد ثلاث سنوات من شرقي السويس”، وكان يقصد إقليم الخليج . عندها طالب الشاه بضم البحرين والجزر الإماراتية الثلاث، وبعد مفاوضات ووساطات، وافق الشاه على تقليص مطالبه في ضم الجزر الثلاث والتخلي عن مطلب ضم البحرين شرط ألا تنضم البحرين إلى دولة أخرى، ويبدو أن هذا الشرط جرى القبول به، وهو ما دفع البحرين، وقتها، إلى الانسحاب من اتحاد الإمارات العربية (الاتحاد التساعي الذي كانت تُجرى المفاوضات لإقامته)، وأن تعلن أن الاستقلال هو الخيار الوطني البحريني، وبالفعل أجري استفتاء شعبي على الاستقلال ووافق شعب البحرين على هذا المطلب الوطني وأعلن قيام دولة البحرين دولة مستقلة، وتبعتها قطر، وقامت دولة الامارات العربية المتحدة يوم 2 ديسمبر العام 1971 .
كان مفهوماً أن “التنازل” الإيراني عن ضم البحرين كان مؤقتاً، وأن السبب الأساسي للشرط الإيراني الخاص بعدم انضمام البحرين إلى أي دولة هو أن تبقى البحرين دون اندماج في أي كيان أكبر كي تبقى دعوة ضمها إلى إيران ممكنة، وهذا ما يفسر رد الفعل العصبي الإيراني على دعوة الاتحاد الخليجي .
-------------------
نقلا عن دار الخليج الإثنين، 21/5/2012.