على رغم الأزمة السياسية العامة ومصادمات الجيش مع المتظاهرين، تعيش مصر أجواء انتخابات رئاسية حقيقية ربما لأول مرة في تاريخها. فالمرشحون يعبرون عن كل ألوان الطيف الفكري والسياسي، ووسائل الإعلام العامة والخاصة تحتفي بالجميع. وماكينة الدعاية والإعلان انطلقت في محاولة لتعويض خسائر الركود الاقتصادي، من دون مراعاة لتشويه شوارع المدن والقرى بملايين الملصقات والإعلانات التي تحمل صور المرشحين وشعاراتهم.
السباق الرئاسي يؤكد حيوية السياسة في مصر بعد الثورة وتغيرها، حيث ارتفعت معدلات المشاركة في النقاش العام حول شخصية الرئيس المنتظر ومعايير اختياره وبرامجه، وأعلنت غالبية الأحزاب والشخصيات المشهورة مواقفها من المرشحين، وواكبت استطلاعات الرأي العام هذا الصخب، وقدَّمت نتائج بالغة الغرابة والتناقض حول فرص المرشحين والنتائج المتوقعة، ما يثير كثيراً من التساؤلات حول دقة وحيادية تلك الاستطلاعات، وهل تحولت إلى مجرد أداة للتلاعب بإرادة الناخبين.
المشهد الانتخابي حافل بدلالات بعضها متناقض وغامض، فعملية كتابة الدستور متعثرة، وصلاحيات الرئيس غير محددة، ومظاهر الأزمة السياسية تهدد أحياناً بتأجيل الانتخابات، والتعاطف الشعبي الذي حظي به «الإخوان» والسلفيون في الانتخابات البرلمانية يتراجع إن لم ينقلب، ومحاولات توافق قوى الثورة على مرشح رئاسي انتهت إلى غير رجعة، وفي هذا السياق يمكن إثارة الملاحظات التالية:
1- يخوض السباق 13 مرشحاً يمكن تقسيمهم إلى أربع فئات: الأولى رجال الدولة السابقون الذين شغلوا مناصب رفيعة في عصر مبارك (عمرو موسى وأحمد شفيق) وهؤلاء يعتنقون إذا جاز القول الدولاتية، وهي أيديولوجية الدولة المصرية التي تسبق وتعلو على أي التزام فكري أو أيديولوجي. وتضم الفئة الثانية المنتمين للتيار الإسلامي مثل «الإخواني» السابق والمتمرد على الجماعة عبد المنعم أبو الفتوح، و «الإخواني» الملتزم محمد مرسي رئيس حزب «الحرية والعدالة» والذي ترشح كاحتياطي للمهندس خيرت الشاطر، ثم محمد سليم العوا المفكر الإسلامي الوسطي. أما الفئة الثالثة من المرشحين فتشمل تياراً واسعاً من اليسار القومي، ممثلاً في الناصري حمدين صباحي وثلاثة مرشحين ينتمون لليسار أشهرهم أبو العز الحريري. أخيراً تضم الفئة الرابعة المرشحين الأقل شهرة وغير المنتمين لتيار سياسي أو حزب محدد.
2- التقسيم السابق للمرشحين يكشف أننا إزاء تنوع شكلي، فالتنافس الحقيقي يدور بين ثلاثة تيارات فكرية وسياسية منقسمة على نفسها، وتعاني عدم الالتزام التنظيمي، وهي الدولاتية، والإسلام السياسي، واليسار القومي، والأخير يقدم ناصرية معتدلة أو معدلة، لا تتبنى أفكاراً اشتراكية أو تدعو للوحدة العربية. بينما تطرح الدولاتية شعارات وأفكاراً ليبرالية محافظة، ومزيجاً محسّناً من الساداتية والمباركية. أما الإسلام السياسي فلم يدعُ ممثلوه للتطبيق الفوري للشريعة أو قيام الدولة الإسلامية، ومع ذلك يعاني من صراع هائل حول مشروعية من يمثله، ويخضع هذا الصراع لعوامل شخصية وصراعات داخل جماعة «الإخوان»، امتدت حتى بعد انشقاق أبو الفتوح، وأخذت منحى مؤثراً عندما أعلن حزب «النور» و «الجماعة الإسلامية» دعمهما لأبو الفتوح في دلالة واضحة أن السلفيين غير راضين عن الأداء السياسي لـ «لإخوان»، وأن اختيارهم لأبو الفتوح اعتمد على حسابات سياسية براغماتية، فالرجل كما قال شيوخ سلفيون أوفر حظاً من مرسي على رغم اعتراضهم على محاولات أبو الفتوح التقرب من المسيحيين والليبراليين. ومع ذلك فإن بعض قواعد الجماعات السلفية لن تلتزم بانتخاب أبو الفتوح، كما لن تلتزم بعض قواعد «الإخوان» بمحمد مرسي، في ظاهرة آخذة في النمو تتعلق بالتمرد العام على الأطر التنظيمية للأحزاب والجماعات الإسلامية، بل والكنيسة، فأصوات المسيحيين لن تذهب لتأييد مرشح واحد، كذلك لن تلتزم قواعد «الوفد» بدعم عمرو موسى، الذي أعلنت قيادة الحزب وقوفها معه.
3- إن انقسام وتشظي مواقف القوى الإسلامية حول شخصية الرئيس حاضران بقوة بين أنصار الدولاتية، ومعسكر الباحثين عن الاستقرار ولقمة العيش، حيث توزع الثقل الانتخابي لهؤلاء بين عمرو موسى وأحمد شفيق، ويعتبر الأخير الممثل الوحيد القوي في السباق الانتخابي ذا الخلفية العسكرية، فقد كان قائداً للقوات الجوية، ورئيس الوزارة الأخيرة لمبارك قبل رحيله، ما يعرضه لتهم الانتماء للنظام القديم أو ما يعرف بـ «الفلول»، وهو الاتهام نفسه الذي يلاحق عمرو موسى. من هنا يمكن القول بعدم وجود مرشح ليبرالي ينتمي للثورة، بعد انسحاب محمد البرادعي المبكر من السباق الرئاسي. وإذا كان من الصعب أن يتوافق معسكر الإسلاميين أو رجال الدولة على مرشح واحد يمثلهما، فثمة مؤشرات على إمكانية توافق معسكر اليسار على مرشح واحد ربما نتيجة الشعور بتضاؤل فرص كل مرشحي اليسار.
4- على رغم الاختلافات الفكرية والسياسية بين المرشحين فإن هناك تشابهاً لافتاً بين البرامج، واستخفافاً بأهمية البرامج لدى المرشحين والناخبين تجسد في عدم إعلان عديد من المرشحين عن برامجهم، وتتحدث كل البرامج تقريباً عن الحريات العامة ومكافحة الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية، واستعادة دور مصر الخارجي كغايات وأهداف عامة من دون تحديد إجراءات أو آليات التنفيذ، ولا تفصح البرامج عن صيغة التوازن بين اقتصاد السوق وتحقيق العدالة الاجتماعية والحفاظ على دور تنموي للدولة. والمدهش أن كل المرشحين يفترضون في شكل خاطئ أن الرئيس لديه صلاحيات واسعة في نظام رئاسي، أو نظام مختلط. وأعتقد أن تشابه البرامج يكشف عن عدم اهتمام المرشحين بأهمية تعميق الوعي السياسي وتغيير الثقافة السياسية من خلال الاحتكام للبرامج في تحديد اختيارات الناخبين، عوضاً عن الرهان على شخصية المرشح أو انتمائه السياسي أو الحزبي. وتجدر الإشارة هنا إلى أن اثنين فقط من المرشحين الخمسة المتصدرين للسباق ينتمون إلى أحزاب سياسية، بينما لا ينتمي أبو الفتوح وشفيق وعمرو موسى لأي حزب سياسي.
5- الحضور الضعيف أو الباهت للأحزاب السياسية يقابله حضور طاغ للإعلام والدعاية ولرأس المال السياسي، مقابل عدم قدرة لجنة الانتخابات على التدقيق في مصادر التمويل وكلفة الحملات الدعائية والتي ينص القانون على ألا تزيد على 10 ملايين جنيه، وهو رقم متواضع قياساً بالإنفاق على حملات بعض المرشحين، ما يُثير شكوكاً مشروعة حول المساواة والعدالة في السباق الانتخابي، وضمانات ألا يخضع الرئيس القادم للجهات والأشخاص الذين تكفلوا بتمويل حملته الانتخابية، في هذا الإطار برز دور الصحف والقنوات الخاصة التي يمتلكها رجال أعمال وأحزاب في الدعاية للمرشحين، وتغطية السباق الانتخابي، بينما تراجع دور إعلام الدولة رغم منحه أوقاتاً متساوية للمرشحين لتقديم برامجهم. فمعدلات مشاهدة التلفزيون الرسمي متراجعة بالنظر إلى ضعف صدقيتها واعتمادها على أشكال وبرامج تقليدية تفتقر للحيوية والتجديد.
6- يكاد ينحصر السباق في خمسة مرشحين هم شفيق وحمدين صباحي وموسى وأبو الفتوح ومرسي، ومع ذلك يصعب على أي منهم حسم المعركة من الجولة الأولى والتي تتطلب الفوز بغالبية الأصوات (51 في المئة) وبالتالي ستجرى جولة إعادة بين الاثنين الحاصلين على أعلى عدد من الأصوات، وأعتقد أن واحداً منهما سيكون من المعسكر الإسلامي ما يفتح المجال لعقد تحالفات وصفقات جديدة، ويثير مخاوف من تجدد الانقسام والاستقطاب في المجتمع بين القوى المدنية والإسلامية، حيث ستتوحد كل منها خلف مرشح حتى وإن لم ينتمِ إلى معسكر الثورة، مع استدعاء الدين وتوظيفه على غرار ما جرى في استفتاء التعديلات الدستورية والانتخابات البرلمانية.
7- الملاحظات السابقة لا تخفي أزمة الثقة في نزاهة العملية الانتخابية، وما قد يترتب عليها من إشكاليات تتعلق بقبول نتائجها، وشرعية الرئيس المنتخب، وفرص الاستقرار وانتقال السلطة من المجلس العسكري. وترتبط أزمة الثقة بأخطاء المرحلة الانتقالية والشك في نيات المجلس العسكري، وانقسام النخبة، وعدم اتفاقها على قواعد العملية السياسية، إضافة إلى التشكيك في المادة 28 التي تحصن قرارات اللجنة المشرفة على الانتخابات من الطعن أمام القضاء. ومعروف أن قرارات اللجنة باستبعاد صلاح أبو إسماعيل وخيرت الشاطر وعمر سليمان وآخرين وقبول طعن أحمد شفيق أثارت جدلاً قانونياً وسياسياً مشروعاً، لكن أبو إسماعيل وأنصاره رفضوا قرار اللجنة وانتقلوا به إلى دائرة الصدام والتهديد باستخدام العنف في سابقة تنذر باحتمال عودة بعض جماعات الإسلام السياسي للعنف.
الملاحظة الأخيرة قد تلعب دور المفجر للأزمة السياسية وعملية تسليم السلطة وربما الدخول إلى سيناريو الفوضى، خصوصاً أن أخطاء المرحلة الانتقالية وأزمة الثقة والاتهامات الجاهزة بالتزوير تفسر كثيراً من المواقف وردود الأفعال في الساحة السياسية قبل الانتخابات، وبالتالي فقد ينفجر الموقف في حالة فوز شفيق أو عمرو موسى المحسوبين على النظام القديم، وساعتها سيكون من السهل على المعترضين استدعاء اتهامات التزوير وعودة «الفلول» وسرقة الثورة كي يحركوا الشارع ويعودوا إلى الميدان، وعندها قد لا يجد الجيش بديلاً عن الاستمرار في الحكم، وإطالة أمد المرحلة الانتقالية في ظل وجود رئيس منتخب لكن مطعون في شرعيته.
--------------------
* نقلا عن الحياة اللندنية، الأربعاء، 9/5/2012.