بدأت إشارة الخروج تومض في أفغانستان. ففي الأسبوع الماضي، زار أوباما كابول سراً ووقع اتفاقاً يحدد الخطوط العريضة للدعم الأميركي لأفغانستان بعد انسحاب القوات في عام 2014. كما تحدث إلى الأميركيين حول الحرب ضمن خطاب ألقي في ذروة أوقات المشاهدة. والملفت أن الاهتمام الأميركي كان وما زال منصباً في المقام الأول على الدعم الأمني لأفغانستان. ولكن ماذا أيضاً عن الانتقال السياسي هناك؟
ربما يلزم التنويه هنا إلى أن الانتخابات الرئاسية الأفغانية مقررة أيضاً في 2014، ولكن ثمة أحاديث تقول إنه قد يجري تقديمها إلى 2013 حتى لا تتداخل مواعيدها مع الانسحاب التدريجي المرتقب لقوات "الناتو". غير أنه لا يوجد حتى الآن أي مخطط عملي لانتقال سلس للسلطة السياسية. ولذلك، على صناع السياسات التساؤل حول ما تستطيع الحكومتان الأفغانية والأميركية القيام به لضمان انتقال سلس بدون ترك فراغ سياسي وشيك وصراع أهلي ممكن.
ولئن كانت أفغانستان تفتقر تقليديّاً لقيادة وطنية فعالة، فإن الحكومتين الأفغانية والأميركية فشلتا على مر السنين في تطوير طبقة سياسية ناضجة يستطيع الشعب الأفغاني اختيار زعمائه منها على نحو ديمقراطي. وهذا الفشل يمتد ليشمل أيضاً الوظيفة العمومية، التي تعد فاسدة وغير كفؤة عموماً وتشتغل تحت شبكة واسعة من الزبونية والمحسوبية السياسية. ذلك أنه بعد أكثر من عشر سنوات على الغزو الأميركي لأفغانستان بهدف خلع "طالبان" والقضاء على دعمها لـ"القاعدة"، ما زال قطاع الوظيفة العمومية غير قادر على توفير الخدمات الأساسية للشعب الأفغاني.
وفي هذه الأثناء، يزداد القلق في كابول من أن يحاول كرزاي الاحتذاء ببوتين في الانتخابات المقبلة. ذلك أنه على غرار ما حدث مع الرئيس الروسي بوتين في 2008، فإن كرزاي غير مؤهل دستوريّاً للترشح لولاية ثالثة. غير أن ثمة اليوم بعض التكهنات التي تذهب إلى أنه سيقوم باختيار خلف له في منصب الرئيس بينما يحافظ كرزاي على وضعه باعتباره "الرجل القوي" ويدير العرض من خلف الكواليس -محافظاً على الكرسي دافئاً إلى حين عودته إليه.
واعتماداً على من قد يختاره كرزاي لخلافته، فإن من شأن مثل هذه الخطوة أن تثير غضب كثيرين في أفغانستان، ولاسيما بين أعضاء مجموعة المعارضة، "تحالف الشمال" السابق. وثمة العديد من الأسماء يجري تداولها، من بينها قيوم كرزاي، الشقيق الأكبر لحامد كرزاي، المؤثر في السياسة والأمن الأفغانيين. غير أن المرشح المفضل للرئيس كرزاي قد يكون "فاروق وارداك"، وزير التعليم الحالي. فعلى غرار كرزاي، ينتمي وارداك أيضاً إلى البشتون. والرجلان تجمع بينهما علاقة وثيقة. وإذا اختار كرزاي إعلان دعمه صراحة لترشح ممكن لوارداك، فإن ذلك يمكن أن يحشد دعماً عامّاً واسعاً بين الناخبين البشتون الذين يرجح أن يدعموا انتخابه. وعلى رغم افتقاره للكاريزما، إلا أن وارداك يعتبر عموماً واحداً من أكفأ وزراء كرزاي.
وبغض النظر عما إن كان ذلك صحيحاً أم لا، فهناك تصور متزايد في أفغانستان بأن الولايات المتحدة تحاول التأثير في الحياة السياسية الداخلية. ومما عزز هذا التصور الاتصالاتُ الأخيرة لعدد من أعضاء الكونجرس مع شخصيات سياسية أفغانية. فبعض الأعضاء مثل عضو مجلس النواب الأميركي "دانا رورباكر"، وهو جمهوري من كاليفورنيا، يبدون منحازين إلى شخصيات من المعارضة الأفغانية ترغب في تجديد الدولة بشكل راديكالي وإبطال طابعها المركزي. والواقع أن كره "رورباكر" لكرزاي معروف لدى القاصي والداني، وقد طلبت منه وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون شخصيّاً عدم الانضمام إلى وفد من الكونجرس زار كابول في أبريل الماضي. ولم يسافر "رورباكر" إلى كابول بالفعل، ولكن أعضاء آخرين ذهبوا والتقوا مع شخصيات من المعارضة.
والواقع أن إدارة أوباما نفسها لا تؤيد اللامركزية. ذلك أنه في حال تبنيها، فإنها يمكن أن تشمل، من بين أشياء أخرى، منحَ مجالس الأقاليم سلطة تشريعية، وانتخابَ حكام الأقاليم بدلاً من تعيينهم من قبل الرئيس. كما ستكون للحكام المنتخَبين سلطة معتبرة، ومن ذلك القدرة على جباية ضرائبهم الخاصة والقيام بكل التعيينات المهمة على صعيد الإقليم.
وربما ينجح هذا الأمر في أميركا، ولكن أفغانستان ليست أميركا. فمنح حكام الأقاليم السلطة لتوظيف وإقالة الموظفين العامين وجباية ضرائبهم الخاصة بدون مشاركة أو مراقبة من كابول قد يخلق ويدعم "الرجال الأقوياء" المحليين وهياكلَ سلطةٍ موازية يمكن أن تفضي إلى زعزعة الاستقرار. كما أن مثل هذا النظام يمكن أن يؤجج توترات إثنية تغلي تحت السطح أصلاً؛ إذ يمكن أن يؤدي إلى خلق "بشتونستان" ذات أغلبية بشتونية منفصلة عن كونفدرالية من الأقاليم التي يشكل فيها الطاجيك والأوزبك والهزارة الأغلبية.
وعلاوة على ذلك، فمن شأن مثل هذه الاستراتيجية القائمة على التقسيم الناعم أن تفتح الباب أمام عمليات تطهير عرقي. ويكفي هنا إلقاء نظرة سريعة على التاريخ -في الهند والبوسنة وفلسطين وقبرص- حيث يشير إلى أن تقسيم كيانات سياسية مختلطة كان دائماً تقريباً مصحوباً أو مسبوقاً بتطهير عرقي أو عنف إثني كبير.
إن الدعم الأميركي في أفغانستان خلال العقد الماضي كان قيماً جداً، وإن المسؤولين الأميركيين لديهم الحق في انتقاد الحكومة الأفغانية، غير أن أي خطوة في اتجاه اللامركزية أو الدعم لفصيل معين على حساب آخر يمثل تدخلاً في الشؤون الداخلية لأفغانستان ويجب تجنبه. وما يتعين على إدارة أوباما والكونجرس القيام به هو الشروع في الانتقال من التركيز على الأمن إلى تركيز يبني القدرات السياسية والحكامة الجيدة لأفغانستان. وغني عن البيان أن انتخابات 2014 تكتسي أهمية بالغة للغاية. ولذلك، يجب اتخاذ خطوات حقيقية وملموسة نحو انتقال سلس ومسؤول للسلطة. فالوقت بدأ ينفد!
-----------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الإثنين 7/5/2012.