مع مرور أكثر من عام على الثورتين التونسية والمصرية، اللتين أسقطتا نظامين سلطويين ديكتاتوريين، نظام "بن علي" في الأولي، و"مبارك" في الثانية، ونجاح الثورة الليبية في إنهاء حكم العقيد "معمر القذافي"، والتوصل لتسوية لإنهاء الأزمة السياسية في اليمن، واستمرار الثورة في سوريا -إلى يومنا هذا- مع ارتفاع عدد القتلي من المتظاهرين السوريين، وعدم نجاح الثورة، وانتقالها لدول كانت مرشحة لأن تشهد ثورات شعبية كالجزائر والمغرب، رغم أن أوضاعهما السياسية، والأمنية، والاقتصادية، والاجتماعية لا تختلف كثيرا عن الدول التي شهدت ثورات أطاحت بأنظمتها السياسية، وعدم انتقالها -أيضا- للدول النفطية الملكية، اهتمت دور النشر الغربية بالأساس والعربية بنشر كتب خلال الأشهر الأولى من العام الجاري، تتنوع موضوعاتها بين توصيف أحداث الثورات العربية، وأخري تقدم تحليلا لأسباب اندلاعها، وتقديم رؤية إلى أن تتجه منطقة الشرق الأوسط بعد "الربيع العربي".
الاتجاهات الرئيسية للكتب
خلال الأشهر الثلاثة من العام الجاري، نشرت كبريات دور النشر الغربية والأمريكية خاصة والعربية كتبا عن الثورات العربية، مع مرور عام على اندلاعها. وقد انقسمت تلك الكتب لثلاثة اتجاهات رئيسية، هي على النحو التالي:
أولا- مذكرات لمشاركين في صناعة الثورات العربية بالتخطيط والتنفيذ. ففي الأول من يناير من العام الجاري، نشرت في الولايات المتحدة الأمريكية مذكرات "وائل غنيم"، مهندس الكمبيوتر الثلاثيني الذي يعده البعض مهندس ثورة الخامس والعشرين من يناير .2011 فهو المؤسس لصفحة "كلنا خالد سعيد" على موقع التواصل الاجتماعي "الفيسبوك" في صيف 2010، والتي تعد الباكورة التمهيدية لقيام ثورة حقيقية على القهر والظلم اللذين سادا في فترة ما قبل ثورة يناير. وقد ترجم الكتاب إلى اللغة العربية، ونشر مواكبا للاحتفالات بالعام الأول على ثورة الخامس والعشرين من يناير.
يعرض الكتاب البدايات الحتمية للثورة المصرية من تزايد القبضة الأمنية، وتعسف رجال الأمن في التعامل مع المواطنين، وديكتاتورية وسلطوية نظام مبارك، وتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين.
وقد يختلف قارئ الكتاب على البداية الحقيقية للثورة المصرية، ولكن الكتاب يقدم رؤية ومعلومات غير معلومة للكثيرين حول التخطيط والإعداد للثورة المصرية. ويخرج القارئ بقناعة بأنه لم يكن هناك تخطيط مسبق وخطة معدة لثورة مصرية، ولكنها كانت نتاج اجتهادات ومحاولات، لها جذور منذ فترة طويلة، اجتمعت كلها مع عوامل أخرى على إنجاح أن تكون هناك ثورة في الخامس والعشرين من يناير، وأن تنجح في إسقاط نظام "مبارك" في ثمانية عشر يوما.
ثانيا- مذكرات لمتابعين ومشاركين في مليونيات ميدان التحرير. فمع بداية العام الجاري، وقرب موعد الخامس والعشرين من يناير، وبدايات الاحتفال بعام على نجاح الثورة المصرية، ظهرت مجموعة من تلك الكتب باللغتين العربية والإنجليزية. وقد قدم مؤلفوها رؤيتهم لتطورات الأحداث منذ بداية المظاهرات في الخامس والعشرين من يناير 2011، وتطورات الأوضاع في كافة ميادين مصر الرئيسية، وبالأساس ميدان التحرير، خلال تلك المرحلة، إلى خطاب نائب الرئيس السابق "عمر سليمان"، الذي يعلن فيه تنحي "مبارك"، وسقوط نظامه في الحادي عشر من فبراير .2011 بجانب مذكرات لشخصيات كانت قريبة من النظام المصري و"مبارك" وأسرته، كانت شاهدة على تصرفات النظام ورؤيته لتطورات الثورة المصرية. وقد قدمت تلك المذكرات معلومات ومشاهد غائبة عن كثير من القراء والمشاركين في ميلونيات الثورة المصرية.
ثالثا- كتب تقدم تحليلا للثورات العربية بعد مرور عام عليها، وتسعي من خلال فصولها لبحث الأسباب السياسية، والاقتصادية، والأمنية والاجتماعية لانتفاضات الشعوب العربية ضد أنظمتها الحاكمة التي كانت قابضة على مقاليد ومؤسسات الدولة العربية لعقود طويلة، معتمدة في ذلك على ممارسة القهر والقمع لسنوات طويلة، واستشراف مستقبل الدولة العربية وسياساتها، مع تصاعد نفوذ الحركات الإسلامية في المشهد السياسي العربي.
ترى تلك الكتابات أن منطقة الشرق الأوسط تشهد تحولات دراماتيكية لا يمكن إنكارها، لكنها ترى أن التحول المفصلي في تاريخ منطقة الشرق الأوسط، بعد موجة الثورات العربية يتمثل في تنامي قوة التيارات الإسلامية وأحزابها في المشهد السياسي العربي. دفع ذلك كثيرا من الكتابات الغربية لإثارة تساؤل رئيسي، مفاده: هل يمكن للقوي الإسلامية وأحزابها السياسية الصاعدة سياسيا استنساخ نموذج حزب "العدالة والتنمية" التركي في البلدان العربية؟.
وقد أجمعت معظم الكتابات الغربية على صعوبة استنساخ نموذج حزب "العدالة والتنمية" التركي في البلدان العربية، لصعوبة معالجة القوي الإسلامية الصاعدة الأوضاع الاقتصادية المتدهورة عربيا، وعدم النضج السياسي للأحزاب الإسلامية التي تمكنها من تحقيق الأهداف الثورية التي ولدت مع الثورات العربية، وارتفع سقفها مع نجاح الثورات في الإطاحة بأربعة أنظمة ديكتاتورية (نظام "مبارك" في مصر، و"بن علي" في تونس، و"معمر القذافي" في ليبيا، و"علي عبد الله" صالح في اليمن)، ناهيك عن التدخلات الخارجية، لاسيما الأمريكية المعارضة للصعود الإسلامي في المنطقة.
ولذا، تسعى الولايات المتحدة لاتباع سياسات من شأنها احتواء القوي الإسلامية الصاعدة، وأي تغيرات في سياسات الدول العربية التي شهدت ثورات خلال العام الماضي. وأخيرا، فقد أدي تزايد قوة الإسلاميين على الساحة السياسية العربية لصعود جيل معارض للقوى الإسلامية وسياساتها، سواء داخل عدد من تلك الحركات الإسلامية، أو من القوى المدنية الليبرالية والعلمانية.
المخاوف من الصعود الإسلامي
ترجمت المخاوف الغربية من الصعود الإسلامي، واحتمالات تأثيره في السياسات العربية تجاه القوي الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، في اهتمام أجندة المؤتمرات الدولية والإقليمية التي عقدت خلال الأشهر الثلاثة الماضية من العام الجاري بالثورات العربية.
ففي مؤتمر ميونخ الثامن والأربعين للأمن العالمي، الذي جاء بعنوان "بناء الأمن العالمي في القرن الحادي والعشرين"، في الفترة من الثالث إلى الخامس من فبراير من العام الجاري، وكذا المنتدي الثاني والأربعين للاقتصاد العالمي، الذي جاء تحت عنوان "التحول الكبير والبحث عن نماذج جديدة"، في الفترة من الخامس والعشرين من يناير إلى التاسع والعشرين من الشهر ذاته، ناقش المشاركون الغربيون، بحضور عديد من المسئولين العرب والنشطاء وقيادات الثورة في البلدان العربية، مدي تأثير صعود القوي الإسلامية في السياسات العربية تجاه القوي الغربية، واستشراف مستقبل الدول العربية وسياساتها، مع وصول القوي الإسلامية إلى سدة الحكم في عديد من الأنظمة العربية.وقد عبرت المناقشات عن المخاوف الغربية من الصعود الإسلامي والتحولات التي تشهدها المنطقة.
من جانبها، اهتمت إسرائيل بمدي تهديد الصعود الإسلامي في المنطقة أمنها القومي ووجودها ومصالحها في منطقة الشرق الأوسط، ليتحدث عديد من المحللين والكتاب الإسرائيليين ونظرائهم الغربيين عن "الخريف العربي". وقد تجلي هذا في مؤتمر هرتزليا الثاني عشر، الذي جاء تحت عنوان " في عين العاصفة: إسرائيل والشرق الأوسط"، والمؤتمر السنوي لمنظمة "إيباك"، إحدي أكبر جماعات الضغط الموالية لإسرائيل وسياساتها في الولايات المتحدة الأمريكية.
وقد عبرت كلمات المسئولين الإسرائيليين السياسيين والأمنيين في المؤتمرين عن مدي القلق الإسرائيلي من الصعود الإسلامي، والتغيرات التي تشهدها المنطقة على أمن وبقاء إسرائيل، وهو الأمر الذي دفع المسئولين الأمريكيين إلى تقديم التطمينات إلى إسرائيل بأن أمنها لا ينفصل عن الأمن القومي والمصالح الأمريكية عامة، وعلى وجه الخصوص في منطقة الشرق الأوسط.
ومع الاهتمام الغربي بالثورات العربية، ومستقبل السياسات العربية بعد الثورات، كان هناك اهتمام بمستقبل القوة الأمريكية ومكانة الولايات المتحدة عالميا، في ظل نظام دولي متغير، على خلفية صعود قوي دولية جديدة منافسة للولايات المتحدة على الصعيد الدولي، وهو اهتمام انعكس في صدور ثلاثة كتب خلال الأشهر الثلاثة الأولي من العام الجاري، تناقش مستقبل القوة الأمريكية، والقيادة الأمريكية للنظام الدولي.
الكتاب الأول لـ"روبرت كاجان" تحت عنوان "العالم الذي صنعته أميركا"، والذي يتحدث فيه عن أنه لا بديل لوجود الولايات المتحدة على قمة النظام الدولي وكقائدة له، وأنه إذا انهارت القوة الأمريكية، فإن النظام الدولي سوف ينهار، وأن النظام الليبرالي لن يستطيع البقاء دون القيادة الأمريكية. ويدعو الكتاب الثاني لمستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق، "زبينجيو بريجنسكي"، والمعنون "رؤية استراتيجية: أمريكا وأزمة القوة العالمية"، إلى ضرورة مراجعة الرؤية الاستراتيجية الأمريكية، على خلفية بحثه أسباب تراجع القوة الأمريكية إقليميا ودوليا، في ضوء التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها، والأزمة الاقتصادية التي تعصف بالاقتصاد الأمريكي منذ منتصف عام 2008، وغياب الرؤية الواضحة لمستقبل الولايات المتحدة.
ويشير الكتاب الثالث لـ"تشارلز كوبشان"، والذي حمل عنوان "ليس عالم أحد: الغرب، صعود الباقي، تحول عالمي قادم"، إلى أن العالم يتجه نحو المزيد من التنوع، بحيث لن ينتمي إلى أحد، وأنه لن يعكس عالما متعدد الأقطاب فحسب، ولكنه يعكس تنوعا في القيم والمفاهيم، والتي ستبقي بدون مركز ثقل يهيمن عليها، ويكون الواصي على ترويجها وحمايتها.
(*) تقديم لقسم الكتب والمؤتمرات في مجلة السياسة الدولية ، العدد 188 ، إبريل 2012