لفترة طويلة جدا إلى الآن، كانت مساءلة القيادة عن سوء سلوك قواتنا في فترات الحرب نظرية أكثر منها واقعية. وتشير آخر فضيحة ظهرت على السطح في أفغانستان - صور ضباط أميركيين يعبثون بأشلاء لقتلى بحركة طالبان - إلى أنه فات أوان مواجهة هذه المشكلة.
وفي قضية المساءلة، يبدو منهج الجيش واضحا: مع السلطة، تأتي المسؤولية بشكل أكثر تحديدا. يتحمل القادة المسؤولية عن كل شيء يحدث في نطاق اختصاصهم. ومن المفترض أن هذه القاعدة تنطبق على الجنرالات أصحاب الرتب العليا، تماما مثلما تنطبق على الضباط الأقل رتبة.
في فترة ما، كان معيار تطبيق هذا النظام واضحا: إذا انتصرت، فستجني الشهرة والثروة؛ أما إذا هزمت، فستتجرع كأس الهزيمة. كقائد أعلى للجيش إبان الحرب الأهلية، طبق أبراهام لينكولن هذا المعيار بشكل قاس لا يعرف الرحمة. نتيجة لذلك، حقق أوليسيس غرانت وويليام شيرمان معيار البقاء. في الوقت نفسه، وجد إرفين ماكدويل وجورج مكليلان وجون بوب وأمبروس بيرنسايد وجوزيف هوكر وجورج ميد، بين مجموعة أخرى من الأشخاص متوسطي القدرات، أنفسهم عاطلين أو متقلدين مناصب أدنى مرتبة.
في حقبة ما بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول)، تجاهل الرئيس جورج بوش الابن هذا المعيار. وفي عام 2003، ترأس الجنرال تومي فرانكس حملة في العراق نشرت جيشا محليا مثيرا للشفقة، حتى مع تجاهل فرانكس وضع ما يمكن أن ينجم عن ذلك في الحسبان. ولم تأت العاقبة متأخرة: فوضى ونزاع أشد قبحا وأعلى تكلفة مما قد راهن عليه الأميركيون.
من المحتمل أن يضع المؤرخون فرانكس مع بيرنسايد وهوكر، وليس مع غرانت وشيرمان، غير أنه لأي سبب من الأسباب، تستر بوش على مواطن ضعف قائده الميداني، ووصفه بالقائد العظيم ومنحه ميدالية الحرية. إن فرانكس لم ينتصر أو يهزم في حربه؛ وإنما فقط أساء إدارتها، ثم مضى قدما نائيا بنفسه عن حالة الارتباك والفوضى الناجمة. هنا كانت هناك سابقة مزعجة.
الحرب تسفر عن حالة من الهمجية، وأثبتت حرب العراق أنها ليست استثناء من تلك القاعدة. فسرعان ما ظهرت انتهاكات صارخة من قبل القوات الأميركية. ويقدم سجن أبو غريب مثالا شهيرا على وجه الخصوص لتلك الانتهاكات الفاضحة، ألا وهو مذبحة قرية حديثة. غير أنه كانت هناك أمثلة أخرى، معظمها بات طي النسيان الآن، على الأقل من جانب الأميركيين - من بينها مكافئ حركة التمرد العراقية لمذبحة بوسطن. وفي الفلوجة في 28 أبريل (نيسان) 2003، حينما كان فرانكس ما زال يتولى مهمة القيادة، فتحت القوات الأميركية النار على المتظاهرين العراقيين، مما تسبب في مقتل أكثر من اثني عشر فردا وإصابة عشرات آخرين.
ووصف البنتاغون كل حادثة من هذه الحوادث بالانحراف. وفي كل حالة من تلك الحالات، كانت التحقيقات المكثفة تسفر عن انتقاء مجموعة من صغار الضباط لعقابهم. وفي كل مثال من تلك الأمثلة، كان كبار القادة ينجون بفعلتهم دون أن يلحق بهم أي أذى (أبو غريب هو الاستثناء الجزئي الذي يثبت القاعدة: في أعقاب الفضيحة، خسرت العميدة في الجيش الاحتياطي رتبتها، وهو مصير لم يشاركها فيه أي نظير من الرجال وأي جندي نظامي).
وفي يوم سابق، ربما لا يكون سوء الإدارة هذا قد شكل أهمية. عندما اتجهت قوات شيرمان نحو البحر في عام 1864، لم يعبأ كثيرون بأي فظائع ربما يكونوا قد ارتكبوها. لم يكن موضوع التدريب، في الأساس، أسر قلوب وعقول الحلفاء، مثلما أشار شيرمان بإيجاز، بل «جعل جورجيا تصرخ». بالمثل، على الرغم من أن انتهاك الأشلاء الأفغانية من قبل القوات الأميركية تتضاءل فظاعته اليوم مقارنة بانتهاك حرمة القتلى اليابانيين أثناء الحرب العالمية الثانية، فإن التحقق من أن القوات البحرية في بيليليو أو أوكيناوا ملتزمة باتفاقيات لاهاي لم يظهر كأولوية. كانت المهمة هي القتل.
غير أنه، شئنا أم أبينا، تختلف حروبنا عن تلك الحروب. فالتعريف الواهن لمسؤولية القيادة الذي ساد بعد 11 سبتمبر 2001، لم يعف كبار القادة من المسؤولية فحسب؛ بل إنه في حروب لم يكن فيها القتل كافيا، جاء على حساب كفاءة الجيش بشكل عام.
وعلى نحو يستحق الثناء والاحترام، عندما أصبح روبرت غيتس وزيرا للدفاع في عام 2006، سعى إلى القضاء على ثغرة عدم محاسبة كبار الضباط. فحينما أظهرت القوات الجوية اتجاها متعجرفا في إدارة مخزونها النووي، قام غيتس بإقالة رئيس أركان القوات. وعندما نشرت صحيفة «واشنطن بوست» خبرا عن الجرحى من المحاربين الذين تم احتجازهم في ظروف مخالفة للمعايير المتعارف عليها في وولتر ريد، سلم غيتس لكل من قائد المستشفى الذي يحمل نجمتين والجنرال الجراح الذي يحمل ثلاث نجمات إشعارات رفت.
عندما جلس الجنرال ستانلي ماكريستال، الذي وقع اختيار الرئيس أوباما عليه لإدارة الحرب في أفغانستان، متراخيا في حالة من اللامبالاة، بينما كان أعضاء فريقه يعربون عن ازدرائهم لمسؤولي الإدارة، خسر أيضا وظيفته. لم يقل ماكريستال نفسه أي شيء بغيض، إنما يكمن خطؤه في فشله في أن يوجه تابعيه كثيري الحديث بأسلوب مهين عدواني وفقا لمبدأ السيطرة المدنية للجيش.
وحينما يتعلق الأمر بالجرائم أو الاقتراب من ساحة المعركة - فظائع مثل تبول القوات على جثث قتلى حركة طالبان وحرق المصاحف وقتل المدنيين في حرب باردة - تسود أنماط ما قبل غيتس. وفي حالة اكتشاف خطأ، عادة ما يتم تحويل المسؤولية وتفرض عقوبات على صفوف الجنود أصحاب الرتب الأدنى من تلك التي يحملها الأفراد الذين قيل إنهم متحملون للمسؤولية. وانتهى الأمر بإثبات أن الجندي المخطئ هو الجندي الأدنى رتبة.
من المسلم به أن كل حادثة من تلك الحوادث تقع في سياق معين. إن الخلافات المطولة تقوض النظام، وقد كانت خلافات العقد الماضي هي الأطول في تاريخ الولايات المتحدة. الجنود الذين تم إرسالهم لشن حروب مخيبة للآمال، وفي الأغلب لا يمكن الانتصار فيها، والتي أصبح عامة الشعب يشعرون باللامبالاة تجاهها، يستحقون الشفقة بدرجة كبيرة. تضيف حقيقة أن تلك القوات من جيل يبدو أنه أجبر على تسجيل، وكذلك «مشاركة» تجاربه الشخصية - سواء أكانت مبتذلة أو تافهة أو مفسدة - مزيدا من التعقيد (لم تقم القوات البحرية التي نزعت أطقم الأسنان الذهبية من أفواه الجنود اليابانيين القتلى بتسجيل فعلتها على أجهزة «آي فون» وإرسال النتائج إلى شبكة من أفضل رفقاء السلاح).
إضافة إلى ذلك، فإنه لا ينبغي علينا أن نبالغ في الحديث عن قدرات سلطة القيادة. فقط الشخص الذي يجهل الخبرة العسكرية الفعلية هو من سيتخيل أن أمرا من جنرال أميركي يحمل أربع نجوم يترتب عليه موافقة حماسية وشاملة. عادة ما يساء فهم تلك التوجيهات أو يعاد تفسيرها أو يتم إغفالها أو يتم التمرد عليها بشكل انتقائي، ومن ثم تظهر الحاجة إلى إقرارها من جديد، مع المطالبة بالإذعان التام لها.
غير أن أي شخص يعتز بالمبدأ الاحترافي العسكري لن يرى تلك التفسيرات - أيا كانت قيمتها في تقديم سياق - على حقيقتها: مبررات لفشل متكرر في تفعيل المعايير. ويعتبر ذلك الفشل، الذي يقوض أي احتمال لنجاح المهمة، مهما كان غير محدد بشكل دقيق، في نهاية الأمر فشلا في القيادة.
وقد وقعت هذه الفضيحة الأخيرة، التي ظهرت على مرأى ومسمع من الجنرال جون ألين، فعليا في فبراير (شباط) 2010، عندما كان الجنرال ديفيد بترايوس، رئيس القيادة المركزية الأميركية في ذلك الحين، يتحمل المسؤولية كاملة عن اتجاه الحرب. يؤثر هذا الكشف على صورة التفوق والسيادة التي رسخها بترايوس ومعاونوه بعناية فائقة. غير أن الفترة الفاصلة بين الواقعة وإعلانها على الملأ تشير إلى أن هذه الحادثة ليس من المحتمل أن تكون آخر حادثة يتعين علينا أن نتحملها.
إن الوسيلة المثلى لوقف هذا السيل من الأخبار المحرجة القادمة من أفغانستان هو أن نعيد جنودنا إلى أرض الوطن، وهو خيار يجده كثير من الأميركيين جذابا جدا. ومع ذلك، فإنه في الفترة الفاصلة، علينا أن نعيد تأكيد معيار مسؤولية القيادة الذي قد أدركه لينكولن. بالفعل، عندما يتصرف الجنود على نحو سيئ، يجب أن يلقي النظام المشدد بوطأته على الأفراد مرتكبي الجرائم. غير أن سوء تصرف الجنود يعبر عن سوء تصرف مهني على جميع المستويات. لن يخمد الوباء إلا عندما ندركه.
لقد فهم غيتس الفكرة الأساسية. القادة يشكلون المؤسسات. غير أنه لا يمكن استبدال أي قائد - أحيانا ما لا يكون ثمة إجراء أفضل من استبدال بعض المسؤولين الذين يقتربون من صفوف كبار القادة لتركيز انتباه بقية الأفراد. بالنسبة لجيش أميركي يستعد لدخول عقد ثان منهك من الحرب المستمرة، تعتبر هذه واحدة من تلك الفترات.
----------------------------
* نقلا عن الحياة اللندنية، الثلاثاء 24 أبريل 2012.