لايزال صعباً توقع الاتجاه الذي سيمضي فيه الصراع على سوريا في عامه الثاني الذي بدأ قبل أسابيع قليلة. فكثيرة هي احتمالات التطور في مسار هذا الصراع. وإذ يبدو احتمال الحل السلمي مستبعداً، في الوقت الذي يزداد فيه الميل إلى "عسكرة" الاحتجاجات بعد أن بلغت وحشية النظام أعلى مبلغ، يصبح السؤال المطروح هو: إلى أي نوع من الحرب يمكن أن يتجه هذا الصراع؟ فرغم أن التركيبة الفسيفسائية للمجتمع السوري الذي يضم سنة وعلويين ومسيحيين ودروزاً وإسماعيليين وفقاً للانتماء الطائفي، وكرداً وعرباً حسب الانتماء العرقي، ورغم الوضع الغريب الذي تهيمن في ظله نخبة من إحدى الأقليات (العلوية) على سلطة الدولة... فقد لا يكون احتمال الحرب الأهلية على خلفية طائفية هو الأرجح، رغم الجدل الواسع الجاري حولها منذ مذبحة كرم الزيتون في حمص يوم 13 مارس الماضي. فلم تكن هذه مذبحة أهلية لأن من ارتكبها عناصر أمنية وشبيحة.
صحيح أن شبح الحرب الطائفية يبدو كما لو أنه يحوم في سماء سوريا منذ أشهر، لكنه لايزال بعيداً عن أرضها رغم تركيز الآلة الدعائية الرسمية فيها عليه. فالتحذير من حرب أهلية طائفية هو السلاح السياسي الوحيد بين يدي نظام لا يملك الآن غير أسلحة القتل والتعذيب والاعتقال.
لكن للحروب الطائفية مقومات وعوامل تتراكم عبر الزمن، وفي مقدمتها تنامي الكراهية بين فئات المجتمع أو بعضها. ولم تشهد سوريا مثل هذه الحال في العقود الماضية لأن الأسد الأب حرص على إيجاد نوع من توازن المصالح بهدف عدم إثارة غضب الأغلبية السنية.
وليس هناك، وفق الصورة التي يمكن تكوينها عن بُعد، ما يدل على وجود مقومات كافيه لحرب أهلية طائفية حتى الآن رغم تصاعد التوتر بل ازدياد حدته في بعض المناطق الأكثر اشتعالاً، خصوصاً في حمص التي يتجاور فيها السنة والعلويون والمسيحيون. فقد تركت عائلات سنية أحياء تسكنها أغلبية علوية مثل حي كرم اللوز، والعكس أيضاً، حيث يدفع التوتر المتزايد بعض السكان إلى المغادرة والتوجه نحو أحياء توجد فيها أغلبية من أبناء الطائفة، سواء في المدينة نفسها أو في مدينة أخرى.
غير أن هذه التحركات لا تشكل ظاهرة، ولا ترتبط في كل الأحوال بوجود تهديد حقيقي أو بحدوث استهداف على الهوية. فالروايات المتواترة تفيد بأن التوتر الطائفي يبدأ عادة بشكوك من جانب بعض قادة "تنسيقيات الثورة" تجاه موقف بعض الأفراد ودعمهم للنظام، أو شعور هؤلاء بالخوف من ردة فعل انتقامية قد تحدث ضدهم.
والحاصل أن هذا المستوى من التوتر المحدود لا يزال محصوراً في المناطق الأكثر تعرضاً للتنكيل، خصوصاً في حمص التي قدمت نحو ثلث شهداء الحراك الحالي. كما أن هذا الحراك ليس مقصوراً على السُنة الذين يمثلون جسده الأساسي. فقد التحق به، بل شارك فيه منذ البداية، بعض أبناء الأقليات. ومن الطبيعي أن يكون العلويون والمسيحيون هم الأقل مشاركة فيه. فالعلويون يخشون تعرضهم للانتقام إذا أُسقط نظام الأسد الذي تنشر آلته الدعائية الفزع في أوساطهم ليل نهار وبلا هوادة. والمسيحيون ينظرون حولهم حيث أدى الحراك في بلاد عربية أخرى إلى صعود حركات وأحزاب إسلامية إلى السلطة.
ومع ذلك لا يخلو حضور بعض رموز الأقليات السياسية والدينية والثقافية والفنية في الحراك السوري من دلالة يصعب تقليل أهميتها. فمن أبرز المعبرين عن هذا الحراك الآن رموز دينية علوية مثل الشيوخ: ياسين حسين ومهيب نصيافي وموسي منصور، وأخرى سياسية وفنية مثل محمد صالح العلي وفدوى سليمان وسمر يزبك. وهناك رموز مسيحية مثل ميشيل كيلو وفارس الحلو وجورج صبرا. كما يوجد رموز من الدروز مثل فنان الثورة سميح شقير وريما فليحان ومنتهى الأطرش (ابنة سلطان باشا الأطرش) وغيرهم. وقد أدان شباب من الدروز في "تنسيقية السويداء" وغيرها موقف قياديين غير سوريين من طائفتهم لدعمهم نظام الأسد.
لذلك لا يبدو احتمال الحرب الأهلية ذات الخلفية الطائفية هو الأقرب في سوريا، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار أن قلق الأقليات من النتائج التي يمكن أن يقود إليها التغيير، يوازنه ضيقها بسياسات النظام التسلطية التي أفقرت أكثر من نصف السوريين ولم تميز في ذلك بين سني وعلوي ومسيحي ودرزي.
وإذا صح هذا التقدير، ومع استبعاد احتمال حل سلمي ربما يعرف النظام أن فيه نهايته، يصبح الاحتمال الأقرب إلى معطيات الواقع الآن وتجربة العام المنقضي هو نوع من الحرب المزدوجة التي يقصد بها مزيج من الحرب الراهنة بين النظام والمحتجين المطالبين بإسقاطه مع توسع نطاقها واقترانها بحرب بالوكالة نتيجة ازدياد تدخل لاعبين إقليميين ودوليين فيها بأشكال مختلفة.
فليس لدى الأطراف المؤيدة للتغيير استعداد لتدخل عسكري وفق "الصيغة الليبية"، وقد لا تكون راغبة حتى في تدخل مباشر على مستوى أدنى. لكنها قد تضطر لاتخاذ تدابير لدعم المحتجين أو حمايتهم، خصوصاً بعد أن أسدل العام الأول للصراع ستاره على مشهد تراجعهم وتقدم قوات النظام لتدمير بعض أهم معاقلهم. ويمكن أن تشمل هذه التدابير تسليح المحتجين، وقد تصل في مرحلة تالية إلى إقامة ملاجئ آمنة لهم على حدود سوريا مع بعض جيرانها.
وسيزداد في المقابل الدعم الذي يتلقاه النظام من الأطراف التي تسانده، خصوصاً إيران على المستوى الإقليمي وروسيا والصين على الصعيد الدولي. وقد اقترن مطلع العام الثاني للصراع بعودة بوتين إلى الكرملين، وبدأ عهده الجديد بشن حرب سياسية ضارية على الغرب معتبراً أنه يتبنى "سياسة وقحة" تشارك في تغيير أنظمة عربية من أجل مصالحه الاقتصادية وليس حرصاً على حقوق الشعوب في هذه البلاد وفقاً لرأيه.
ويبدو بوتين عازماً على المضي في هذا الاتجاه مدفوعاً بما يعتبره مصالح اقتصادية واستراتيجية لبلاده. لذلك يصعب توقع إمكان تغير موقف روسيا في وقت قريب بخلاف ما حدث من قبل وكان آخرها في ليبيا. وكذلك الحال بالنسبة للصين.
ومن شأن ثبات روسيا والصين على موقفهما أن يجعل النظام السوري أكثر قدرة على الصمود وأوفر استعداداً للذهاب إلى مدى أبعد في استخدام القوة أملاً بإنهاء الاحتجاجات. ولأن احتمال نجاحه في ذلك محدود للغاية، لأنه فقد شرعيته من الناحية الفعلية بمقدار ما أسال من دماء، فهذا يعني أن الحرب الداخلية مرشحة لأن تتواصل لوقت قد لا يكون قصيراً، مقترنةً بصراع إقليمي ودولي يمثل نوعاً من الحرب بالوكالة.
----------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، بتاريخ 2012-04-19.