الأربعاء 18 -4-2012
جذب حادث إصابة رجال الأمن السبعة، في منطقة العكر في البحرين، الانتباه مجددا لما يجري في البحرين. فطوال الفترة الماضية، لم يكن هناك اهتمام كبير بما يجري في هذا البلد ، على الأقل ما يجري داخل مناطق "الصمود"، وتشمل الديه وسنابس وجد حفص، كما يطلق عليها المحتجون، ربما لاهتمام وسائل الإعلام بمناطق أكثر سخونة.
وقد يكون حادث العكر في حد ذاته ليس جديدا، حيث تشهد البحرين حالة مستمرة من عدم الاستقرار التي تصاحبها أعمال عنف محدود النطاق، تستهدف بالأساس عناصر الشرطة، تجلت طوال الفترة الماضية في عدة مواجهات بين رجال الأمن والمتظاهرين، واعتماد أجهزة الأمن على استعادة الأمن على الوجود الفعلي لعناصر الشرطة في الشوارع، وانتشار نقاط التفتيش في مداخل ومخارج المدن، واستمرار وجود مناطق غير آمنة، تتركز في مناطق المظاهرات، والتي تبلغ -وفق بعض التقديرات- عشر مناطق تحيط بالعاصمة.
ولكن أهمية هذا الحادث مرتبطة بالسياق المصاحب له. فمن حيث التوقيت، وقع الحادث أثناء محاولات النظام الحاكم إقناع المجتمع الدولي بأن كل شيء في البحرين يسير وفق ما أوصت به لجنة بسيوني، ووقع بعد أيام من إقرار مجلس النواب تعديل 21 مادة من دستور البلاد، نزولا على ما انتهى إليه الحوار الوطني. حيث كشف هذا الهجوم عن أن كل شيء "لا يسير" كما أوصت به اللجنة، وأن هناك أسبابا تدعو إلى العنف في البحرين.
كما ترتبط أهميته بما استدعاه من ردود فعل تدينه من قبل البيت الابيض والأمم المتحدة، حيث حرص كل منهما على إدانة الهجوم، وإدانة "الاستخدام المفرط للقوة ضد المتظاهرين"، كما أدانته منظمات وأطراف إقليمية أخرى، مثل مجلس التعاون الخليجي، وأدانته تونس، والعراق، والإمارات، والسعودية لكونه "عملا إرهابيا"، وهو ما يعد تطورا نوعيا مهما حول كيفية تصوير هذه الأطراف لما يجري في البحرين.
وحالة عدم الاستقرار التي تشهدها البحرين ليس من السهل فهمها، خاصة في ظل تعدد الروايات حول توصيف أسباب الاحتجاج والتظاهر. فالوضع هناك شديد التعقيد، سواء من حيث التفاعلات الذي تتم فيه، أو من حيث الأطراف المنخرطون فيه، وذلك رغم صغر حجم البحرين كدولة، ورغم ذلك يمكن تحديد مجموعة من "الحقائق" حول الوضع في البحرين، بعد مرور ما يزيد على سنة على احتجاجات 14 فبراير 2011.
صراع من أجل الشرعية.
تتمثل الحقيقة الأولى في أن جزءا كبيرا من الصراع في البحرين، في الفترة التالية على فض اعتصام دوار اللؤلؤة، يدور حول من يملك الشرعية. ويمكن هنا الحديث عن ثلاث قوى أطرف في هذا الصراع، لكل منها تصورها الخاص لشرعية النظام في مواجهة شرعيتها الذاتية، ولاستراتيجية تعزيز تلك الشرعية. تتمثل القوى الأولى في النظام الحاكم، الذي يسعى لإثبات شرعيته الذاتية، وأن سياساته التي مارسها في مواجهة المتظاهرين، منذ فبراير 2011، وفي الفترة التالية على رفع حالة السلامة الوطنية، "مشروعة"، في إطار ممارسة السيادة، واستعادة الأمن. وفي إطار ذلك، يرى أن شرعية المعارضة السياسية مرتبطة بحقها في العمل في إطار النظام القائم وما يرتكز عليه من قوانين، دون أن تنتقص شيئا من شرعية النظام، ويعبر عن هذه المعارضة الجمعيات السياسية التي تعمل وفق القانون، وبالتالي يستبعد النظام القوى المعارضة من غير الجمعيات السياسية، والتي تعبر عنها حركة حق، والوفاء، وحركة أحرار البحرين، وحركة شباب 14 فبراير.
ويستخدم النظام في إطار تعزيزه شرعيته الذاتية مجموعة من الاستراتيجيات، منها "التظاهر بأن كل شيء" يسير بصورة عادية، و"تجاهل" أي مشاكل أو أزمات لها علاقة بالمعارضة غير الشرعية، وتحريك أبواق تتحدث عن "تحريك إيران للقوى المعارضة". وفي إطار ذلك، تم عقد جلسات الحوار الوطني في يوليو 2011، والإعلان عن نجاحه، رغم مقاطعة قوى مهمة له، وتم الإعلان عن تشكيل لجنة لتقصي الحقائق برئاسة شريف بسيوني، وإقرار تعديل 21 مادة من مواد الدستور من قبل مجلس النواب في أبريل 2012.
وتتمثل القوة الثانية في المعارضة المنظمة التي يعبر عنها ائتلاف الجمعيات السياسية المعارضة، وعلى رأسها جمعية الوفاق، وتستند في تحركها على أنها صاحبة الصوت "المسموع" في الخارج، لكونها القوى المعارضة، وليست الموالية للنظام، وأنها تتمتع بشرعية ما، مصدرها كونها "معارضة" وغير ممثلة في النظام القائم على نحو يعكس حجم من تمثلهم من المواطنين. ورغم ذلك، لا ترى أن شرعية النظام قد تلاشت، ولذا تقبل الانخراط معه من حيث المبدأ من أجل تحقيق أهدافها السياسية. وتتبنى هذه القوى استراتيجية "الضغط" على النظام من أجل الدخول معه في حوار وفق وثيقة المنامة التي أعلنت عنها في أكتوبر 2011، ووفق المبادئ التي أعلن عنها ولي العهد، الأمير سلمان بن حمد في مارس 2011، والتي شملت الحوار حول مجلس نواب كامل الصلاحيات، وحكومة تمثل إرادة الشعب، ودوائر انتخابية عادلة، والتجنيس، ومحاربة الفساد المالي والإداري، وأملاك الدولة، ومعالجة الاحتقان الطائفي، وغيرها من القضايا التي يتم الاتفاق عليها، مع إمكانية طرح ما ينتهي إليه الحوار في استفتاء شعبي.
ولا تقبل الجمعيات أي محاولات للحوار دون إعلان الحكومة صراحة قبولها بهذه الشروط، وهو ما لم يتحقق حتى اليوم. وفي إطار عملية تكثيف الضغوط على النظام، تنشط بصورة مكثفة في المنظمات والمحافل الدولية من أجل عرض قضيتها.
وتتمثل القوة الثالثة في حركة "شباب 14 فبراير"، والتي ترى، وفق شهادة عدد مهم ممن لهم صلة بهم، أن شرعية النظام غير موجودة، حيث فقد شرعيته بسقوط الشهداء منذ 14 فبراير 2011، والذين فقدوا حياتهم لمجرد مطالبتهم بالحرية والكرامة. وبالتالي، ترفض هذه الحركة فكرة الحوار مع النظام القائم، لأنه غير شرعي، وتطالب بإسقاط النظام، وهذا يختلف عن الموقف الرسمي الذي تعبر عنه الوفاق وجمعيات المعارضة الأخرى، التي تقبل الحوار مع النظام القائم، مع ملاحظة استفادة الوفاق من الناحية السياسية من وجود شباب 14 فبراير، لأنه يجعل منها الجماعة "المعتدلة" التي يمكن الحوار معها من قبل النظام.
وتتبنى هذه الحركة استراتيجية تنظيم الاحتجاجات والمسيرات، التي في أغلبها غير مرخصة، في المدن والقرى ذات الأغلبية الشيعية، مثل السنابس، والبلاد القديم، والنويدرات، وسماهيج، ولا أحد يعلم تحديدا حجم هذه المجموعة، أو قادتها، ولكن يبدو أنها تستلهم في حركتها منطق حركة حق والوفاء وحركة أحرار البحرين.
كما يبدو أن هذه الحركة تعمل وفق منطق شبكي، وبالتالي هناك تعدد في قادتها، كما تعتمد على تنسيق بين المنضوين في الحركة والمتعاطفين معها في القرى والمدن، سواء من حيث الشعارات التي يتم رفعها، أو من حيث نوع تكتيكات المواجهة مع قوات الأمن التي يتم اتباعها. وتحرص هذه الحركة على تنظيم مسيرات ومظاهرات متزامنة في عدة قرى ومدن في وقت واحد. وعادة ما تشتبك قوات الأمن مع هؤلاء المحتجين، في إطار قيامها بمهام تأمين مداخل ومخارج القرى والمدن في البلاد، وذلك بهدف محاصرة هذه المظاهرات، وإحباط محاولات تمددها إلى خارج القرى والمدن.
ويمكن القول إن حركة شباب فبراير هي الأكثر قدرة على تآكل شرعية النظام تدريجيا، رغم أنها الأكثر تجاهلا من قبل النظام القائم، خاصة أنها تعمل على توثيق المواجهات، والإصابات التي يتعرض لها المتظاهرون، خاصة تلك التي تقع عند تشييع الضحايا، حيث لا تخلو عمليات التشييع من مواجهات مع الأمن لخروج الأوضاع عن السيطرة، وهذا يعني استمرار سقوط الشهداء الذي لن يكون من السهل معالجة ما يخلفه من مشاعر سلبية.
تعزيز الانقسام الطائفي
وتتعلق الحقيقة الثانية بأن النظام القائم "يتجاهل" الآثار المترتبة على سياساته في إدارته الصراع مع المعارضة بشقيها، التقليدية وغير التقليدية، وهو ما يعزز من حالة الاحتقان لدى أبناء الطائفة الشيعية، لكونهم يمثلون أغلبية القوى المعارضة في البحرين، ولكونهم هم من أضيروا بسياسات الحكومة، بعد فض اعتصام الدوار، والتي هي، كما يروي أحد المتضررين من هذه السياسات، حلقة أخرى في سلسلة من سياسات استهداف أبناء الطائفة الشيعية، بعد أحداث التسعينيات، بكل ما صاحبها من عمليات اعتقال وتعذيب ونفي إلى الخارج، حتى أصبح كل بيت لديه "ثأر ما" مع النظام، وبدرجة ما لمن هو موال للنظام.
وهذه العملية المستمرة من تراكم الآلام والاحتقان لدى أبناء الطائفة الشيعية من سياسات النظام، تتعزز بالمواجهات المستمرة بين المحتجين وقوات الأمن. ووفق بعض التقديرات، توجد هذه المواجهات في عدد من القرى والمدن ذات الأغلبية الشيعية،المنتشرة خارج العاصمة، وقد أخذت هذه المواجهات تتطور نوعيا، حيث لم تعد تقتصر على تنظيم المظاهرات والمسيرات، وإنما أخذت شكل هجمات على المدارس، بلغ عددها نحو 70 مدرسة، وفق بعض التقديرات.
وتنصرف الحقيقة الثالثة إلى أن رد الفعل على هذه التفاعلات من قبل أبناء الطائفة السنية يجعل الوضع في البحرين شديد الخطورة. فالمواجهات التي تقع بين المحتجين وقوات الأمن لا تقتصر تأثيراتها على فترة وقوع الحادث، أو على الأطراف المباشرة المشتركة في المواجهة، وإنما لها تداعيات ربما غير مقصودة unintended consequences تؤثر فى سلوك أبناء الطائفة التي ينتمي لها كل طرف. فعلى سبيل المثال، يقوم عدد من "المتطرفين" المنسوبين لأبناء الطائفة السنية من فترة لأخرى بتنفيذ هجمات وعمليات تخريب لممتلكات خاصة برجال أعمال ينتمون للطائفة الشيعية، مثل عملية الهجوم على محلات 24 ساعة التي تمتلكها مجموعة جواد التجارية، وعمليات استهداف مقرات جمعية الوفاق، وعملية الهجوم على منطقة بوري المعروفة بأغلبيتها الشيعية، والتي وقعت منذ أيام.
وكل هذه التفاعلات تعزز الانقسام الطائفي. فوفق تقدير أحد المواطنين العاديين، "اليوم 90% من الموالاة سنة ، و90% من المعارضة شيعة"، ولم تعد المعارضة للموالاة مرتبطة بنظام سياسي فقط، وإنما امتدت إلى نظام اجتماعي واقتصادي. فالتجار الذين أيدوا المعتصمين يدفعون اليوم ثمن ذلك، كما أن هناك حملة موازية من قبل الشيعة لمقاطعة المحال السنية. ونظرا لكون المظاهرات تنظم في المناطق ذات الأغلبية الشيعية، فإنها جعلت هذه المناطق مغلقة دون أبناء الطائفة السنية، كما أنها تمثل "مكانا غير آمن" لأي شخص، مع ملاحظة أن هناك بعض المناطق التي يشعر أبناء الطائفة الشيعية تجاهها بذات المشاعر، مثل المنطقة التي تعرف باسم ساحة الشرفاء، حتى إن البعض تحدث عن "برلين" البحرينية.
إن جوهر المشكلة في البحرين هو أن الانقسام الطائفي أصبح حقيقة مجتمعية، وانعكست في التخوف من معارضة النظام، لأن ذلك يعني عمليا الاصطفاف مع الشيعة. كما أصبح هناك نفور من تأييد أي من سياساته، لأن ذلك سيعني الاصطفاف مع السنة، ومأزق الشيعة والسنة هو قدرتهما على العمل على إثبات أولوية الولاء للوطن خلال الفترة المقبلة. وربما يتطلب هذا منهما إعادة النظر في مرجعياتهما، وفي مدى جاهزيتهما للقفز على الانقسام الطائفي في المجتمع البحريني، واستعدادهما للإعلان عن تأييد موقف الطائفة الأخرى ، ما دام ذلك كان يعبر عنهم، حتى وإن كان ذلك يعني معارضة موقف فئة معينة من أبناء طائفتهم.
وربما يكون هذا سابقا على ما تحدث عنه تقرير بسيوني من ضرورة تضمين المناهج التعليمية مواد تحث على "التسامح والتعايش الديني والسياسي". فإذا كان الوضع في البحرين اليوم سيتطلب علاجه جيلين كاملين، وفق بعض التقديرات، فإن علاجه في الفترة الحالية سيتطلب تنازلات حقيقية من الطرفين، وهذا يتطلب المصارحة بالأخطاء من كل الأطراف، والمصالحة الوطنية لكل الأطراف، وعدم استبعاد أي منها. وفي ظل هذه العملية، لا يعد العنف أداتها الرئيسية، كما أن محاولة الاتحاد مع السعودية لا تعد الحل لمشاكل البحرين.