في يونيو 1966، قام السيناتور الأمريكي، روبرت كينيدي، بزيارة كيب تاون، ليقدم خطابا شهيرا، بعنوان "موجة صغيرة من الأمل"، أمام 18 ألف شخص، تحدث خلاله عن العنصرية في جنوب إفريقيا، في قمة قسوتها، قبل أن يطلق عبارة موحية، فقد قال إن هناك "لعنة" صينية قديمة،أي رغبة شريرة، يعمل أحدهم على أن تصيب آخر، نصها -مع تصرف بسيط- "أتمني لك أن تعيش في أوقات مضطربة"،مضيفا: "شئنا أم أبينا، نحن نعيش في أوقات مثيرة، تتسم بالخطورة وعدم اليقين، ولكنها أكثر الأزمنة انفتاحا على الطاقات المبدعة للبشر من أي وقت آخر في التاريخ"، وهي عبارة تبدو وكأنها تمت إلى ثقافة الشرق الأقصي أو الغرب البعيد، بأكثر مما يمكن استساغته في المنطقة. إلا أننا أيضا نمر بأوقات مضطربة مثيرة للاهتمام والأعصاب، وكأنها "لعنة"، لكن التعامل معها ربما لايحتاج إلا إلى "موجة صغيرة من الأمل".
إننا نعيش حاليا في التاريخ. فلفترة طويلة، قبل عام 2011، اعتاد المحللون على تكرار سلسلة من التعبيرات المملة التي أصبحت محل تندر، بفعل ترديدها طويلا خارج السياق، وهو أننا نعيش في مفترقات طرق، أو فترات حاسمة، قبل أن يصل التاريخ إلى داخل الدول وشوارع المدن بالفعل، وأصبح من الممكن رؤيته بالعين المجردة، وأحيانا المشاركة فيه، ولو برفع علم بائس يدعو لاستقلال مدينة بورسعيد في مصر، بحيث أصبحنا ندرك -دون حاجة لقول ذلك- أننا نعيش في أوقات مضطربة. ونفهم الآن لماذا استقلت "جمهورية زفتي" لعدة أسابيع، ولماذا سقطت الدماء المصرية في الإسكندرية، بعد ثورة 1919، ولماذا تمكن إسماعيل صدقي من الانقلاب على الدستور، في عصر الليبرالية، ولماذا تمكن هتلر في "الزمن المثير" نفسه أيضا من سحب ألمانيا نحو النازية، ثم سحب العالم نحو الحرب، ثم دمار الرايخ الثالث.
الإشكاليات التاريخية نفسها تطرح في المنطقة حاليا، مرتبطة بتذكر ثورات العراق المتتالية، وانقلابات سوريا المتوالية، في الخمسينيات، ثم دورات الديمقراطية والفوضي والانقلاب في السودان، ودرس الجزائر المفزع في بداية التسعينيات من القرن الماضي، عندما لم يتم فهم حدود القوة، وهو ما ينعكس على الواقع الحالي. فالمجلس العسكري في مصر والإخوان المسلمون معا يذكران بعضهما بعضا، في نهاية مارس 2012، بالتاريخ، ويقرر عمرو موسي أن مصر تشهد أزمة مركبة وخطيرة لم تشهدها منذ عصر محمد علي الذي انتهي منذ 160 سنة!. ويحدث ذلك على ساحة المنطقة كلها، كما تشير ألوان الأعلام التي ترفعها الثورات، فهناك بالفعل هذه المرة فترة حاسمة، ومفترق طرق.
إن روبرت كينيدي لم يقتبس عبارة صينية عبثا، فكثيرا ما يتم اللجوء إلى الفلسفة الصينية، عندما يوجد إدراك بأن إدارة التفاعلات القاسية تحتاج إلى "حكمة"، خاصة إذا كانت تلك التفاعلات تتعلق بأعقد مما تم اختراعه في تاريخ البشرية، وهو "نظم الحكم". فالمنطقة العربية تمر باختبار صعب، تبدو فيه كل الطرق وكأنها تؤدي إلى مصطلح واحد، هو "السلطة"، الذي يمثل مفتاح الباب الكبير، لفهم ما يجري داخل الدول، قبل أن ينعكس لاحقا على ما يجري بين الدول. فأهم ما يدور في "الأوقات المثيرة" الحالية يرتبط بتحدي السلطة، أو التخلي عن السلطة، أو انهيار السلطة، أو إعادة بناء السلطة، أو صراعات السلطة، أو الاستحواذ على السلطة، أو -عودة إلى المربع الأول- تحدي السلطة، وهكذا. لكن ما هي السلطة بالضبط لكي يمكن الاقتراب قليلا مما يدور؟.
ما هي السلطة؟
وبداية، فإنه، مثل كل المصطلحات السياسية، لا يوجد تعريف سهل لمفهوم "السلطة"، إلا أن أكثرها عمومية، واقترابا إلى الأذهان، هو "القوة الشرعية"، التي تتيح -كما يقرر كارل دويتش- التحكم غير الكامل في السلوك البشري، استنادا على العادات الاختيارية الخاصة بالتعاون والالتزام أولا، إضافة إلى التهديد بإمكانية استخدام القمع والإكراه، الذي قد يتحول إلى وسيلة محفزة. ذلك أن إطاعة القانون، واحترام الحكومات، أو الالتزام بالقرارات، تميل إلى أن تكون اختيارية أو تلقائية، بفعل وجود قناعة بأنها تحقق مصلحة أو منفعة عامة، أو حتي شخصية، بحيث لا يشعر أغلبية الناس برغبة في عصيان الحكومة، أو انتهاك القانون.
وببساطة شديدة، فإنه لو قرر غالبية قادة السيارات عدم التوقف أمام الإشارات الحمراء، لن يتم التمكن من تطبيق قانون المرور، مهما يكن عدد جنود المرور الذين يحاولون تطبيقه، ولاتوجد إجابة محددة بشأن سبب التوقف أمام الإشارات، فهل يتم ذلك لقناعة بأن التجاوز يؤدي إلى اضطرابات سير، لن تكون في صالح قائد السيارة ذاته، أو أنه ربما يخشي التعرض لمخالفة مالية، أو سحب رخصة القيادة، وربما الحبس، لو قرر السير في اتجاه معاكس؟ وهنا، تأتي تعقيدات فكرة السلطة، فتدعيم الالتزام الاختياري للمواطنين يتم عبر خلق اقتناع إرادي للغالبية، مع استعداد لمعاقبة القلة التي تخالف النظام العام.
الفكرة أنه لا يمكن السيطرة على شعب بالإرغام عموما، أو الإكراه فقط، مع تجاهل الإقناع، ثم الإقناع، ثم الإقناع، إلا بوحدات غاشمة من القوة، يؤدي استخدامها وتكرار استخدامها مع الوقت إلى تآكل الشرعية، وتدهور القوة. ولن تستقر الأمور لفترة طويلة، فسوف تبدأ الاحتجاجات والاضطرابات، إلى أن يقرر الجميع عبور خطوط الطريق أمام الإشارات الحمراء مرة واحدة. ولأن أي سلطة لا تمتلك جنديا لكل ثلاثة مواطنين، فإنها ببساطة تنهار، وبالتالي فإن جوهر السلطة هو العمل على خلق الالتزام الاختياري لدي الغالبية المطلقة، مع تهديد حقيقي بإطلاق الرصاص على "الفئة الضالة".
في هذا الإطار، فإن تجارب النظم السابقة للثورات العربية تشير إلى اختلال هائل في التعامل مع فكرة السلطة. فقد انفجرت معظم التطورات الثورية، التي جرت في بداية عام 2011، ضد نظم جمهورية تتسم بمستويات مختلفة من "التسلطية"، تستحوذ قياداتها على السلطة، بدرجات مختلفة من "التقسيم" أو المشاركة، ولم يبد أبدا أنها ترغب في تركها، وهي على قيد الحياة، بل سعت في حالات متكررة إلى توريثها للجيل التالي من كوادرها العائلية، قبل أن تنهار تلك النظم، أو تتصدع بشدة، ومعها بعض مكونات الدولة. واستغرقت الانهيارات في كل حالة فترات زمنية تتناسب طرديا بالضبط مع حجم "المشاركة" التي تم السماح بها، لقطاعات مختلفة داخل الدولة، في السلطة. كما أن حجم الانهيار، في كل حالة، كان يتناسب عكسيا بالضبط مع حجم المشاركة التي تم السماح بها لقطاعات مختلفة داخل الدولة، في السلطة، أيضا، فقد بدا الأمر، ولو كتحليل لاحق، وكأنه قانون.
لم تنته المشكلة بعد ذلك، فلقد ظهرت، خلال المراحل الانتقالية التالية للثورات، أوضاع سياسية معقدة، تجري في إطارها محاولات للوصول إلى معادلات جديدة للسلطة، إلى أن بدأت تتضح مؤشرات تفيد بأن "السلطة" لا تزال تمثل مشكلة، وأن بعض الثورات تتحرك بسرعات عالية على "طرق دائرية"، حول مناطق العمران، إلى أن يوجد المخرج المناسب للوصول إلى "وسط المدينة". وحتي يحدث ذلك، تبدو الصورة شديدة التعقيد. وهنا، توجد عدة نقاط، يمكن أن تمثل مداخل لتحليل الكثير مما يجري في المنطقة العربية، في المرحلة الحالية، من زاوية مفهوم السلطة، ومحدداته، كما يلي :
1- إن السلطة هي ما يميز الدولة، فبدونها لا يوجد سوي ما سيطلق عليه، تجاوزا، شعب يعيش على أرض بلا حكومة أو سيادة، أي بلا نظام. وعندما لا توجد النظم، لا توجد الدول أو القوانين، وتوجد فقط "الغابات" البشرية، التي يحكمها قانون واحد يعرفه التاريخ والطلبة، وهو " إما أنك ستأكل أو ستؤكل"، أو أنك "ستَقتل أو ستٌقتل". فالدول نشأت تاريخيا بنشأة الحكومات، ولم يكن قيام الدول مسألة سهلة، بل إنها كانت أحيانا دموية. وفي كل الأحوال، فإن السلطة القوية تعني دولة قوية، إذا تم فهم السلطة بالمعني المعتاد، وإذا تم فهم القوة بطريقة منضبطة. فمن يمكنه أن يقرر أن دولا فيدرالية، كالولايات المتحدة، أو ألمانيا الاتحادية، أو حتي الاتحاد السويسري، ليست دولا قوية تتمتع بحكومات قوية وقوانين صارمة؟.
المسألة أن انهيار السلطة يؤدي إلى ظهور أفضل وأسوأ ما في المجتمعات، في وقت واحد، أو على التوالي. فقد انتهت أحداث ثورة 25 يناير في مصر بصورة مذهلة، لم يكن حتي لمخرج سينمائي عبقري أن يتخيلها، عندما قام الثوار بتنظيف ميدان التحرير، قبل أن ينفجر المجتمع بعدها بصورة، لم يكن حتي لأكثر محللي الأمن شططا أن يتخيلها، بداية من سلوكيات قادة السيارات، وحتي صور الإجرام المنظم، وقطع الطرق، وصولا إلى هويس إسنا، وقناة السويس، وخطوط غاز سيناء. فقد أظهر الجميع أنيابهم، بداية من المواطنين الصالحين، مرورا بالمبتزين والمجرمين في المناطق النائية، حتي إرهابيي القاعدة، في مواجهة حكومات ضعيفة تحاول استعادة "السلطة"، وبناء مؤسساتها، دون موارد كافية، كما حدث في مصر، وليبيا، واليمن.
هنا، تظهر في الإقليم نماذج مختلفة لدول فاشلة، وهي الدول التي توجد بها مشكلة سلطة مركزية، تعجز عن السيطرة على كل أراضي الدولة، أو على كل سكان الدولة، ولا يمكنها فرض القانون أو النظام إلا على مناطق خضراء، أو مربعات أمنية، أو على المدن الرئيسية. وفيما يتجاوز ذلك، توجد الغابات البشرية، التي تشهد فراغ سلطة. ولأن الفراغ ليس حالة طبيعية، فإنه يملأ على الفور بالقبيلة، أو القومية، أو العرقية، أو العصابات، أو الفتوات، أو الميليشيات، ليتحول كل هؤلاء إلى فاعلين داخل الدولة، يحكمون بقوانينهم الخاصة، وعلى الدولة أن تحاول استعادة السلطة بعد ذلك. وعلى سبيل التوضيح، فإنها تكون في حاجة إلى 20 جنديا لكل 1000 مواطن، أو قوة خاصة ذات صلاحيات مرعبة، وحصانة مطلقة.
2- إن الدول لم تعد قابلة للقيام على نمط "السلطة الديكتاتورية". فعلى الرغم من أنه لا توجد دولة حقيقية بدون سلطة قوية، فإن تصور وجود سلطة ذات طابع بوليسي أو ديني، تحصي على الناس أنفاسهم، أو تهددهم في منازلهم، أو لا تتيح لهم -كما كان الحال في سوريا- إقامة أعياد ميلاد الأطفال، أو تغيير حراس المنازل، أو السفر لمؤتمر خارج الحدود، دون إذن أو إبلاغ، لم يعد ممكنا. وسيضج الناس بشدة مع الوقت، حتي لو كان معدل نمو الاقتصاد القومي يتجاوز 6 ٪، لأن الحرية قيمة، مثل "العيش"، والعدالة، ناهينا عن الكرامة.
من جانب آخر، فإن سلطة تتدخل في حياة البشر المعتادة وعلاقاتهم بالله (سبحانه وتعالي)، أوتحدد لهم ما يرتدون، وما يسمعون، وما يشاهدون، مع عٌقد حقيقية تتعلق بالمرأة والمختلفين دينيا والآخر خارج الحدود، أو غير ذلك، على أسس يعتقدون أنها شرعية، هي ضد التاريخ. ففي تركيا المدنية، المتطورة ذات الهوية الإسلامية، اعتاد زملاء هناك على القول إن لديهم -ولو رمزيا- 17 حديثا نبويا، على المذهب الحنفي، تحدد أساسيات في الحياة الدينية، وما تبقي، فإنه "ميسر لما خلق". في حين تحاول سلطات دينية في دول عربية أن تسير حياة الناس بما لا يقل عن 70 ألف حديث، تفسر في سياقات بعيدة عما قيلت فيه، وتحدد ما يجب أن يقوم به المواطن من الصباح الباكر حتي الليل المتأخر.
إن المجتمعات لم تعد "سلسة"، ولا توجد حاجة لتكرار ما قيل من قبل، من أنها أصبحت أقوي من الدول. في كل الحالات الإقليمية تقريبا، باستثناء دول قليلة، لن تستقر العقود الاجتماعية أو السياسية بها لفترات طويلة بتلك الصورة. ففي معظم الدول، لم تعد الحكومات قادرة على سجن مواطن دون أن يحدث ذلك ضجة، ولم تعد قادرة على مكافأته بصورة تؤدي إلى إسكاته. كما لم يعد كثير من المواطنين يعملون "لدي الدولة"، في المؤسسات الحكومية، أو القطاع العام. وانتشرت عدوي الثورات الإقليمية، التي جرت على الهواء مباشرة، وصاحبتها مشاهد صادمة لجماهير تطارد الأمن، أو رؤساء يحاكمون داخل أقفاص. وبالتالي، انتهت الفرعونية السياسية، وتحولت المناصب السياسية إلى "مواقع غير مريحة". وحسنا سيفعل القادمون الجدد إلى مواقع السلطة في الدول العربية، إذا أدركوا مبكرا أن معادلات السلطة قد تغيرت، وأنهم لن يتمكنوا من تكرار تجارب الماضي، فقد شاء قدرهم أن يأتوا متأخرين في عصر الجماهير.
3- إن واحدة من الحقائق التي ثبتت، بدون استثناء صارخ تقريبا، وأصبحت تدرس في المناهج الجامعية ذات الصلة، هي أن امتلاك القوة يختلف عن استخدام القوة. فليس معني امتلاكها أن يتم التلويح بها أو استخدامها فعليا، كالسيف في مواجهة الآخرين. فالقوة، مثل الضعف، مسائل شديدة الخطورة، يمكنهما أن يؤديا إلى قتل الغير، أو إيذاء الذات. وكما أن هناك شرعية ترتبط بالكيفية التي تم الحصول بها على السلطة، دون طعن، فإن هناك مشروعية تتعلق بمدي قبول الأطراف الاخري لحيازة كل تلك السلطة، أو الطريقة التي يتم استخدامها بها، حتي لو لم يكن هناك سند قانوني لذلك القبول. فالمسألة تتعلق بعمل السياسة، وليس آليات القانون، خاصة في فترات ثورية. فلا توجد "شيكات سياسية على بياض"، حتي لو كانت قابلة النفاذ. ودرس "احتلال وول ستريت" يعبر عن ذلك، حتي في دولة كالولايات المتحدة.
إن النظم السياسية أصلا لم تعد تتكون من أحزاب سياسية فقط، فقد تهزم تلك الأحزاب في انتخابات حرة، لأنها غير مؤهلة أو غير مستعدة. فهناك جماعات مصالح من كل نوع، قادرة على التجمع، والتظاهر، وإرباك الحياة العامة. وهناك نشطاء إلكترونيون اعتادوا على الانتقاد الدائم لأشياء كثيرة، (بصرف النظر عن دقة المعلومات). وهناك الأغلبية الصامتة التي قد لا تشارك في التفاعلات السياسية المحيطة بها، لكنها تجد وسيلة دائما للتحرك بصورة ما، عندما تشعر بأن هناك تجاوزا كبيرا يحدث، استنادا على حس سياسي، وليس على أحكام قضائية. وفي ظل تلك الأوضاع، فإنه لا يوجد معني حقيقي لما يسمي "امتلاك الأغلبية"، بعيدا عن حقوق الأقلية، حتي لو كان ذلك قد تم بآليات قانونية. ومنذ فترة طويلة، دخلت مصطلحات الديمقراطية التوافقية، أو تعبيرات حادة مثل تقسيم السلطة، وتقسيم الثروة، إلى القاموس العام، لذلك وجدت "السياسة".
إن هناك تعبيرا قديما يقرر أن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، وبالتالي فإن امتلاك الأغلبية المطلقة يحتاج إلى "حكمة مطلقة". لكن حسب تعبير لألبرت أينشتين، الذي اعتاد أن يتحدث وكأنه يعبر عن "قوانين الطبيعة" وليس قوانين السياسة، "نادرا ما نجحت محاولة الجمع بين الحكمة والسلطة، فلقد نجحت في بعض الأحيان، ولكن لفترة قصيرة فقط". وهو نفس ما يؤكد توماس جيفرسون أنه جري عمليا، فقد "أظهرت التجربة أن أولئك المؤتمنين على السلطة قد حرفوها مع الوقت، وبعمليات بطيئة إلى الطغيان، حتي في أفضل أشكال الحكومات".
إن السلطة شديدة الإغراء، لدرجة يصعب معها التوصل إلى فهم لحدودها إلا بعد أن يتم تجريبها، مرة، ثم مرة ثانية، وثالثة. وفي كل حالة، يعتقد من يمتلكها "أن مصر ليست تونس"، ثم "إن ليبيا ليست مصر وتونس". وربما لم يدرك رئيس اليمن السابق أن المسألة جادة، إلا عندما سقطت القذائف على القصر الجمهوري. وكان على حاكم سوريا مثلا أن يدرك أنه من الخطأ التفكير في أن بلده يمكن ألا تكون "تونس، ومصر، وليبيا، واليمن" معا، لكنه يفكر كذلك. وكذلك أصر بعض من وصلوا إلى السلطة، في بعض تلك البلدان على خوض "اختبار السلطة"، وكأنه قدر، أو ربما لعنة، قبل أن يدركوا، بانفعال، أنهم كانوا في حاجة إلى "الحكمة" معها.
ما هي التأثيرات؟
النتيجة الطبيعية لكل ذلك هي أن أنماط التفاعلات الإقليمية في الفترة القادمة، والتي بدأت مؤشراتها في الاتضاح بقوة، سوف تتأثر بمعادلات وارتباكات وصراعات "السلطة" داخل الدول العربية، التي شهدت تغييرات ثورية حادة، أو التي تؤدي فيها تلك التغييرات المجاورة إلى التفكير في إدارة المستقبل. ومن المتصور أن تلك التأثيرات تسير في عدة اتجاهات، أصبح بعضها واضحا تقريبا، منها :
1- إن الثورات الشعبية، نظريا، يمكن أن تعقبها نظم ديمقراطية، أو نظم ديكتاتورية، أو قد لا تعقبها "نظم" أصلا لفترة ما، أي تسود حالات من الفوضي المزمنة. والمعني هنا هو أنه لا توجد مسلمات، وأن كل الاحتمالات قائمة، وأنه في أوضاع ما بعد الثورات، توجد عوامل تدفع في كل الاتجاهات مرة واحدة. فما يجري في المنطقة لا يزال يترك مجالا للحديث عن "الربيع العربي"، وأن الشعوب التي ثارت على السلطوية لن تقبل بظهور سلطوية أخري. لكن هناك مؤشرات حول احتمالات قدوم "شتاء إقليمي" تحكمه تيارات اليمين الديني. والتاريخ هنا لا يثبت شيئا، فقد يحدث كل شيء، وبالتالي سيكون على كل دولة في المنطقة أن تفكر في التعامل مع دولة جديدة أخري، لا تعرف عن مستقبلها الكثير لمدة عام على الأقل، وبالتالي لدينا علاقات إقليمية معلقة.
2- إن تغير النخب السياسية الحاكمة داخل الدول، ونشأة نظم سياسية جديدة، يؤديان (وهي مسلمة أخري) إلى تغير توجهات العلاقات الخارجية تجاه الإقليم، وبالتالي ستكون لدينا على الأرجح محاور جديدة. فالثورات قد نشأت في محور الجمهوريات، بينما تحاول الدول الملكية تجنب تأثيراتها، فيما قد يشكل محورين بين الجمهوريات الجديدة والملكيات العربية. كما أن التيارات الإسلامية قد سيطرت على النظم السياسية، أو قطاع واسع منها، في بعض الدول العربية، وبالتالي قد تنشأ علاقات إقليمية ذات مرجعية دينية بين بعض الدول، بينما تتجمع أطراف إقليمية أخري استنادا على اعتبارت استراتيجية تتعلق بالمصالح، في مواجهة "معسكر الهوية"، خاصة إذا حاول الأخير تصدير الثورة، أو اختبار القوة مع دول الخليج العربي تحديدا.
3- إن تغير الدول يؤدي إلى تغير السياسات الخارجية الموجهة لها، فالدول لم تعد ذات " عنوان واحد"، يمكن الاتصال به من خلال ما يسمي "المكالمة التليفونية". فقد فقدت الحكومات المركزية السيطرة على قطاع واسع من التفاعلات السياسية داخل الدولة، وتعددت مراكز القوة الداخلية بصورة غير مسبوقة. وتبدو دول الثورات العربية وكأنها كونفيدراليات سياسية. وبالتالي، سيبدأ طرح أسئلة لم تكن تطرح أبدا بالنسبة لدول مركزية موحدة كمصر، على غرار : من يحكم مصر؟ لكن تلك الأسئلة نفسها كانت تطرح طوال الوقت في حالات تقليدية مثل إيران، التي لم تكن تتحدث بصوت واحد، وتتعدد مراكز القوي على ساحتها. وحتي بالنسبة لدولة مثل الولايات المتحدة، لم يكن يكفي أبدا في أي وقت أن يتم الذهاب إلى البيت الأبيض، لإدارة العلاقات مع واشنطن، فسوف تظهر "دبلوماسيات كبيرة".
4- إن هناك عامل استقرار واحدا يمكن أن يؤدي إلى بعض الضبط في التقلبات المحتملة لعلاقات الدول على الساحة الإقليمية، وهو احتمال بقاء "مؤسسات السلطة السيادية"، داخل الدول، بعيدا عن تدخلات ونفوذ السياسيين الجدد في عواصم الثورات العربية، خاصة التيارات الإسلامية. يحدث ذلك إذا تمكنت هذه المؤسسات من التوصل إلى معادلة تبقي عليها كمؤسسات محترفة مستقلة، تعمل ضمن تعريف عام للمصالح الوطنية العليا، بصرف النظر عمن يفوز في الانتخابات، ضمانا على الأقل لعدم تدخل تلك المؤسسات في السياسة، وربما عودة موجة التمردات والانقلابات. لكن الأهم أنه إذا سيطرت التيارات الدينية على تلك المؤسسات، فسوف تنقلب معادلات إقليمية كبري رأسا على عقب في المنطقة، وقد تمس جاليات ومصالح دول الثورات داخل الدول الأخري.ويقينا، ستتحول التحالفات الدولية إلى اتجاهات معدلة، على الأقل فيما يتعلق بالعلاقات العسكرية، والتعاون الفني واسع النطاق.
في النهاية، فإن هذا العدد من مجلة "السياسة الدولية" قد حاول أن يقترب من بعض أبعاد تحولات السلطة بالإقليم، في عدة اتجاهات تتعلق بطرح بعض الأسئلة المتعلقة بها، أو تحليل بعض الظواهر التي تبدو في النفق الإقليمي، أو الاقتراب من ملامح القوي المسيطرة على الساحة، بالإضافة إلى المهام التقليدية، وهي تحليل ما يعنيه ذلك، بالنسبة لحالة الإقليم، الذي قدر له أن يستمر في حمل سمة "أكثر أقاليم العالم عدم استقرار" لحقبة أخري، في انتظار "موجة صغيرة من الأمل"، للخروج من التاريخ إلى السياسة، في وقت أقصر، وبثمن أقل، قدر الإمكان.
(*) افتتاحية مجلة السياسة الدولية ، العدد 188 ، إبريل 2012