عرض: سارة محمود خليل، باحثة في العلوم السياسية
أسهم معظم القضاة المصريين في ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011، وقاموا بعدة مسيرات تندد بنظام مبارك وسياساته في جميع مؤسسات الدولة المصرية. وقد مثل تضامن القضاة مع الثوار تأكيدهم أن القضاء المصري يتمتع بالنزاهة، حيث إن القضاء المصري يمثل الآن العمود الأساسي التي تقوم عليه الدولة المصرية. وإذا ما تم التشكيك في نزاهة القضاء، فستسقط بالتأكيد هيبة الدولة المصرية.
وقد رفع القضاة شعارات مطالبين بالاستقلال الكامل للسلطة القضائية، وتحصين القضاء ضد الضغوط السياسية والمصالح الخاصة، واحترام القضاة وأحكامهم . وفى ظل الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية المضطربة التي لا تزال تشهدها مصر منذ قيام ثورة يناير التي امتدت لتشمل القضاء، وبالرغم من أنه يعد حصناً للنزاهة والشفافية، فقد شكك البعض في نزاهته، سواء بسبب تأخير محاكمة رموز النظام السابق، أو قضية التمويل الأجنبي التي أثارت أخيراً جدلا كبيرا، وتنحى هيئة المحكمة؛ لذا فالقضاء المصري يواجه العديد من التحديات في الوقت الراهن، وعليه - بكل تأكيد - تجاوزها ليظل شامخاً نزيهاً أمام المصريين جميعاً، بل والعالم أجمع .
وفي محاولة للتعرف على أحوال القضاء المصري قبل وبعد ثورة يناير، وكذا الجهود الإصلاحية التي يناضل من أجلها القضاة لحصول السلطة القضائية على استقلالها الكامل، نشرت مؤسسة كارنيجى للسلام الدولي في فبراير من العام الجاري دراسة أعدها ناثانبراون، تحت عنوان "قضاة مصر في عصر ثوري".
وتكمن أهمية الدراسة في ثلاثة اعتبارات رئيسية، أولها: حداثة موضوع الدراسة، في ظل عدم وفرة الدراسات التي تتناول أحوال القضاء المصري قبل وبعد ثورة يناير. ثانيها: إن الدراسة قدمت رؤية شاملة لجهود الإصلاح التي بذلها القضاة لاستقلال السلطة القضائية. ثالثها: تقديم الدراسة رؤية لمستقبل القضاء المصري والتحديات التي تواجهه .
القضاء المصري قبل ثورة يناير
أوضحت الدراسة أن حكام مصر قد استغلوا سلطاتهم للتدخل في شئون السلطة القضائية، سواء بشكل مباشر خلال عهد عبد الناصر، أو بشكل غير مباشر، خلال فترتى حكم السادات ومبارك، وما بذلته تلك الأنظمة السلطوية من جهود حثيثة، واستغلال نفوذهم بهدف إخضاع القضاء لسيطرتها. فخلال فترة عبد الناصر، سيطر على كل شيء حتى المؤسسات والقضاء، وفرض أيديولوجية واحدة. أما السادات، فقد منح المؤسسات قدراً كبيرا من الاستقلال الداخلي، ووضعت في يد أشخاص موثوق بهم ،وتعمق هذا النظام في عهد مبارك.
وخلال فترتي حكم السادات ومبارك، كانا يأمران بتشكيل المحاكم الاستثنائية، إذا ما أرادا حكماً قضائياً. وبالرغم من ذلك، قام نظام مبارك بعدة تطورات بشأن استقلال القضاء، وكانت مظاهر تلك التطورات تتلخص في التالي : أصبحت المحكمة العليا أكثر استقلالية بعد تحويلها إلى محكمة دستورية عليا. كما أصدرت المحكمة الدستورية العليا أحكاماً عديدة لم تكن تصب في مصلحة النظام، وألغت الكثير من القوانين، وأعادت توظيف القضاة الذين تم تسريحهم في عهد عبد الناصر.وأخيرا، منح القضاء بعض المهام الإضافية، كالإشراف على الانتخابات.
كما كان هناك تشابك في العلاقات بين السلطتين التنفيذية والتشريعية خلال عهد مبارك. فقد كان الرئيس يعين رئيس قضاة المحكمة الدستورية العليا، بالإضافة إلى أن وزارة العدل كانت تسيطر على الشئون الإدارية.
تحديات تواجه القضاء بعد ثورة يناير
أكدت الدراسة قيام القضاة المصريين بمحاولات كثيرة على مدى العام الماضي، بشأن ما ينبغي أن يكون الإنجاز الأكبر للقضاء بعد الثورة، عبر كتابة قانون جديد للتنظيم القضائي، يؤكد الاستقلال الكامل للقضاء. ويعد مطلب استقلال القضاء مطلبا مهما وشعبيا. ومن أجل ذلك، قام القضاة بمحاولتين منفصلتين لصياغة مشروع القانون، ولكن كانت ثمة اختلافات بين النسختين اللتين تم وضعهما .وقد واجه هذا المشروع عدة عقبات تتمثل فى احتجاج المحامين، لأن كلا المشروعين تضمنا أحكاماً تسمح للقضاة بمعاقبة المحامين الذين ينتهكون قواعد النظام واللياقة في قاعة المحكمة، الذين ادعوا أن قانونهم الذي ينظم مهنة المحاماة يمنحهم حصانة في قاعة المحكمة، وبدأوا الدعوة إلى إضراب وتنظيم مظاهرات.
إن صدور القانون كان يتطلب إصدار مرسوم بقانون من جانب المجلس العسكري الحاكم غير المنتخب، ولكن الدراسة تشير إلى أن الغريانى تراجع إلى حين تشكيل برلمان منتخب؛ حيث كانت هناك مؤشرات كثيرة لفوز الإسلاميين، وهو معروف بميوله الإسلامية. وتتجلى نتائج الجهود التي قام بها القضاة بعد ثورة يناير من خلال تمكين المحكمة الدستورية العليا من الحصول على مرسوم بقانون في يونيو 2011 من المجلس العسكري الحاكم يحصر خيارات الرئيس لمنصب رئيس المحكمة العليا بأكبر ثلاثة من أعضاء المحكمة العليا سناً.
وقد أوضحت الدراسة أن البيئة المصرية بعد ثورة يناير تثبت أنها أقل ملاءمة لما توقعه القضاة، وبالتالي حل المشاكل ليس بسهولة تمرير قانون جديد. حيث أشارت الدراسة إلى أن القضاء المصري يواجه أربعة تحديات غير متوقعة بعد الثورة لتحقيق استقلاله ،لاسيما وأن هناك البعض يريد بقاء الوضع على ما هو عليه. ويمكن إبراز تلك التحديات من خلال الآتي :
أولا-انشغال القضاة ببعض الأمور السياسية: يرى بعض القضاة أنهم، باعتبارهم مواطنين مصريين، لهم الحق في الانخراط في الأمور العامة للدولة، بينما يرى آخرون أن القضاة يجب ألا يتدخلوا في الشئون السياسية للبلاد، حيث تولى القضاة مهام الإشراف على الانتخابات. وهنا، طرحت الدراسة تساؤلا حول دور القضاة السياسي، وتسييس الأحكام.
وعلى الرغم من ثقة القضاة بموضوعيتهم، فإنهم تأثروا من دون شك بموجة الحماسة الثورية، وليس أدل على ذلك من حكم المحكمة الإدارية القاضي بحل الحزب الوطني الديمقراطي، وتم الاستناد في ذلك إلى اعتقاد سياسي واسع النطاق بأن الحزب أفسد الحياة السياسية في مصر، فضلاً عن قرار المحاكم الإدارية نفسها القاضي بإبطال عقود شراء مؤسسات عامة .
ثانيا- إيجاد الطرق للالتفاف حول القضاء: بالرغم من محاولات القضاة من أجل الاستقلال الكامل للسلطة القضائية، فإنه قد تم الاعتماد بشكل رئيسي على المحاكم العسكرية، في ظل حكم المجلس العسكري منذ ثورة يناير. كما أصر المجلس العسكري على سريان حالة الطوارئ حتى شهر يونيو من العام الجاري، حيث عمل النظام القضائي في مصر لقترة طويلة، في ظل حالة الطوارئ، حتى أصبح هذا الأمر معتاداً عليه.
ثالثا- مدى توافر الأمن في قاعات المحاكم:يمثل غياب قوات الأمن في قاعات المحاكم وانعدام الإجراءات الأمنية في الدوائر القضائية انعكاساً لتدهور الأمن العام في مصر بعد ثورة يناير.
رابعا- الانقسامات داخل السلطة القضائية:ويبدو ذلك جليا من خلال حدة المناقشات داخل السلطة القضائية، وظهور دعوات لتطهير الجهاز القضائي من المتورطين في تجاوزات النظام السابق. حيث انقلبت الأوضاع بعد تولى "حسام الغريانى " رئاسة المجلس الأعلى للقضاء في منتصف العام الماضي، بالرغم من أنه أحد زعماء القضاة المعارضين قبل الثورة، وأصبحت الأغلبية في مجلس إدارة نادي القضاة في أيدي خصومهم السابقين .
رؤية مستقبلية للقضاء المصري
ألقت الدراسة الضوء على مستقبل الحياة المصرية بوجه عام، والقضاء المصري بوجه خاص. فبالنسبة للأولى، أوضحت أنه من المرجح أن يكون مستقبلا يخف فيه إلى حد كبير التدقيق الأمني الصارم، كما كان في عهد مبارك، إذ يتمتع الإسلاميون بحضور واسع في الحياة العامة المصرية. وبالنسبة لمستقبل القضاء، فقد أوضحت الدراسة أنه ثمة انقساما آخر في الوقت الحالي، وهو الذي يمكن أن يكبر في المستقبل، ويتعلق بالتوجه الأيديولوجي العام، إذ لم يكن من المرجح لأعضاء الجماعات الإسلامية، وحتى أولئك الذين يشتبه في تعاطفهم معها، أن يعينوا كقضاة في ظل النظام السابق، حيث كانت الأجهزة الأمنية ستمنع تعيينهم.
وأشارت الدراسة إلى أن هذا يدل على اتجاه جديد وغير متوقع كلياً بالنسبة للنظام السياسي المصري، ليس في اتجاه الديمقراطية الليبرالية، ولكن باتجاه نوع غريب من "النقابانية" أو حتى "النقابية". فتشير "النقابانية" إلى نظام اجتماعي وسياسي، يتم فيه تنظيم الإجراءات المختلفة من المجتمع هرمياً وبشكل متصل، ويتم إما بتنسيق أعمالها، أو الإشراف عليها من قبل الدولة. أما "النقابية"، فتشير إلى نظام يتم فيه تنظيم الجماعات، عموماً على أساس العمل، أو الطبقة، وتعمل لنفسها بدون رقابة الدولة.