تنشط جماعات الضغط الصهيونية في مواسم الانتخابات الرئاسية، لأنه في هذه المواسم تجدد إسرائيل التزامات دعمها من جانب الحزبين الرئيسيين في الولايات المتحدة وتحصل على مزيد. وبالفعل استطاعت إسرائيل أن تحصل في هذا الموسم الأخير على تجديد لتعهدات باراك أوباما ومرشحي الحزب الجمهوري بدعم إسرائيل والالتزام بأمنها وسلامتها وتوفير احتياجاتها من المال والسلاح.
سمعنا ميت رومني مرشح الحزب الجمهوري يعلن أن أول زيارة له كرئيس للولايات المتحدة ستكون لإسرائيل، وسمعنا نوت غينغرتش أحد المرشحين عن الحزب نفسه ينكر وجود الفلسطينيين، ورأينا أوباما يكيل المديح لإسرائيل ويكاد يتوسل إليها أن تخفف ضغوطها لشنِّ حرب على إيران. أدرك أوباما أن إسرائيل، ومن أمامها جماعات الضغط تحاول أن تجعل قضية الطاقة النووية الإيرانية القضية الأساسية في حملة الرئاسة الأميركية، وأنه إذا ترك العنان لنتانياهو وعملائه في أميركا ستكون الغلبة لهم، لأن المرشحين الجمهوريين سعياً وراء أموال اليهود وأصواتهم سوف يتسابقون على جعل إيران قضية الانتخابات الأولى، وتنجر الولايات المتحدة إلى حرب أخرى في الشرق الأوسط، وهي التي لم تكد تنسحب من واحدة خسرتها باعتبار الحال التي آلت إليها العراق نتيجة الحرب، وتستعد للانسحاب من الثانية وسط احتمالات خسارة مؤكدة جرَّتها على نفسها وعلى الحلف الغربي بأسره.
أسمع عن تعقيدات صنع السياسة الخارجية في أميركا، وأعتقد أنني مثل غيري من المتأملين في مسائل الدفاع والسياسة الخارجية الأميركية نستطيع أن نؤكد أن أوباما الذي قد يسعده في هذه اللحظات الانتخابية الاستماع إلى عبارة أنه خدم إسرائيل ومصالحها أكثر من أي رئيس سابق، هو نفسه يدرك حقيقة الدور الذي لعبته جماعات الضغط الصهيونية ومن ورائها إسرائيل ومن أمامها الجماعة المتوحشة التي أطلقوا عليها عبارة «المحافظون الجدد»، هؤلاء جميعاً دفعوا أميركا إلى حرب كارثية في العراق، كان السيناتور الديموقراطي باراك أوباما رافضاً لها.
يعرف أوباما، كما نعرف ويعرف الكثيرون من صانعي الرأي في أميركا أن منظمة «إيباك»، وفروعها ومشتقاتها، قادت أميركا الدولة الأعظم في العالم إلى الحرب. نجحت «إيباك» في تدمير العراق وزيادة أمن إسرائيل، ولكنها في الوقت نفسه أساءت إساءة بالغة إلى سمعة الولايات المتحدة ومكانتها الدولية، وأصابت ثقتها بنفسها، وعجَّلت بانحدارها لحساب دول صاعدة اختارت النأي بنفسها عن الدخول في حروب وصراعات دولية تعطل مسيرة نهوضها.
لا شك في أن «إيباك» تستحق صفة العملاق بين جماعات الضغط الأميركية، ولا شك في أنها نموذج تحاول أن تحتذيه جماعات مصالح أخرى في الولايات المتحدة وغيرها وتسعى للتقرب منها ديبلوماسيات أجنبية كثيرة، فهي القدوة في النفوذ والتأثير على صانعي القرار. لا يخفى أن دولاً كثيرة حاولت إقامة جماعة أميركية تخدم مصالحها في الولايات المتحدة، بعضها وهو قليل أفلح بعض الشيء، وأكثرها فشل. إلا أن الانتصارات التي حققتها «إيباك» لم تكن من دون ثمن، وهو الذي تدفعه الآن الجماعة اليهودية الأميركية، التي تميزت دوماً بتعددية الاتجاهات السياسية والأيديولوجية، فإذا بها مضطرة أن تساق كالقطيع لتأييد تيار بعينه في إسرائيل.
كان السؤال الملح دوماً هو كيف ولماذا يتحمل صانعو السياسة والقرار في دولة كبرى مثل الولايات المتحدة اختراق جماعة ضغط محلية لأدق وأخطر الشؤون المتعلقة بالسيادة والدفاع والأمن؟ لم تأت إجابة واحدة مقنعة. قيل إن الأيديولوجية المسيرة لعملية صنع السياسة في الولايات المتحدة لا تختلف جذرياً عن الأيديولوجية المحركة لجماعات الضغط الصهيونية. بمعنى آخر، تبقى الحكومات دائماً حريصة على أن توجد في الساحة جماعات مصالح تساعدها في التأثير على أعضاء مجلسي النواب والشيوخ، وفي الضغط غير المباشر على حكومات دول أخرى.
ليس خافياً أن السنوات الأخيرة شهدت زيادة في الانتقادات الموجهة لهيمنة «إيباك» على حياة اليهود في أميركا ولتدخلها في السياسة الخارجية الأميركية ولنفوذها المتفاقم في دوائر الكونغرس والحكومة وفي الجامعات والمدارس. ليس خافياً كذلك الأثر الذي خلفه نشر كتب ومقالات تثير النقاش حول الطريقة التي تدير بها قيادات معينة منظومة الضغط الصهيونية وتجاوزاتها القانونية والمالية. من الكتب المهمة كتاب بعنوان أزمة الصهيونية كتبه بينهارت Beinhart الأستاذ بجامعة المدينة في نيويورك ورئيس تحرير مجلة «نيو ريبابليك» المعروفة بولائها الشديد لإسرائيل.
يتحدث الكتاب بين أشياء كثيرة عن ميول باراك أوباما الحقيقية تجاه الصهيونية، فيؤكد أن أوباما يميل بحكم نشأته في شيكاغو وتعليمه في هارفارد إلى تيار معتدل في الحركة الصهيونية. جاء أيضاً في الكتاب أن المنظمات الصهيونية في أميركا لا تعتمد على جموع اليهود وبخاصة الشباب، إنما تعتمد بصفة غالبة على عدد من كبار الأغنياء. ثم أنها لا تخضع، أو تقبل أن تخضع، لرقابة أو محاسبة من جانب الشعب اليهودي الذي يفترض أنها تمثله. يدعو بينهارت اليهود الأميركيين للضغط على إسرائيل لإخلاء الضفة الغربية ويطلق على الضفة الغربية اسم «إسرائيل غير الديموقراطية». ويناشد المواطن الأميركي اليهودي أن يواصل تأييده لإسرائيل ولكن يرفض تأييد احتلال إسرائيل لأراض فلسطينية. وفي موقع آخر يرفض المؤلف زعم أنصار «إيباك» أن المنظمات الصهيونية الأميركية تعود بأصولها إلى مبادئ الليبرالية الأميركية، ويقول إن هذه المنظمات في الحقيقة هي رد فعل ضد الليبرالية اليهودية الأميركية، ويدلل على ذلك بأن الشباب اليهودي الجديد في أميركا لا يقبل ما تطرحه المنظمات الصهيونية من أفكار ويتحول إلى منظمات حقوقية وجمعيات أهلية أخرى.
إلا أن أهم ما طرحه بينهارت جاء في عرضه لخطورة مسألة تعميق الشعور لدى اليهود بأنهم ضحايا. يقول إنه بعد حرب 1967 بدأت إسرائيل تحتل صورة «البلطجي» في الشرق الأوسط. ففي ذلك الحين لجأ تيار في الصهيونية الأميركية إلى تضخيم فكرة أن اليهود ضحايا، وتصدرت مسألة الهولوكوست جدول انشغالات الحركة الصهيونية، حتى إنه جاءت مرحلة اعترف فيها عدد من مثقفي اليهود بأن الهولوكوست حلَّت محل الليبرالية كأيدولوجية التنظيمات اليهودية في أميركا.
خرج كاتب آخر من قادة الفكر اليهودي في أميركا يقول إنه كان من أشد مؤيدي إسرائيل ولكن بعد الزيادة الهائلة في نفوذ المتشددين الدينيين وسوء معاملة الفلسطينيين والاستمرار في بناء المستوطنات وسكوت الحكومة على تصرفات المستوطنين وتطرف السياسة الخارجية الإسرائيلية قرر أن ينتقل إلى موقف المعارضة والانتقاد وانضم إلى موكب الدعوة بضرورة إنقاذ إسرائيل من نفسها. يقول Alan Wolfe إنه سجل اعتراضاته الشديدة في كتابه بعنوان « الشر السياسي»، وأن آخرين سلكوا الطريق نفسه وعلى رأسهم المفكر الكبير Gresham Gorenberg وأستاذ الإنسانيات بجامعة كولومبيا Bruce Robbins، هؤلاء وغيرهم يعتقدون أن ضرراً كبيراً وقع على المواطن اليهودي في أميركا الذي أجبرته المنظمات الصهيونية على ترديد القول إن إسرائيل دائماً على حق، الأمر الذي «أفقد اليهودية روحها» ودفع بالكثيرين إلى الانفضاض عنها احتراماً لحريتهم في التعبير وحفاظاً على الليبرالية.
في هذه الأجواء المشحونة بالغضب وخيبة الأمل من السياسات الإسرائيلية وهيمنة المنظمات الصهيونية المرتبطة بها خرج أيضاً من يدعو إلى إنشاء منظمة صهيونية بديلة أو موازية لـ «إيباك» ترفع شعار تأييد إسرائيل والسلام معاً. وبالفعل قامت جماعة أطلقت على نفسها اسم جي ستريت J Street، يقودها مفكرون ورجال أعمال من اليهود الحريصين على «إنقاذ إسرائيل من نفسها» وعلى وضع أسس لعلاقة صحية بين إسرائيل والولايات المتحدة. تعترف قيادة هذه الجماعة بحق الرئيس الأميركي في الاختلاف مع إسرائيل، ويجب أن يعترف جميع يهود أميركا بذلك. وقد رد المتحدث باسم «إيباك» في مؤتمر عام 2010 قائلاً: «إن الحوار بين أميركا وإسرائيل يجب أن يجري خلف أبواب مغلقة»، وطالب قادة المنظمة المنافسة إذا أرادوا فتح نقاش مع «إيباك» فليكن وراء أبواب مغلقة، مثل حوارات إسرائيل مع أميركا.
عقدت «جي ستريت» مؤتمرها الأول في آذار (مارس) 2009 ولفت النظر آنذاك أن البيت الأبيض بعث بالجنرال جيمي جونز مستشار الأمن القومي ممثلاً للبيت الأبيض في المؤتمر، ولم تعجب هذه اللفتة قيادات «إيباك» وإسرائيل، إذ قيل وقتها أن أوباما وحكومته يشجعان الانقسام داخل الحركة الصهيونية الأميركية وتردد في الوقت نفسه الاقتناع بأن دعم الإدارة لجماعة ضغط معينة لا يأتي من فراغ، فهو إجراء معتاد تلجأ إليه السلطة التنفيذية لتنشئ ضغطاً عليها يحيد ضغطاً من جماعة أخرى. ولم يستبعد بعض المحللين أن يكون الدعم لجماعة «جي ستريت» متعمداً بهدف تخفيف نفوذ «إيباك» على عملية صنع القرار، بهدف خلق قناة ضغط للتأثير على القيادة الحاكمة في إسرائيل.
كان رد فعل «إيباك» وأنصار إسرائيل المتشددين قوياً إلى الدرجة التي دفعت البيت الأبيض إلى إرسال دينيس روس مبعوثا للمؤتمر الثاني لمنظمة «جي ستريت» في آذار (مارس) 2011. وبالفعل قوبل روس ببرود شديد من أعضاء المؤتمر وبخاصة حين كرر موقفه المعادي للسلام واتهم المنظمة الجديدة بأن أجندتها غير واقعية وأنها تخطئ حين توحي في خطابها بأن المشكلة الوحيدة في الشرق الأوسط هي المستوطنات بينما المشكلة الوحيدة هي حكومات الشرق الأوسط المستبدة، وأكد مرة أخرى على موقفه وموقف «إيباك» من أن الأمم المتحدة ليست المحفل المناسب لإجراء مفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
وفي 24 آذار (مارس) الجاري عقدت «جي ستريت» مؤتمرها الثالث، فكان الانعقاد في حد ذاته دليلاً على قوة صمود المنظمة أمام حملة الابتزاز والتشهير التي شنتها ضدها الأجهزة الصهيونية والإسرائيلية. آلان ديرفوفيتش أستاذ القانون الدولي في هارفارد وأشد الأكاديميين الصهاينة تطرفاً وكراهية للعرب والمسلمين قال في هجومه على انعقاد المؤتمر الثالث «عار أن تقدم جي ستريت نفسها كجماعة ضغط مستقلة، والدليل على أن أعضاءها ليسوا من أنصار إسرائيل أنهم وجهوا الدعوة لزبغنيو برجينسكي مستشار الأمن القومي في عهد كارتر وأحد مستشاري أوباما لحضور المؤتمر. يرد هادار ساسكين أحد قادة «جي ستريت» أنه لا توجد في أميركا جماعة تتحدث بصوت واحد. هناك دائماً اختلافات في الرأي وليس من حق «إيباك» أن تسكت منظمات يهودية أخرى لمجرد أنها تختلف معها.
تتغير خريطة أميركا الأيديولوجية كغيرها من الخرائط الأميركية، ولا يمكن أن تفلت الحركة الصهيونية الأميركية، باعتبارها جزءاً أصيلاً في خريطة أو أكثر من هذه الخرائط من التغيير. ولا شك في أن ظهور «جي ستريت» وصمودها من أهم علامات هذا التغيير. أتفق مع جاك برلينو الأستاذ بجامعة جورج تاون ومدير برنامج الحضارة اليهودية الذي علق على ظاهرة «جي ستريت» بالقول إن بعض اليهود خافوا حين كشفت بعض المؤشرات عن علاقة بين هذه الجماعة من ناحية والبيت الأبيض ووزارة الخارجية الأميركية من ناحية أخرى، وأن المنظمة الوليدة صارت تجد آذاناً صاغية داخل كل منهما.
-----------------
* نقلا عن الحياة اللندنية، الإثنين 2/4/2012.