يتسابق الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي عن حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية، وفرنسوا هولاند عن الحزب الاشتراكي الفرنسي وآخرون للفوز بمعركة انتخابات الرئاسة الفرنسية . وكلما اقترب العد التنازلي من موعد الانتخابات المقرر أن تبدأ دورتها الأولى في 22 نيسان/إبريل المقبل، تصاعدت حدة السجال على خلفية الوضع الاقتصادي . فهذه الحقيبة مترعة أزمات ومشكلات، تبدأ بتراجع النمو وتفاقم العجز المالي والمديونية، ولا تنتهي بالبطالة واجراءات التقشف التي تهدد فرنسا كل يوم بتجدد التظاهرات والإضرابات النقابية والشعبية .
للوهلة الاولى، لا يبدو في متناول ساركوزي، الذي يحوز كاريزما سياسية وخطابية تعينه على تعبئة جمهور الناخبين، الكثير من الزاد الخطابي في الشأن الاقتصادي الذي كاد ينفد، لفرط ما استهلكه من خطب لمواجهة غضب الشارع والدفاع عن سياساته التقشفية وفي مواجهة أزمة مديونية منطقة اليورو . أما وخصمه القوي هو من الحزب الاشتراكي الفرنسي، فقد تحول الى التحذير من مغبة سياسات الحزب المذكور على اقتصاد فرنسا وجاذبيتها لاستقطاب الرساميل . بل لاحتمال ان تؤدي تلك السياسات الى هروب الرساميل الفرنسية نفسها، على ما تناقلته وسائل الاعلام الفرنسية عن ساركوزي أكثر من مرة . “هولاند يريد تقليص عدد الاغنياء وأنا أريد خفض أعداد الفقراء . هذا هو الفرق بيني وبين هولاند” كذا قال ساركوزي .
من حق ساركوزي، وهو مرشح الشركات الكبرى وقوى المال في فرنسا، أن يوظف في حملته الانتخابية ما ملكت يمينه من مواقف لا يخفيها أصلاً المرشح الاشتراكي، العازم على زيادة الضرائب على الاثرياء وقطاع المال . وقد ذهب هولاند الى ابعد حين خاطب أخيراً مهرجاناً احتشد له ألوف من انصار الحزب في لوبورجيه من ضواحي فرنسا، “جئت لأقول لكم إن صفحة من تاريخ فرنسا في طريقها إلى الزوال وصفحة جديدة في صدد الكتابة . الترشح إلى الانتخابات الرئاسية يعني النضال من أجل عالم لا يخضع لدكتاتورية الأسواق والمؤسسات المالية، بل عالم تسوده المساواة والعدالة بين جميع المواطنين، ويحترم فيه الجميع القوانين مهما كانت مكانتهم الاجتماعية أو السياسية، بعيداً عن الديماغوجية والعنف السياسي” .
ليس رؤساء وساسة العالم الثالث والدول النامية ونحن منها، هم فقط من يستخفون بعقول شعوبهم ويصادرون الذاكرة أحياناً . في دول العصر والحداثة يحصل ذلك أيضا، خصوصاً في مواسم الانتخابات . كلاهما ساركوزي وهولاند يفعلان هذا الأمر الآن . في فترة رئاسة ساركوزي رزحت فرنسا تحت أقسى خطة تقشف مالية منذ ،1945 للخروج من الأزمة التي استولدت من سياسات المخاطر والتوظيف في الأوعية المسمومة التي اقدمت عليها الاسواق المالية وشركاتها، والتي حظيت بدعم ساركوزي وحزبه . وفي الفترة نفسها شهدت فرنسا الركود الاقتصادي وبلوغ البطالة 8 .9 في المئة مع مديونية بواقع 3 .83 في المئة الى الناتج المحلي . ومن عجب ان ساركوزي هو صاحب اقتراح فرض ضريبة على القطاع المالي لتأمين التوازن المالي الاوروبي، وكان حتى الأمس القريب في قمة الاتحاد الأوروبي في بروكسل الشهر الماضي، يتباهى بأن حليفته المستشارة الألمانية انجيلا ميركل اصبحت مقتنعة باعتماد تلك الضريبة أوروبياً .
ويتناسى هولاند ان فترة رئاسة من 15 عاماً للرئيس الاشتراكي العتيد فرنسوا ميتران، أهم رئيس فرنسي بعد شارل ديغول، هي التي شهدت عمليات استخصاص مؤسسات عدة في القطاع العام، حيث تأثر ميتران بالسياسات النيوليبرالية المتطرفة في مرحلة رونالد ريغان في الولايات المتحدة، ومرغريت تاتشر في بريطانيا خلال حقبة الثمانينات . بيد ان جنوح ميتران نحو الالتحاق بركب القطاع الخاص واقتصاد السوق في تلك المرحلة، لم يكن أبداً على حساب الطبقة المتوسطة واصحاب الأجور المتدنية . فميتران هو الذي عزّز برامج التعليم والصحة . وأنفق الكثير على الرعاية الاجتماعية . وبقيت فرنسا مجتمعاً يعتد به على مستوى الرفاه الاجتماعي . وميتران خفض سن التقاعد الى 60 سنة من 65 ساركوزي هو الذي أخلّ بهذه الميزة التفاضلية لفرنسا وعاد ورفع سن التقاعد الى 60 سنة واضاف تعديلات مجحفة للعمال والاجراء على عقد العمل الفرنسي . وما زال مستمرًا في هذا النهج للخروج من الأزمة المالية بخطة تقشف لا يتقاسم أعباءها بعدالة الأغنياء مع الفقراء . أي المتسببون بالأزمة وضحاياها . وفي اعتقادي، هذا ما يفترض أن يركز عليه الحزب الاشتراكي وهولاند إذا ما قدر للأخير حصان السبق الى الاليزيه . الطريف، أن حكومة ساركوزي تقدر العجز في تمويل صندوق التقاعد في 2020 بنحو 45 مليار يورو . المبلغ يوازي تقريبا خفض العجز الذي تعهدته الحكومة في خطة التقشف لثلاث سنوات بدأت في 2011 . وهو في حدود 46 مليار يورو ليحاكي 3 في المئة نسبة العجز المعياري في منطقة اليورو، مع بلوغ الخطة سنتها الاخيرة في 2013 .
وجه الغرابة، أن هذه الأزمة المالية والاقتصادية التي غيرت نمط العيش في فرنسا واوروبا، وراكمت البطالة ومستوى الفقر على نحو غير مسبوق، لا تشي رغم العمق الثقافي والديمقراطي للشعوب الاوروبية، بأنها راكمت تبدلاً جوهرياً في الفكر السياسي والاجتماعي، كافيا للتغيير السياسي الذي يضع حدا للنيوليبرالية وآفاتها . هل تكون هي الحد الفاصل بين ساركوزي وهولاند في الحملة الرئاسية؟
-----------------
* نقلا عن دار الخليج الثلاثء 27/3/2102.