الأربعاء 21 - 3- 2012
عرض: أميرة البربري، باحثة ماجستير بكلية الإعلام، جامعة القاهرة.
إن المشهد العراقي، غداة الانسحاب الأمريكي من العراق، لا يبعث على التفاؤل، فالنظام الذي خلفه الاحتلال من انقسامات داخلية عرقية وطائفية عميقة، وتدخل الجيران، والتعددية متعددة الأوجه، مع غياب الديمقراطية، قوضت عملية الاستقرار في العراق.وأصبح العراق على شفا جرف هار ما بين المركزية المطلقة للسلطة في يد ديكتاتور آخر قيد الصنع (المالكي)، والانغماس في حمأة حرب أهلية تقود إلى التقسيم.
فى هذا الصدد، حاولت ورقة بحثية صادرة عن مؤسسة كارنيجى للسلام الدولي في فبراير، تحت عنوان "حالة العراق" لـ"مارينا أوتاوي" و"دانيال قيسي"، رصد وتوصيف حالة التوتر الراهنة التي يعيشها العراق، بعد الانسحاب والعوامل التي أدت إلى ذلك، وسبل حلها.
التعددية السياسية والتوترات الطائفية
ذكر الباحثان أن العديد من المشاكل الراهنة التي يعانيها العراق سابقة على التدخل الأمريكي، معللين ذلك بعدد من الشواهد، أولها التعددية السياسية، والتوترات الطائفية. فثمة أشكال عديدة للتعددية في العراق ما بين التعددية السياسية، والإثنية، والطائفية. فالعراق كان دائماً بلداً منقسماً، باعتبار أنه حين شكل، غداة تفكيك الإمبراطورية العثمانية، تطلع الأكراد إلى أن يكون لهم بلدهم الخاص، وشعروا بأنهم افتري عليهم حين خصصت لهم وضعية الأقلية في العراق.
وهناك التعددية السياسية التي تكشفت بعد الغزو الأمريكي - والتي شجعتها عن عمد الولايات المتحدة وحلفاؤها باسم تدعيم الديمقراطية - وخلقت مشهداً سياسياً تعددياً للغاية، له مراكز سياسية متعددة، لكن من دون اتفاق على قواعد لمنع هذه التعددية من الانحدار إلى النزاع. فقامت بتشكيل مئات الأحزاب السياسية الجديدة، عبر توفير التدريب من خلال منظمات غير حكومية، لكنها بقيت هامشية، مما أسهم في تجزئة القوى السياسية.
كما طرح الدستور فكرة الفيدرالية في سبيل تلبية طلبات الأكراد، بيد أن الدستور اعترف أيضاً بأن ثمة أجزاء أخرى من البلاد تريد كذلك حكماً ذاتياً أكبر في المستقبل. وفي مثل هذه الظروف ،باتت لفكرة أقاليم الحكم الذاتي جاذبية لدى العديد من السياسيين السنة الذين باتوا مقتنعين بأنه لن يكون لهم قط نفوذ كبير في المركز، وبالتالي فهم يمكن أن يمارسوا سلطة أكبر محلياً ،إذا ما شكلوا أقاليمهم الخاصة.
ومن هنا، فإن الولايات المتحدة كانت أحد مراكز القوة في العراق، وأحد العناصر في هذه التعددية المعقدة. والحال أن الولايات المتحدة لم تسيطر أبداً على العراق بشكل كامل. وحتى في ذروة الاندفاعة العسكرية في عام 2007 ، حيث كان يوجد أكثر من 140 ألف جندي أمريكي في البلاد، لم تستطع الولايات المتحدة حمل السياسيين العراقيين على الاستماع إلى توصياتها حول الاتفاقات السياسية الضرورية التي يجب التوُّصل إليها، وحول التشريعات التي يجب سنها، لكنها سيطرت على الأمن، وهذا ما جعلها مركز قوة. وتزعم واشنطن أنه ليس هناك ثمة علاقة مباشرة بين انسحاب القوات وفقدان النفوذ، بيد أن أزمة ما بعد الانسحاب تظهر بالعكس.
لذا، فإن بعض مراكز القوة الجديدة يمكن أن تختفي كنتيجة لهذه الصراعات السياسية. ومع ذلك، ستبقى درجة التعددية مرتفعة، لكنها لن تأخذ شكل التعددية المؤسسية المقبولة من الجميع، والتي يحميها الدستور، بل ستبرز من الانقسامات الاجتماعية والصراعات على السلطة ما يجعلها مثاراً للنزاع لا للاستقرار.وهناك أيضاً التوترات السنية - الشيعية ذات الديمومة هي الأخرى، والموجودة في كل أنحاء العالم العربي. فإن كلاً من الهويات الدينية والإثنية مسيستان إلى حد كبير، وبدأتا تصبحان أكثر تخندقاً. ولا ريب فى أن مثل هذه التعددية ستدوم لسنوات عدة تالية. إذ حالما تصبح الهويات مسيّسة، تميل إلى أن تصبح جلية ونافرة.
ويرى الباحثان أن هذه الانقسامات الإثنية والطائفية كانت العامل المنظم للمقاومة ضد صدام حسين. فالمؤتمر الوطني العراقي الذي شكل ،غداة حرب الخليج، كمظلة للمنظمات المعارضة، ودعمته الولايات المتحدة، لم يكن فيه شيء وطني، بل كان خليطاً من الأحزاب الطائفية والإثنية، وقد واصلت الانقسامات المستندة إلى الهوية الهيمنة على العملية الانتخابية التي أقامها الاحتلال، وهي تكمن الآن في أصول الأزمة الراهنة في حقبة ما بعد الاحتلال.
تدخل جيران العراق في شئونه الداخلية
الشاهد الثاني يتمثل في أن جيران العراق ليسوا متفرجين سلبيين على التوترات الطائفية والإثنية في البلاد؛ بل هم يحاولون استغلال هذه التوترات لتحقيق مصالحهم الخاصة.
فسعت تركيا لإقامة علاقات طيبة مع كل الأطراف في العراق، وكان هذا تطوراً غير متوقع، لأنه قبل الغزو الأمريكي كانت تركيا خصماً قوياً للحكم الذاتي الكردي، داعمةً بذلك ضمنا صدام حسين. ولكن بعد الإطاحة بنظامه، دفعت مجموعة من العوامل - منها بروز سياسة خارجية تركية جديدة تقوم على بناء علاقات طيبة مع الجيران، وضعف الحكومة المركزية العراقية عقب الاحتلال - تركيا بشكل غير متوقع إلى قبول الحكم الذاتي للإقليم الكردي العراقي، وإلى زيادة استثماراتها ومعاملاتها التجارية معه، فيما مارست السياسة نفسها مع الحكومة في بغداد. كما سعت تركيا أيضاً إلى البقاء على الحياد في النزاع بين السنة والشيعة، على الرغم من اتهام المالكي لها بدعم السنة.
بيد أن الجيران الآخرين ينحازون إلى هذا الطرف أو ذاك في العراق. فالسعودية والدول الأخرى في مجلس التعاون الخليجي لم تكن غير سعيدة لرحيل صدام حسين الذي قاتلت ضده إلى جانب الولايات المتحدة، لكنها شعرت بقلق شديد من جراء تداعي النظام العراقي برمته، بما في ذلك الجيش، ومن إدخال سياسات انتخابية ظنت أنها ستكون لصالح الشيعة الأكثر عدداً، وهو ما أكدته انتخابات 2005 ثم 2010، إذ إن معظم العراقيين صوتواً انطلاقاً من هويات إثنية – طائفية.
وبما أن هذه الدول اقتنعت بأن العراق الذي يهيمن عليه الشيعة قد يكون مفتوح أمام النفوذ الإيراني، أو حتى الهيمنة الإيرانية الكاملة، فهي تحاشت العراق عمداً ،وقاومت الضغوط الأمريكية لتعزيز روابطها مع بغداد، وبالتالي تركت العراق معزولاً في المنطقة، ماعدا علاقاته مع إيران.والواقع أنه ليس ثمة طرف خارجي، بما في ذلك الولايات المتحدة، نجح في لعب دور حاسم في العراق باستثناء تركيا أخيراً، فالكل حاول التلاعب بالتوترات الإثنية والطائفية بوسائله المختلفة، وأسهم في تعميق مشاكل بلد منقسم على نفسه.
غياب الديمقراطية
يرى الباحثان أن التعددية والديمقراطية مفهومان ليسا مترادفين. فالديمقراطية تتطلب التعددية، لكن تتطلب أيضاً القواعد الخاصة بكيفية توزيع السلطة، وقبول المبدأ بأن سلطة الرابحين ليست مطلقة، بل تقف عند حقوق الآخرين.
فالقواعد التي يفترض أن العراق يحكم بها غالباً ما تكون غير واضحة ولا تحترم. فالدستور الذي وضع في غضون أسابيع ،وفق الخبراء الذين شاركوا في هذه العملية، صيغ بشكل ضعيف ،وكان بمثابة وثيقة غامضة تتطلب التفسير باستمرار. ثم إن المحكمة العليا الاتحادية التي كانت تقوم بهذا التفسير أثبتت مراراً أنها تتأثر بالسياسات، إذ كانت قراراتها تدعم دوما موقف المالكي. والحال أن غياب مؤسسات مستقلة حقاً يصب فى مصلحة رئيس الوزراء الذي أصبح بشكل متزايد سلطويا.
ويعترف المدافعون عن المالكي بأنه يميل إلى الإمساك بالأمور في يده من دون احترام للقواعد، بيد أنه يفعل ذلك استنادا إلى قناعة حقيقية بأن عليه مسئولية التدخل والعمل، حين ينغمس كل الآخرين في الشجار. في حين يراه المعارضون "ديكتاتورا عربيا آخر قيد الصنع"، وبأنه مستعد للي عنق الدستور، حين يلائمه ذلك.
على هذه الخلفية الصعبة، ارتكبت سلطة التحالف المؤقتة بقيادة الولايات المتحدة خطأ فرض عملية قصيرة للغاية لوضع دستور. وعلى غرار العديد من القرارات التي اتخذتها الولايات المتحدة في الفترة الأولى من الاحتلال، لم يكن فرض مثل هذه العملية القصيرة مدروساً بشكل جيد.
أزمة ما بعد الانسحاب:
قوضت العوامل السابق ذكرها الاستقرار في البلاد ،مما أدى إلى الجدل الذي رافق الانسحاب النهائي للقوات الأمريكية، والذي تجسد في:
- المعركة حول حقوق المحافظات:
لبضع سنوات، بدا أن مسألة الفيدرالية قد تم نسيانها. فقد حصل الأكراد على ما كانوا يريدونه من الدستور، وبدأوا في توضيح مسألة ما إذا كانت الأقاليم أو الحكومة الاتحادية هي التي تسيطر على حقوق التعدين من خلال خلق حقائق على الأرض أم لا. وعلى الرغم من أن الدستور لم يكن واضحاً للغاية بشأن الجهة التي تسيطر على النفط والغاز المكتشف حديثاً، فقد بدأ المسئولون الأكراد ببساطة بتوقيع عقود مع شركات النفط الأجنبية، أبرزها كان في ديسمبر 2011 مع شركة إكسون موبيل.
وسعى القادة السياسيون والقبليون، فيما لا يقل عن خمس محافظات من المناطق الوسطى والجنوبية من العراق ،إلى الحصول على قدر أكبر من السلطة علناً، وهددوا بالبدء في عملية تحويل محافظاتهم إلى أقاليم تتمتع بالدرجة نفسها من الاستقلالية، مثل إقليم كردستان.
واستمرت مشكلة تقسيم السلطة بين الحكومة المركزية وحكومات الأقاليم بالتسبب في تفاقم الأمور تحت السطح، ولم يساعد تمرير مجلس النواب لقانون سلطات المحافظات رقم 21 لعام 2008 ، والذي من المفترض أنه وضح المسائل وزاد من سلطة المحافظات، لأن المشكلة كانت سياسية أكثر منها قانونية. وبالتالي، فسر مجلس الوزراء القانون ليعلن أن الحكومات الإقليمية لا تملك الحق في التشريع، مؤكداً أن الحكومة الفيدرالية فقط هي التي تمارس السلطة التشريعية. وسعى المالكي إلى الحد من سلطات المحافظات.
واعتمد الالتباس هنا على صراع بين فكرة وجود نظام لا مركزي للإدارة ،كانت واشنطن تضغط لإقراره، والتقاليد العراقية التي تقول إن كل شيء يحدث في العاصمة.
- سلطات المحافظات والصراعات الطائفية:
ويرى الباحثان أنه من الصعب فهم عناد المالكي في الإبقاء على نظام مركزي للغاية، في الوقت الذي كانت فيه الحكومة غير قادرة بشكل واضح على التعامل مع مشاكل العراق، ما لم ينظر إليه في سياق سعيه إلى الحصول على قدر أكبر من السلطة، وخوفه من إمكانية أن تقوض اللامركزية الوحدة الوطنية. ويؤكدان أن من شأن قدر أكبر من اللامركزية أن يكون الخيار عقلانيا، لأنه كان واضحاً أن بغداد غير قادرة على تقديم الخدمات على نحو فعال.
وعلى الرغم من أن المطالبات بقدر أكبر من السلطات للمحافظات لم تقتصر أصلاً على المناطق السنية، فإن مسألة اللامركزية سرعان ما أصبحت رمزاً للمقاومة السنية. وبدلاً من الاستجابة لتحذيراتهم، واتخاذ خطوات لتهدئة مخاوفهم، شنت الحكومة جولة جديدة وشاملة من اجتثاث البعث، واتهمت معظمهم بكونهم جزءاً من مؤامرة بعثية تهدف لإسقاط النظام السياسي الحالي، وأعادت فتح قضية مثيرة للجدل السياسي لا علاقة لها بالخطر الكامن في إحياء النظام القديم بقدر علاقتها بالسياسة الحالية.
وكانت صلاح الدين أول محافظة ترد، وأعلن مجلس محافظتها أن ثلثي أعضائه صوتوا لإقامة صلاح الدين كإقليم إداري واقتصادي في عراق موحد، وأرسل إلى مكتب رئيس الوزراء طلبا بأن تنظم المفوضية العليا العراقية للانتخابات استفتاء في المحافظة بموجب القانون.
وحوّل الاهتمام المتزايد بمسألة إنشاء الأقاليم، حتى بعض مؤيدي المالكي، إلى مؤيدين لمنح المحافظات سلطات أقوى. ويشكل هذا في جزء منه خطوة لمواجهة تزايد تمركز السلطة في يد المالكي. وقد تسبب هذا التمركز للسلطة في احتجاج وانشقاق حتى في ائتلاف دولة القانون نفسه، الذي يتزعمه المالكي، ولاسيما في المحافظات. وبالتالي، شكلت أعمال المالكي تهديداً للديمقراطية، بغض النظر عن دوافعها.
المضي قدماً:
تخلص الورقة البحثية إلى أنه بعد ثماني سنوات من الاحتلال ومقتل 4500 أمريكي، وجرح 33 ألفاً آخرين، وعدد غير معروف إلى الآن من الضحايا العراقيين، ليس لدى الولايات المتحدة سوى القليل لإظهاره في مقابل استثمارها في العراق. فالبلد غير ديمقراطي وغير مستقر، والعنف يشتعل مرة أخرى، واحتمال أن يتم تقسيم البلاد صار حقيقياً مرة أخرى. ومن الواضح أن النظام السياسي الذي فرضته الولايات المتحدة على العراق لا يعمل.
وفي هذا السياق، بدأ العديد من القادة العراقيين الترويج لفكرة، مفادها أنه يجب إعادة تصميم النظام السياسي بعد الانسحاب. وقد صرح كل من علاوي والمالكي بأن الدستور كان إشكالياً ،ويستند إلى تفاهم طائفي لا وطني. ودعا الاثنان إلى تعديله، كما دعا رئيس كتلة العراقية في البرلمان "سلمان الجميلي" إلى إعادة صياغة الدستور، بحجة أنه كان مصدراً للصراعات المستمرة. ولم يقدم أي من دعاة الإصلاح الدستوري أي تفاصيل، نظراً لحالة البلد، حيث يسهل التنبؤ بأنه ليس ثمة اتفاق حول ما هو مطلوب، لأن العراق مقسم في الواقع، وخطوط الصراع فيه حقيقية.
ويختتم الباحثان الورقة بأن أمام العراق صراعاً طويلاً ،قبل أن يستقر على شكل من أشكال النظام السياسي. فالعملية التي كان يجب أن تبدأ قبل ثماني سنوات، عندما أطيح بصدام حسين، تبدأ الآن مع الانسحاب الأمريكي. إذ تشهد السرعة التي تفكك فيها النظام الأمريكي على حقيقة أنه كان دائماً حلاً مفروضاً بشكل مصطنع. وقد لا يكون العراقيون أكثر نجاحاً في إيجاد الحلول الخاصة بهم، لكن حان الوقت كي يحاولوا.
ونلاحظ من خلال ما سبق تركيز الورقة على إسقاط الحالة الراهنة التي يعيشها العراق من توترات وانقسامات في الأساس إلى التعددية السياسية والطائفية والإثنية التي هي متجذرة في النسيج العراقي، والاتفاق السياسي الدقيق والهش بين الأحزاب والفصائل السياسية، والذي أدى إلى تداعي حكومة الوحدة الوطنية؛ بالإضافة إلى فشل المساعي الأمريكية، رغم الجهد الذي بذلته – من وجهة نظرها – في إرساء قواعد الحرية والديمقراطية قبل الانسحاب.
بينما تجاهلت أو تناست أن أحد المسببات الرئيسية لما آل إليه الوضع في العراق هو جزء من مخطط أمريكي، سمي بالشرق الأوسط الجديد، يقوم على إثارة الفوضى الخلاقة، من خلال إذكاء الفتنة الطائفية بين السنة والشيعة في العالم العربي، والذي بدأ من العراق باعتباره واحدة من كبرى الدول العربية التي تحتوي على تباينات إثنية وطائفية عديدة. والدليل على ذلك إشارة الباحثين إلى أن الأزمة التي انغمس فيها العراق، غداة الانسحاب الأمريكي، دليل نهائي على عدم جدارة إدارة أوباما، وفشلها في توفير اتفاق مع المالكي، كان يجب أن يسمح ببقاء قوة عسكرية أمريكية في البلاد.