في التاسع عشر من شهر يناير 2011 أصدر أوباما والرئيس الصيني بياناً مشتركاً في نهاية الزيارة التي قام بها الأخير للولايات المتحدة. وفي هذا البيان أعلن الرئيسان التزامهما المشترك بإقامة "علاقة إيجابية، وتعاونية، وشاملة بين الولايات المتحدة والصين". وقام كل جانب بطمأنة الجانب الآخر بشأن همومه الرئيسية، حيث جاء في البيان بهذا الشأن"لقد أكدت الولايات المتحدة أنها ترحب بالصين القوية- المزدهرة، الناجحة التي تلعب دوراً أكبر في شؤون العالم. كما أن الصين من جانبها ترحب بالولايات المتحدة كدولة باسيفيكية تساهم بدور في سلام واستقرار ورخاء المنطقة".
ومنذ ذلك الحين شرعت الدولتان في تحقيق الأهداف المعلنة، حيث تبادل كبار المسؤولين الأميركيين والصينيين الزيارات، وقاموا بمأسسة مشاوراتهما ووجهات نظرهما بشأن الموضوعات الاستراتيجية والاقتصادية المختلفة، كما استأنفا مجدداً الاتصالات العسكرية- العسكرية، فيما بينهما وهو ما ساهم في فتح قناة اتصال مهمة ومستمرة. وعلى المستوى غير الرسمي قامت المجموعتان المسميتان بـ"مجموعتي المسار" باستكشاف الآفاق المحتملة للعلاقات الأميركية–الصينية.
مع ذلك، وفي الوقت الذي يزداد فيه التعاون بين الدولتين، تدعي مجموعات ذات شأن في البلدين أن التنافس على التفوق والسيادة بين الصين والولايات المتحدة، يعد أمراً حتمياً في نهاية المطاف، بل إن من بين تلك المجموعات من يذهب إلى أن ذلك التنافس قد بدأ بالفعل.
من هذا المنظور، قد نجد من يوصف الدعوات لزيادة التعاون بين البلدين على أنها ساذجة أو فات أوانها.
والاتهامات المتبادلة بين الدولتين، تنبع من تحليلات مختلفة لحقائق الأمور والأوضاع تتم بشكل يكاد يكون متوازياً في البلدين. فبعض المفكرين الاستراتيجيين الأميركيين يتبنون رأياً مفاده إن السياسة الصينية تسعى لتحقيق هدفين بعيدي المدى هما: إزاحة الولايات المتحدة عن موقعها الحالي كقوة متفوقة في الباسيفيكي الغربي وتعزيز قوة آسيا بحيث تتحول لكتلة طاردة للوجود الأميركي، ومتقبلة في الوقت ذاته للمصالح الصينية في المجال الاقتصادي ومجال السياسة الخارجية.
أما الصين فإن مفكريها الاستراتيجيين يرون أن الولايات المتحدة عبارة عن قوة عظمى جريحة مصممة على إحباط أي متحد لها- الصين تحديداً- وأنه مهما كان حجم التعاون الذي تسعى الصين لتقديمه في إطار علاقاتها مع الولايات المتحدة، فإن هدف الولايات المتحدة النهائي الثابت سيظل هو كبح القوة الصينية المتنامية من خلال الحشد العسكري، ومن خلال ربطها –ربط بكين- بقيود المعاهدات والاتفاقيات، للحيلولة بينها وبين العودة لأمجادها السابقة التي شهدتها أيام "المملكة الوسطى". على ضوء تلك الرؤى المتناقضة، والشكوك، والاتهامات المتبادلة، بين البلدين يصبح السؤال هو: هل هناك معنى في السعي من أجل إقامة علاقة تعاونية بين الصين والولايات المتحدة؟ ليس هناك شك أن صعود قوى جديدة، كان يؤدي تاريخياً لصراعات بينها وبين القوى القائمة الراسخة... ولكن وفيما يتعلق بموضوعنا، يجب علينا التأكيد بأن الأوضاع في العصر الراهن، قد تغيرت كثيراً عما كانت عليه في الماضي.
من الطبيعي أن تسعى الولايات المتحدة إلى المحافظة على أمنها ومصالحها إذا واجهت تحدياً - من الصين في حالتنا هذه- ولكن لا يجب بأي حال من الأحوال أن تكون سياستها المختارة هي سياسة التصادم مع تلك الدولة. يرجع ذلك لحقيقة أن الدولتين تمتلكان من الإمكانيات والقدرات ما يمكن أن ُيلحق بهما معاً –في حالة المواجهة – خسائر فادحة يمكن تجنبها، إذا تم تبني سياسات تبعد عن المواجهة وتقترب من الاحتواء.
بيد أنه يجب أن يكون واضحاً أن القواعد والخطوط الإرشادية لأسلوب "الاحتواء" المستمد من استراتيجيات الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي لا تنطبق على الظروف الحالية. فاقتصاد الاتحاد السوفييتي كان ضعيفاً وغير مؤثر على الاقتصاد العالمي أما الصين المعاصرة، فهي مساهم ديناميكي في الاقتصاد العالمي، مما يعني أن نشوب أي صراع بين الولايات المتحدة والصين وامتداده على فترة زمنية طويلة، سيؤدي إلى تغييرات في الاقتصاد العالمي وتداعيات مزعزعة للجميع.
وإذا نظرنا للموضوع من المنظور الصيني سنجد أن هناك أسباباً أخرى غير الفارق الرهيب في القوة العسكرية على وجه الخصوص، تدعو الصين لاتباع سياسة تقوم على ضبط النفس في التعامل مع الولايات المتحدة، على الأقل في المدى المتوسط: من تلك الأسباب على سبيل المثال لا الحصر عملية التكيف وإعادة الهيكلة الداخلية التي تتم بداخلها، والناشئة في الأساس على الهوة في مستوى التقدم وظروف المعيشة بين المناطق الساحلية المزدهرة، والمناطق الداخلية الغربية المتخلفة. وهناك أيضاً التحديات المتعلقة ببرنامج تغيير الوظائف والمناصب الحكومية الذي ستبدأ فيه الصين في عام 2012، والذي يرمي في محصلته النهائية إلى شغل الوظائف الرئيسية في المكتب السياسي للحزب، ومجلس الدولة واللجنة العسكرية المركزية، والآلاف من المناصب الرئيسية في الأقاليم بموظفين جدد، أو بجيل جديد يحل محل الجيل الحالي.
وهناك العديد من التغيرات الثقافية المصاحبة للتغيرات الاقتصادية والسياسية التي تحدث في الصين في الوقت الراهن تفاقم من هذا التحدي، أو تجعل مواجهتها أمراً غاية في الصعوبة.
وهذه التحولات الاجتماعية والسياسية التي تتم حالياً، أو التي ستتم عما قريب في الصين، سيتبعها حتماً اهتمام وأمل من جانب الولايات المتحدة. بداية، ينبغي القول إن التدخل الأميركي المباشر في الشؤون الصينية لن يكون أمراً منتجاً أو عاقلًا. وما أقصده بالتدخل المباشر هو الاهتمام الأميركي بمتابعة تصرفات وسلوك الحكومة الصينية يوماً بعد يوم، وانتقاد تلك التصرفات والسلوك، وإعلان تفضيلها للمبادئ الديمقراطية.
وعلى الولايات المتحدة أن تدرك جيداً في هذا الخصوص أن أسلوب السعي لإحداث تغييرات في المؤسسات الصينية من خلال الضغط الدبلوماسي والعقوبات الاقتصادية، سيكون مصيره الإخفاق وسيؤدي لعزل العناصر والقوى الليبرالية الصينية، التي تسعى الولايات المتحدة لدعمها، كما سينظر إليه من قبل قطاعات كبيرة من الصينيين من خلال منظور القومية المتعصبة بما يؤدي حتماً لاستعادة الذكريات المريرة لعهود التدخلات الأجنبية في الشؤون الصينية.
وهناك نقطة أخرى ينبغي تسليط الضوء عليها لفهم جوهر العلاقة بين الدولتين وآفاقها المحتملة، هي أن النظام العالمي الحالي قد بني لحد كبير من غير مساهمة صينية وهو ما يجعل الصين تتصرف أحياناً بما يوحي بأنها تشعر بأنها يجب أن تكون أقل التزاماً من الآخرين بقواعده. فعندما تجد الصين مثلاً أن تلك القواعد لا تناسبها فإنها تسعى لخلق مسارات بديلة خاصة بها، مثل إقامة قنوات بديلة للعملة والتحويلات النقدية مع دول مهمة مثل البرازيل واليابان وغيرها من الدول في تعاملاتها التجارية والمالية.
واستراتيجية" إدارة الأزمات" كما نعرفها، لن تكون كافية لإدامة علاقة على هذا المستوى من الأهمية العالمية، وتعاني بالفعل من العديد من الضغوط وجوانب الاختلاف، سواء داخل كل دولة من الدولتين أو بينهما وبين بعضهما.
وهذا تحديداً هو السبب الذي جعلني أنادي بتبني مفهوم "مجتمع الباسيفيكي"، الذي يقوم في الجوهر على اعتقاد راسخ مؤداه أن الصين والولايات المتحدة ستنجحان في توليد اهتمام متبادل لـ"الهدف المشترك" أو على أقل تقدير اهتماماً متبادلاً ببعض الموضوعات والمسائل ذات الاهتمام العام. ولكن تحقيق ذلك الإحساس المتبادل بـ"الهدف المشترك" لا يمكن أن يتحقق إذا أصر كل طرف من الطرفين، على النظر إلى ذلك المشروع، من وجهة نظره هو، على أنه -المشروع- يمكن أن يكون بمثابة وسيلة فعالة لهزيمة أو تقويض الطرف الآخر. ويجب على الدولتين العظميين معاً أن تتعهدا بالالتزام بالتعاون المشترك، وتجدان طريقة للتواصل فيما بينهما وتوصيل الرواية التي يعتنقها ويرددها كل طرف للآخر، وللعالم في نفس الوقت.
كما يتعين عليهما أيضاً -وهما يطبقان هذه المقاربة- الاعتراف بالتأثير السيئ الذي تلعبه لغة الخطاب المستخدم على الإدراكات، ومن ثم على الحسابات الخاصة بكل منهما.
ويجب على كل طرف من الطرفين بالإضافة لذلك أن يتقبل ما يقوم به الطرف الآخر من أنشطة على أنها جزء طبيعي من الحياة الدولية، وليست بالضرورة سبباً يدعو لتخوفه. الصين والولايات المتحدة لن يتساميا في أي حال من الأحوال، فوق عملية التنافس الطبيعي بين القوى العظمى، ولكن ينبغي عليهما مع ذلك أن يتعهدا لنفسيهما أولاً، ومن ثم للعالم كله بعد ذلك، بأنهما سيبذلان قصارى جهدهما لتحقيق ذلك الهدف.
-------------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية الثلاثاء، 20/3/2012.