بعد تأجيل محاكمة الجمعيات الاهلية بتهمة مخالفة القوانين المصرية، توقعت مصادر اميركية ومصرية ان يتوصل المسؤولون في البلدين الى حل وسط لهذه القضية. وسواء تم التوصل الى هذا الحل ام لا، فإن من الملاحظ ان قضية المحاكمة قد فتحت الباب امام مناقشات تتجاوز الجوانب الإجرائية في عمل الجمعيات في مصر، وتطاول قضايا تهم المنطقة بمجملها. انها مناقشات تطاول دور البرلمان في الدول العربية التي تشهد التحول الديموقراطي، وعلاقات مصر الخارجية وبخاصة مع الولايات المتحدة، ومواقف قوى التغيير في مصر من هذه الموضوعات الحساسة.
ما نشهده اليوم في مصر وتونس والمغرب هو اقرب الى ان يكون ولادة انظمة الحزب المهيمن. وللدقة نؤكد انه ينبغي التمييز هنا بين نوعين من هذه الانظمة يختلفان عن بعضهما اختلافاً جذرياً. النوع الاول هو الحزب الذي يهيمن على الدولة بقوة السلاح ومن طريق تصفية التنظيمات السياسية الاخرى. النموذج الآخر يتمثل في الاحزاب التي تكتسب موقعها القيادي في الدولة ولدورات انتخابية كثيرة، منفردة او مع احزاب اخرى، من طريق الانتخاب الديموقراطي، كما هو الامر مع حزب المؤتمر في الهند او الحزب الديموقراطي الليبرالي في اليابان. هذا ما يتوقع البعض تكراره في المنطقة العربية في غمرة النجاحات الانتخابية الباهرة التي حققتها الاحزاب الاسلامية في الدول العربية الثلاث.
منافع الحزب او التكتل النيابي المهيمن كثيرة. انه يؤمن الاستقرار ويضمن تماسك الحكم وفاعليته في الوقت الذي يستند فيه الى قاعدة شعبية متينة. ولكن الى جانب هذه الامتيازات والمنافع، فإن للحزب المهيمن بعض المحاذير. هذه المحاذير لا تشبه أخطار الحزب المهيمن بالقوة والقمع، ولكنها محاذير جدية ينبغي ان يحسب لها حساب. من اهم هذه المحاذير هو ان الاحزاب المهيمنة، على رغم طابعها الديموقراطي، قد تضعف مكانة مجلس النواب في البنيان السياسي وتحد من الشفافية ومن مشاركة المواطنين في الحياة السياسية.
قد يكون من المبكر ان يشار الى هذه المحاذير. فحزب «الحرية والعدالة» لم يشكل حكومته حتى الآن في مصر، وحركة «النهضة» في تونس وحزب «العدالة والتنمية» في المغرب بالكاد استقرا في الحكم. ولكن من الافضل الاشارة المبكرة الى هذه المحاذير عن الاشارة المتأخرة اليها. فضلاً عن ذلك، فإن المناقشات التي تدور في القاهرة حول مسألة تمويل الجمعيات الاهلية المصرية تدل الى ان هناك حاجة للتنبيه الى هذه المحاذير.
في هذه المناقشات برزت ثلاثة مواقف رئيسة: مواقف رسمية مصرية، ومواقف الجمعيات التي طاولتها الاتهامات، ومواقف الكتل البرلمانية الرئيسة. المواقف الرسمية المصرية عبرت عنها، اضافة الى الاتهامات القضائية الموجهة الى الجمعيات، وزيرة شؤون التعاون الدولي فايزه ابو النجا والقضاة المعنيون بالقضية. ابو النجا وجهت اتهاماً صريحاً الى الولايات المتحدة بأنها تسعى للحؤول دون «نهوض مصر كدولة ديموقراطية ذات اقتصاد قوي»، وأنها تفعل ذلك حماية «للمصالح الاسرائيلية والاميركية في مصر وفي المنطقة ككل»، وأنها تستخدم لهذا الغرض الجمعيات المحالة الى المحاكمة.
هذه الاتهامات ترتدي طابعاً خطيراً يمس علاقات مصر الخارجية، إلا ان الحكومة المصرية لم تنفها، ولا اعلن ناطق باسم الحكومة ان ابو النجا تعبر عن رأي شخصي محض. بالعكس فإن رئيس الحكومة المصرية، كمال الجنزوري، ألمح باسم حكومته امام مجلس النواب المصري الى ان «الربيع المصري» مستهدف من اطراف اجنبية وإقليمية تمارس ضغطاً على مصر لكي تزيد من مشاكلها الاقتصادية. في رأي الجنزوري ان هذه الاطراف لم يكفها انها تخلفت عن الوفاء بوعودها بتقديم مساعدات مالية عاجلة وانما ذهبت الى حد عرقلة التجارة الخارجية المصرية والسعي، عبر الضغوط المصرفية، الى حرمان مصر من العملة الصعبة. عندما يتحدث الجنزوري عن مثل هذه الضغوط، فمن الطبيعي ان يعيد الى الاذهان اتهامات وزيرة شؤون التعاون الدولي وأن تكثر التساؤلات والانتقادات للدور الاميركي في مصر والمنطقة العربية.
في مواجهة هذا الموقف، برز موقف الجمعيات التي أُحيلت الى المحاكمة ولعل اهمها «بيت الحرية» Freedom House، المؤسسة الاميركية التي يعمل فرعها في القاهرة. وقد تحدث دافيد كريمر، رئيس هذه المؤسسة الى لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الاميركي في منتصف الشهر المنصرم محملاً الجانب المصري كل اللوم على اثارة هذه الازمة. فالجانب المصري هو الذي ترك، في تقديره، القوانين المتعلقة بالجمعيات الغامضة حتى يضمن التحكم بعمل الجمعيات الاهلية، وبخاصة التي تعمل في مجال حقوق الانسان والحريات العامة. والمجلس العسكري المصري الحاكم هو الذي حرك الحملة ضد الجمعيات الاجنبية وبخاصة «بيت الحرية» لأنه يريد ان يصور للرأي العام المصري ان حركات الاحتجاج المتصاعدة ضده هي من صنع الخارج وليست رد فعل على استمرار سياسة القمع وانتهاك الحريات. اما وزيرة شؤون التخطيط والتعاون الدولي فإنها ساهمت في تحريك هذه الحملة، كما يقول كريمر، لأنها رغبت في ان تمر سائر المساعدات الاميركية غير العسكرية الى مصر عبر وزارتها. تأسيساً على ذلك، دعا رئيس «بيت الحرية» الكونغرس الاميركي الى مراجعة سياسة المساعدات السنوية التي تقدمها واشنطن الى مصر.
الخط العام الذي اتبعته كتلة الاكثرية النيابية المصرية تجاه هذه المسألة في المناقشات البرلمانية بدا وكأنه يتجنب إعطاء هذه القضية الاهمية التي تستحقها. لقد ناقش نواب الاكثرية هذه المسألة في اجتماعات لجنتي حقوق الانسان والشؤون الخارجية البرلمانيتين، ورد عصام العريان، رئيس لجنة الشؤون الخارجية ونائب رئيس حزب «الحرية والعدالة»، على التهديدات الاميركية بإيقاف المساعدات الى مصر ردا فيه الحصافة السياسية والحزم، عندما قال انه في حال تنفيذ هذه التهديدات فإن مصر تدرس هذا الموضوع في اطار معاهدة كمب ديفيد. الا ان الاكثرية النيابية لم تتوقف في جلسة مجلس الشعب عند الملاحظات التي ادلى بها رئيس الحكومة المصرية ووزيرة التخطيط والتعاون الدولي حول الضغوط المباشرة التي تتعرض لها مصر بهدف حرمانها من الاستقرار ومن استعادة مكانتها الاقليمية ودورها العربي.
لقد انتقد حزب الاكثرية النيابية بيان الجنزوري لأنه خاطب النواب بلغة العاطفة. تنطبق هذه الملاحظة، كما اشار بعض المعقبين، على الجانب الاكبر من البيان الحكومي. ولكن الى جانب هذه اللغة، فإن البيان تضمن معلومات ذات صلة مباشرة بالاوضاع الاقتصادية والسياسية المصرية وعلاقات مصر الدولية. هذه المعلومات لم تتسم بالطابع العاطفي بل بالغموض. الاسلوب الافضل للرد على هذا الاسلوب بلغة العقل والحسابات الرشيدة هو تفعيل ادوات الرقابة البرلمانية مثل السؤال والاستجواب وطلبات الاحاطة وتشكيل لجنة لتقصي الحقائق لمناقشة قضية تمويل الجمعيات الاهلية في مصر وتداعياتها وتشعباتها البعيدة المدى.
عند تحريك هذه الادوات او ما عداها من آليات الرقابة البرلمانية على السلطة التنفيذية، واذا لم تنجح الحكومة في تقديم ايضاحات وأدلة كافية تبرهن صواب ما ساقه المسؤولون الحكوميون من اتهامات، فإن من حق البرلمان عندئذ ان يحاسب الحكومة على أخطائها في هذا المضمار. اذا تمكنت الحكومة من تقديم ايضاحات مقنعة تبين فيها بصورة ملموسة صواب الاتهامات التي جاءت على لسان المسؤولين، يكون المجلس قد قام بواجبه في إلزام السلطة التنفيذية باحترام الشفافية واطلاع الرأي العام على حقائق الاوضاع في مصر وبالتالي افساح المجال امام المواطنين للمساهمة في اختيار طريقة التعامل معها.
السير على هذا الطريق سيؤدي، على الارجح، الى نتيجتين مهمتين: الاولى هي تعزيز مكانة مجلس النواب المصري في اطار البنيان السياسي والحفاظ على حيويته ودوره الرقابي والريادي حتى في ظل اكثرية مهيمنة تستند الى تأييد شعبي واسع النطاق وحزب اكثري متماسك وفاعل. النتيجة الثانية، هي انه يؤدي الى نقاش مسؤول ومفتوح حول طبيعة العلاقات والمساعدات الاميركية الى مصر. وقد تكرر التلويح بإيقاف هذه المساعدات «غير المشروطة» على نحو يسيء الى كرامة مصر ويضر بمكانتها الدولية، وآن الاوان لكي تتوقف مثل هذه التهديدات ولإبطال مفعولها. فمن الضروري ان يفهم النواب الاميركيون ان في مصر ايضاً مجلس نواب يستمد سلطته ومشروعيته من دفاعه عن مصالح المصريين وتطلعاتهم الوطنية المشروعة وليس من سلطة مستبدة تستند الى الدعم الاميركي، وترضخ للتهديدات والاملاءات الاميركية.
-------------------
* نقلا عن الحياة اللندنية الخميس 1/3/2012.