الجمعة 2 -3-2012
عرض: محمد مسعد العربي، باحث بمكتبة الإسكندرية
ينشغل مفكرو الولايات المتحدة منذ فترة - ليست بالقصيرة - بمستقبل الولايات المتحدة الأمريكية في ظل التغيرات الحادثة في شكل النظام الدولي – الذي لم تتشكل ملامحه بعد – وتحولات ميزان القوي من الغرب إلى الشرق (القارة الآسيوية). ويحتدم الجدل بين تيارين، يرى أولهما أن الولايات المتحدة في طور التراجع الذي يجعلها تلحق بغيرها من القوى الكبرى والحضارات العظمى التي سبق أن فرضت هيمنتها على العالم وشكلته، ثم تراجعت واندثرت، خاصة مع تآكل الديمقراطية الأمريكية، وإنهاك اقتصادها بالحروب غير المبررة، وتعرضه لأزمات عاصفة في العقد الأخير، وهو ما أدى لعدم قدرة واشنطن على التحكم في مسارات الأمور، ومجريات الأحداث في العالم مع تساقط حلفائها في مختلف مناطق العالم، وبروز قوى عظمى أخرى تتنافس على دورها. في حين يري أنصار التيار الثاني أن القوة الأمريكية لا تزال في ذروتها، وأنها أبعد ما تكون عن التراجع.
وقد انعكس هذا الجدل على مؤسسات الحكم الأمريكية، الأمر الذى دفع الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" إلى التطرق إليه في كل – إن لم يكن معظم – خطاباته إلى العالم أو الشعب الأمريكي، كان آخرها في خطاب حالة الاتحاد في الرابع والعشرين من يناير الماضي، حيث أشار إلى أن هؤلاء الذين يتحدثون عن تراجع الولايات المتحدة أو ضعف نفوذها في العالم لا يعون ما يتحدثون.
وفي فبراير2012 ، صدر كتاب "روبرت كاجان" ، مؤرخ وزميل مركز بروكينجز وأحد أقطاب المحافظين الجدد، المعنون بـ"العالم ُصنع أمريكي The world America Made" والذي أخذ أهميته مع تبني الرئيس الأمريكي "أوباما" بعض مقولاته في خطابه لحالة الاتحاد.وقد قدم "كاجان" ملخصا لأهم أفكار كتابه حول مستقبل القوة الأمريكية بمقال له تحت عنوان "لم تتلاش: ضد خرافة التراجع الأمريكي Not Fade Away: Against the Myth of American Decline" نشر في عدد يناير من مجلة " نيو ريباليك The New Republic".
يستهل كاجان مقاله بطرح تساؤلين رئيسيين، مفادهما: "هل تواجه أمريكا تراجعًا في مكانتها كقوة عظمى؟"، و"هل يواجه الأمريكيون خطر أن تمارس دولتهم الانتحار الاستباقي الذي تمارسه القوى العظمى قبل سقوطها؟". والمقال هو إجابة بالنفي على هذين التساؤلين.
ويسوق كاجان مقولة رئيسية يعتمد عليها تحليله، هي أن النظام العالمي الحالي- الذي يتسم بوجود عدد غير مسبوق من الديمقراطيات والازدهار غير المعهود رغم أزماته، والسلام بين القوي الكبرى- إنما يعكس المبادئ والتفضيلات الأمريكية. وقد بني هذا النظام على القوة الأمريكية، ويعتمد في استمرارها على حمايتها. وبالتالي إذا تدهورت القوة الأمريكية، فإن النظام العالمي سيتدهور، وسيحل محله نظام يمثل انعكاسًا لقوى أخرى ربما تؤدي به إلى الانهيار، كما انهار النظام العالمي الأوروبي في النصف الأول من القرن العشرين. ولا يمكن - كذلك - تصور بقاء الأسس الليبرالية التي يقوم عليها هذا النظام، إذا انكمشت القوة الأمريكية.
صلابة أسس القوة الأمريكية
يؤكد كاجان أن الاعتقاد بتراجع أمريكا كقوة عظمى إنما يعتمد على انطباعات وتحليلات غير متماسكة، تتحدث أغلبها عن التحول بين وضع أمريكا الحالي، والوضع الذي اعتادت أن تكون عليه في الماضي. ويري أن مشكلة هذا الاتجاه تكمن في أنه يعتمد على تحليل وضع القوة الأمريكية في مدة زمنية معينة، ويرتكز على الأزمة العالمية التي تعصف بها.
وبإعمال المنظور التاريخي ومعايير القوى العظمى التي يمكن الاتفاق عليها، سنجد أن "تدهور القوى العظمى هو نتيجة تغيرات جذرية في التوزيع العالمي لأشكال القوة، والذي عادة ما يأخذ فترات زمنية ممتدة ليتشكل، ونادرًا ما تسقط القوى العظمى فجأة". ويضرب كاجان بتدهور الامبراطورية البريطانية مثلاً على أهمية العامل الزمني في التحليل. وقد سبق لأمريكا أن تعرضت لأزمات اقتصادية طاحنة وطويلة، كما حدث في عقود (1890-1930-1970)، وقد استطاعت على إثر كل منها أن تعود أقوى مما كانت عليه قياسًا بالقوى الأخرى. وقد كانت عقود (1910-1940-1980) أكبر عقود القوة والنفوذ الأمريكي العالمي.
يتناول كاجان وضع أسس القوة الأمريكية حاليًّا. فرغم حالة الركود الحالية، فإن المركز الاقتصادي للولايات المتحدة لم يتغير، فلا يزال نصيبها من مجمل الإنتاج العالمي كما هو في العقود الأربعة الأخيرة منذ عام 1969، ولا تزال تنتج تقريبًا ربع الإنتاج العالمي، ولا تزال هي الاقتصاد الأغنى والأقوى في العالم.
ولكن البعض يتحدث عن الصعود الاقتصادي للهند والصين وبعض القوى الآسيوية الأخرى التي يتزايد نصيبها في الاقتصاد العالمي، غير أن صعود هذه القوى إنما يأتي على حساب أوروبا واليابان اللتين تراجع نصيبهما في الاقتصاد العالمي.والمتفائلون بصعود الصين يتنبأون بأنها ستحل محل الولايات المتحدة كأكبر اقتصاد عالمي، وهو ما يعني أن الأخيرة ستواجه تحديات لوضعها الاقتصادي في المستقبل، ولكن حجم الاقتصاد المحض ليس مؤشرًا جيدًا على ميزان القوة النسبية في النظام الدولي. فالصين نفسها كانت أكبر اقتصاد عالمي في بداية القرن التاسع عشر، لكنها وقعت فريسة للأمم الأوروبية الأصغر منها. وحتى لو قفزت الصين لقمة الاقتصاد العالمي مرة أخرى، فسيواجه قادتها حتمًا مشكلات في النمو، ومن ثم سيكون من الصعب عليها أن تلحق بأمريكا وأوروبا من حيث نصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي.
ولا يزال ميزان القوة العسكرية يميل لصالح أمريكا، فلا يوجد إلى الآن قوة تعادل قدرات الولايات المتحدة، ولا يوجد أي تدهور في القدرات العسكرية الأمريكية، ولا يزال حجم الإنفاق على الدفاع في الولايات المتحدة الذي يبلغ 600 مليار دولار في العام هو الأعلى في العالم، ولا تزال القوات الأمريكية البرية والبحرية والجوية هي الأكثر تقدمًا في تسلحها.
ومن ناحية أخرى، لا يعني صعود بعض القوى اقتصاديًّا أنها ستنافس الولايات المتحدة على نفوذها في المسرح الدولي، فلا توجد علاقة حتمية بين القوة الاقتصادية والنفوذ السياسي. فالهند الفقيرة تحت قيادة نهرو كانت أكثر تأثيرًا من الهند الحالية.
كما أن الأمر يتوقف على القوة النامية، وهل هي معادية أم لا. ففي أثناء الحرب الباردة، أدى الصعود الاقتصادي لألمانيا واليابان إلى تراجع نصيب الولايات المتحدة من الناتج العالمي الإجمالي إلى النصف، غير أن ازدهار اقتصاد الدولتين كان في مصلحة الولايات المتحدة في مواجهة الاتحاد السوفيتي. وبالمثل، فنمو البرازيل وتركيا لا يتقاطع مع المصالح الأمريكية، ونمو الهند يعد في مصلحتها، لأنه في مواجهة المنافس المستقبلي لها وهو الصين. أما نمو الاقتصاد الصيني، فيمثل خطورة، إذا تمت ترجمته بالقدر الكافي إلى قوة عسكرية.
حقيقة الهيمنة الأمريكية على العالم
في الجزء الثاني من المقال، يفند كاجان مقولة يعتمد عليها الاتجاه الذي يقول بتراجع القوة الأمريكية، وهي أنه كان هناك وقت ما كانت الولايات المتحدة قادرة فيه على تشكيل العالم ليتوافق مع إرادتها، وأن تجعل الأمم الأخرى تفعل ما تريد، وأنها كانت تقوم "بإدارة ترتيبات الأمن والاقتصاد والسياسة في كل العالم".
يقول كاجان إن مثل هذا الاعتقاد ليس إلا وهمًا رومانسيًّا، فمثل هذا الوقت لم يوجد قط، وإنما تشكلت الهيمنة الأمريكية في العالم عبر سلسلة من تواكب النجاحات والإخفاقات. وإذا نظرنا للسنوات الأولى من الحرب الباردة، حيث استطاعت أمريكا أن تحقق هيمنة كاملة على شئون العالم، فسنجد أنها استطاعت تحقيق العديد الإنجازات الفائقة، مثل مشروع مارشال، وتأسيس الناتو، وإنشاء الأمم المتحدة، وتأسيس نظام بريتون وودز الاقتصادي، وهو ما يشكل العالم كما نعرفه حاليًّا.
إلا أنه بالمقابل كانت هناك لحظات من الانتكاس، ففي عام 1949، نجحت الثورة الشيوعية في الصين، وكسر الاتحاد السوفيتي الاحتكار الأمريكي للسلاح النووي، ثم تورطت الولايات المتحدة في الحرب الكورية، وفقدت 35 ألفا من جنودها. وفي الخمسينيات، اجتاح الأمريكيين القلق من التدهور النسبي لقوتهم إزاء صعود قوة المعسكر الاشتراكي، كما أنها فشلت في إقناع حلفائها الغربيين بعدم الاعتراف بحكومة الصين الشعبية.
أما القوة الناعمة الأمريكية، فلم يكن هناك دائمًا هذا الإعجاب المتخيل بالنموذج الأمريكي ، وليس من الصحيح أن بقية العالم حاولت أن تحاكي هذا النموذج. فآلة الإعلام الأمريكية- رغم أنها أسهمت في انتشار الثقافة الأمريكية- إلا أنها لم تنجح سوى في تصدير صورة سيئة لأمريكا. فقد بث التليفزيون الأمريكي في الخمسينيات صور جلسات ماكارثي لصيد الشيوعيين، ثم غلبت صور ممارسات العنصرية البيضاء على شاشاته، ثم غلبت مشاهد العنف والاغتيالات.
والسياسة الخارجية الأمريكية لم تكن دائمًا محل ترحيب بقية العالم، خاصة العالم الثالث، ولم يساعد سجل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية على تحسين صورة أمريكا. كما أن حرب فيتنام ساعدت على جعل أمريكا قوة استعمارية عاتية تريد أن تخضع بلدًا صغيرًا مقاومًا. وفي العقود الأولى من الحرب الباردة، كان العالم الثالث أكثر إعجابًا بالنظام الاقتصادي السوفيتي، "رأسمالية الدولة"، لا بالنموذج الأمريكي الحر.
وواجهت الولايات المتحدة في عقد السبعينيات العديد من الأزمات التي جعلت هنري كيسنجر يتحدث عن أن أمريكا تجاوزت نقطة الذروة التي تبلغها كل حضارة قبل انهيارها. فقد أدى الارتفاع المذهل لأسعار البترول، بالإضافة إلى السياسات الاقتصادية التي تبنتها الحكومة الأمريكة في حرب فيتنام، إلى دخول الاقتصاد الأمريكي في أزمة حادة. وقد هبط معدل الإنتاج القومي بمقدار 6% بين عامي 1973 و1975، وتضاعف معدل البطالة من 4.5% ليصبح 9%.
وفي العقد التالي، تنبأ بول كيندي في كتابه "سقوط وصعود القوى العظمى" بأن الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي يعانيان الترهل الاستراتيجي، وأن الولايات المتحدة ستكون أول المنهارين بسبب هذا الترهل. غير أن الانهيار لحق بالاتحاد السوفيتي في نهاية العقد، لتصبح أمريكا وحدها في العقد التالي القوة العظمى الوحيدة. ومع ذلك، فشلت في التعامل مع العديد من القضايا، رغم أن الأمريكيين فازوا في حرب الخليج، ووسعوا حلف الناتو شرقًا، وأحلوا السلام في البلقان، بعد سفك الكثير من الدماء، ودفعوا العالم ليتبنى "إجماع واشنطن" حول الاقتصاد.
غير أن هذه النجاحات صاحبتها إخفاقات مماثلة. فقد بدأ إجماع واشنطن في الانهيار مع الأزمة المالية الآسيوية عام 1997، حيث عُدت الوصفات والحلول الأمريكية خاطئة، وربما مدمرة. وتأخرت واشنطن في منع كوريا الشمالية وإيران من تطوير برامج أسلحة نووية، وتقاعست عن منع الإبادة العرقية في رواندا. ورغم أنها دعمت التحول الديمقراطي في روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي، فإنها لم تستطع أن تتحكم في مسار الأمور بعد ذلك.
ويقر كاجان بأن الولايات المتحدة اليوم غير قادرة على فرض إرادتها في العديد من الملفات، ومع ذلك فقد سجلت العديد من النجاحات في العراق، وفي الحفاظ على شبكة فعالة لمنع الانتشار النووي، وفي تدمير القاعدة، وفي تطوير الأسلحة، وفي تمتين شبكة تحالفاتها مع أوروبا، ومع العديد من القوى الآسيوية الصاعدة.
ومن هذا التحليل التاريخي، يؤكد كاجان أن سجل القوة الأمريكية ممتزج بالنجاح والإخفاق، فالفكرة ليست في أن أمريكا كانت تفتقد دائمًا النفوذ العالمي. فمن الحرب العالمية الثانية حتى الآن، والولايات المتحدة هي في حقيقة الأمر القوة العالمية المهيمنة التي اكتسبت المزيد من النفوذ منذ روما القديمة، بل وتفوقت في هذا الصدد. غير أنها لم تكن القوة القاهرة القادرة على فعل كل شىء.
وإذا ما أردنا التحقق من كون الولايات المتحدة في حالة تراجع أم لا، فنحن بحاجة إلى معايير معقولة يجب الاحتكام إليها. أما إذا قارنا نفوذ الولايات المتحدة اليوم بهيمنتها الشاملة الخرافية كما تبين، فإن هذا سيضللنا.
التحديات المستقبلية ... طبيعتها وحدودها
في الجزء الأخير من المقال، يحلل كاجان التحديات الحقيقية التي على الولايات المتحدة أن تواجهها مستقبلاً. اليوم، تبدو التحديات عظيمة، والصعود الصيني هو أكثرها وضوحًا. ولا يقارن هذا التحدي بجسامة التحدي السوفيتي السابق؛ فالاتحاد السوفيتي كان يمثل بموقعه وحجمه خطرًا على المصالح الأمريكية في شرق آسيا وأوروبا والشرق الأوسط، ووجدت استراتيجية الاحتواء التي اعتمدتها واشنطن في التعامل معه صعوبات جمة.
وبالنسبة للخطر الصيني، فالوضع معكوس. فرغم أن الصين أغنى، وستكون أغنى وأكثر تأثيرًا اقتصاديًّا مما كان عليه الاتحاد السوفيتي، فإن وضعها الاستراتيجي أكثر صعوبة. فقد تركت الحرب العالمية الصين في وضع ضعيف نسبيا بالمقارنة، وهي تعمل بصعوبة على الخروج منه حتى الآن، وكثير من جيرانها أمم قوية، وذات علائق قوية وروابط أقوى بالولايات المتحدة.
وستواجه الصين وقتًا عصيبًا، في حال أرادت أن تكون قوة إقليمية مهيمنة، ما دامت تايوان مستقلة ومرتبطة استراتيجيًا بالولايات المتحدة، وما دامت قوى، مثل اليابان واستراليا وكوريا، مضيفة للقوات والقواعد الأمريكية. كما ستحتاج بكين إلى حلفاء لتكون لديها الفرصة فى أن تطرد الولايات المتحدة خارج معاقلها في غرب المحيط الهادي. ولكن إلى الآن، لا يزال للولايات المتحدة حلفاؤها، فضلا عن هيمنتها على الممرات المائية التي لابد أن تمر بها تجارة الصين. وإجمالاً، فإن مهمة الصين، كقوة عظمى صاعدة، يجب أن تدفع الولايات المتحدة من موقعها الحالي، هي أصعب من مهمة أمريكا التي ليس عليها إلا أن تحافظ على مقومات قوتها.
ثم يتساءل كاجان عما إذا كانت أمريكا قادرة على الحفاظ على وضعها الدولي أم لا. ويقول إن المتشائمين بمستقبل القوة الأمريكية يتشككون في هذا، وفي قدرة الولايات المتحدة على الاستمرار في لعب دورها في العالم كقوة مهيمنة، كما كان الأمر في الماضي. ويرى بعضهم أنه إذا كان حديث بول كيندي في عام 1987 عن الترهل الاستراتيجي غير صحيح آنذاك، فهو يصف المأزق الأمريكي حاليًّا بدقة، وبالتالي يدعون إلى أن تتخلى أمريكا عن مسئولياتها الدولية.
غير أن كاجان يقول إن التزامات أمريكا الخارجية حاليًّا ليست أكبر مما كانت عليه منذ خمسين عامًا. وفي عام 1968، كان لدى أمريكا نحو مليون جندي على أراض أجنبية، 537000 في فيتنام والبقية في مناطق أخرى. على النقيض من هذا، في صيف 2011، وفي ذروة الانتشار الأمريكي في حربين، كان هناك 200000 جندي مقاتل في أفغانستان والعراق معًا، ونحو 160000 جندي في أوروبا وشرق آسيا.
وإجمالاً، وبتضمين القوات الموجودة في مناطق أخرى من العالم، فهناك نحو نصف مليون جندي منتشرين بالخارج. كما أن هذا الانتشار لا يمثل سببًا للعجز الأمريكي، ولن تؤدي التخفيضات الكبرى في ميزانية الدفاع إلى توفير أكثر من 50 إلى 100 مليون دولار من المدخرات السنوية.
خطورة التراجع الأمريكي على النظام العالمي
يؤكد كاجان أنه لا يمكن حساب تكلفة البقاء في هذا الوضع، دون حساب تكلفة فقدانه، فبعض تكاليف تراجع دور أمريكا في العالم بالطبع لا يمكن حسابها كميًّا. فما قيمة أن يعيش الأمريكيون في عالم من الديمقراطيات، بدلا من عالم تحكمه ديكتاتوريات؟ ، ولكن بعض التكاليف يمكن قياسها، إذا حاول البعض أن يقوم بهذا. إذا أنتج انهيار القوة العسكرية الأمريكية نظامًا اقتصاديًّا عالميًّا متفككا، كانت هذه القوة قد أسهمت في الحفاظ عليه، إذا أصبحت الطرق التجارية والممرات المائية غير آمنة، لأن البحرية الأمريكية غير قادرة على حمايتها، إذا انفجرت الحروب الإقليمية بين القوى الكبرى، لأنها لم تعد مقيدة بالقوة الأمريكية العظمى، إذا ما تعرض حلفاء أمريكا للهجوم، لأنها غير قادرة على الدفاع عنهم، إذا أصبحت طبيعة النظام الدولي أقل حرية وانفتاحًا.. كل هذا إذا ما حدث، فستكون هناك تكاليف ممن الممكن حسابها.
أما التساؤل عما إذا كان الأمريكيون قادرين على القيام بأعباء المنافسة في القرن الحادي والعشرين أم لا، فيجيب عليه كاجان بأنه لا أحد يعلم إجابة هذا على وجه التحديد. إذا كان التاريخ الأمريكي يقودنا للإجابة على هذا، فهناك أسباب تدعونا للتفاؤل. فقد واجه الأمريكيون فترات عصيبة من قبل، والعديد من الأجيال السابقة شعرت بمعنى فقدان القوة ، واستطاع الأمريكيون أن يتغلبوا على الكثير من الأزمات الحادة التي واجهتهم في القرنين الماضيين من العبودية والحرب الأهلية حتى ووتر جيت.
لكن النجاح في الماضي لا يضمن التفوق في المستقبل. غير أن أمريكا تمتلك من المقومات ما يضمن نجاحها رغم حركة التاريخ، ومن بينها أن النموذج الأمريكي أظهر قدرة على تبني والتعافي من الأزمات أكثر من أي نظام مماثل في الأمم الأخرى، خاصة منافسيها الاستراتيجيين. ويرتبط هذا بدون شك بالحرية النسبية التي يتمتع بها المجتمع الأمريكي الذي يكافئ مبدعيه، والذين غالبًا ما ينمون خارج بنية السلطة القائمة، من أجل إنتاج طرق جديدة للتعامل مع الأمور. وكذلك يرتبط هذا بالنظام السياسي المفتوح، الذي يمكن الحركات الاجتماعية من أن تجد مسارًا لها للتأثير فى مؤسساته.
ويوضح كاجان أسباب القوة الأمريكية غير المعهودة في تاريخ القوى الكبرى، بما حدث في العام 1987، حيث رد رجال أعمال وساسة أمريكيون على دعاوى الانحدار الاقتصادي باتخاذ أفعال: تقليل النفقات، وتقليل حجم الشركات، وجعلها أكثر فاعلية، وجعلها تستثمر في التكنولوجيا الجديدة، وتطوير ثورة الاتصالات، والتقليل من حد العجز الحكومي. وقد ساعد كل هذا في تحقيق قفزات إنتاجية عامًا بعد عامًا، ومن الممكن تصور أن يتغلب الأمريكيون على أزمتهم الحالية بالطريقة نفسها.
ولا يستبعد كاجان أن تتعرض القوى الأخرى النامية ( كالبرازيل ، الصين ، الهند، تركيا ) إلى أزمات تعطل طريق صعودها؛ فلا توجد أمة تستطيع تحقيق معجزات اقتصادية دون أن تتعرض لأزمات. لكن أخطر ما قد يواجه الولايات المتحدة هو اعتقاد الأمريكيين بأن التراجع حتمي ولا مناص منه، أو أن الولايات المتحدة تستطيع أن تحصل على مهلة بالتخلي عن مسئولياتها العالمية لتعيد ترتيب منزلها من الداخل. غير أن كاجان يؤكد أن هذا لن يفيد؛ فالحفاظ على بنية النظام الدولي تحت القيادة الأمريكية يشكل مصلحة مباشرة لواشنطن والعالم.
وفي نهاية الأمر، يبقى أن القرار لا يزال في يد الأمريكيين. وكما لاحظ تشارلز كروثامر، فإن الانحطاط اختيار، وليس مصيرًا محتومًا على الأقل إلى الآن. والامبراطوريات تصعد وتسقط، ولكن السؤال هو: متى؟، وهو ما يختتم كاجان به مقاله.