تظل دراسة التجارب العالمية في ما يتعلق بالعدالة الانتقالية مسألة مفيدة، بل وضرورية لاستخلاص الدروس والعبر من جهة، والاغتناء بنماذج عملية بما لها وما عليها من جهة ثانية . وليس الهدف من ذلك هو تقليد هذه التجارب أو استنساخها، بقدر الإفادة منها بما فيها تجنّب الأخطاء التي وقعت فيها، إذ إن لكل تجربة خصوصيتها، ولكل بلد ظروفه وتحديّاته ومشكلاته، لكن الاطلاع على التجارب السابقة ومقاربتها من زاوية انتقادية، تسلّح التجربة الجديدة وتغنيها بالمعرفة، من خلال الانفتاح والشفافية على تجارب الغير، بعيداً عن الانغلاق أو التقوقع، فالتمسك بالخصوصيات لا يلغي المشتركات والقواعد العامة التي تشكل معايير ذات أبعاد إنسانية جامعة .
وسواءً كان الموضوع خاصاً بالعدالة الانتقالية أو غيرها من الموضوعات الإنسانية، فإن المسألة تتخذ جانبين مهمين الأول إجرائي، أي وفق أي المعايير التشريعية سيتم تأمين نموذج “براغماتي” للتوجّهات الجديدة بعد القضاء على الأنظمة الاستبدادية والديكتاتورية السابقة، ولعل هذه المسألة تطرح إشكالية كبيرة تتعلق بالتطور اللاحق، من خلال مواجهة سؤال كبير هو الآتي: ما السبيل إلى التعامل مع إرث الماضي من جهة، ومع مبادئ الديمقراطية والتعددية واقتصاد السوق من جهة أخرى؟ وتلك بعض القواعد العامة التي يشترك فيها العديد من التجارب القائمة، وخصوصاً بعد موجة الربيع العربي .
أما الثاني فهو معياري، وأعني به البحث عن هوية جديدة للمجتمع السياسي الجديد تكون بديلاً أو نقيضاً للمجتمع السابق الذي انهار أو تراجع أو تفتّت، والمقصود هنا أية معايير سيتم الاحتكام إليها بالنسبة إلى السلطة الجديدة، بعد فشل المعايير القديمة؟ ولهذا فإن كلا الجانبين أو الاستراتيجيتين يقوم على قيمتين مثاليتين منفصلتين، لكنهما مترابطتان واقعياً بشكل متكامل ووثيق .
وعلى الجبهة الثقافية، فثمة حقوق ستبدأ وقد تأخذ بُعداً جديداً، في ما يتعلق بالتنوّع الثقافي، لاسيما القومي والديني ولا أقول هنا بمصطلح “الأقليات”، على الرغم من أن الأمم المتحدة تستخدم هذا المصطلح منذ تأسيسها، وأصدرت إعلاناً تضمّن حقوقها في العام ،1992 لكنني أميل إلى استخدام “التنوّع الثقافي” و”التعددية الثقافية” بدلاً منه، وأجد ذلك المصطلح أقرب إلى فكرة المساواة وهي الفكرة الجوهرية، بدلاً من أغلبيات وأقليات .
والمسألة الأكثر حساسية في موضوع العدالة الانتقالية تتعلق بالمساءلة والمطالبات التي تترتب عليها، والتي تتخذ طرائق مختلفة للوصول إلى الحقيقة وكشفها كاملة، خصوصاً ظواهَر الظلم وارتكابات من النظام السابق، إضافة إلى تعويض الضحايا وجبر الضرر، والعمل على إصلاح الأنظمة القانونية والقضائية والأمنية، وصولاً إلى تنقية البيئة الحاضنة للتغيير الديمقراطي، وخصوصاً بوضع ضوابط لمنع تكرار ما حصل .
وقد يحتاج الأمر إلى إعادة النظر بالعديد من القوانين والأنظمة النافذة، خصوصاً بصياغة دستور عصري، مثلما يتطلب تهيئة تربة صالحة في ميدان التربية والتعليم، لإعادة تثقيف الجيل الجديد بقيم جديدة أساساً للشرعية الدستورية القائمة على الحقوق والحريات، وكذلك تعزيز دور المجتمع المدني الذي يمكن أن يكون شريكاً فاعلاً وقوة اقتراح مكمّلة للدولة ومشروعها العدالي، وهنا يمكن للإعلام أن يؤدّي دوراً كبيراً ولا غنى عنه لتعزيز التوجه العام الدستوري والقضائي والتربوي والمدني للوصول إلى الهدف المنشود .
وقد سبق المنطقةَ العربيةَ عددٌ من البلدان على هذا الطريق، مثل الأرجنتين وتشيلي في أمريكا اللاتينية التي ترافقت مع تجربة جنوب إفريقيا وكذلك تجارب بلدان أوروبا الشرقية التي عكست اتجاهين: الاتجاه الأول يميل إلى طي صفحة الماضي بعد تطبيق إجراءات العدالة الانتقالية (العقابية) على عدد محدود من القيادات المسؤولة من الارتكابات بالترافق مع كشف الحقيقة والسعي إلى إحقاق العدالة وتعويض الضحايا وجبر الضرر والتركيز على إصلاح الأنظمة القانونية والدستورية والقضائية والأمنية، وإلغاء كل ما من شأنه إعادة عهود الاستبداد والديكتاتورية .
أما الاتجاه الثاني فقد كان يميل إلى التوسّع في العقوبة وتصفية الحسابات، من دون أن يتوقف كثيراً عند ردود الفعل إزاء فكرة الانتقام والثأر، بما فيها أحياناً اللجوء إلى وسائل غير قانونية، عند تعثر أو تلكؤ الوسائل القانونية لمساءلة المرتكبين، ولعل بعض البلدان العربية سارت بهذا الاتجاه، وخصوصاً تلك التي شهدت أعمال عنف وتدخلات خارجية، وهو اتجاه أقرب إلى القطيعة مع الماضي، في حين سلكت المغرب طريق التواصل، خصوصاً بتقديم المتهمين بالارتكاب إلى القضاء وصدور أحكام بحقهم، ومن ثم اعتذارهم ومراعاة الدولة والقائمين على ملفات المساءلة والعدالة ومبادئ التسامح .
فالعنف لا يولد الاّ عنفاً والانتقام بمثله، والعزل والتهميش يترك ندوباً كبيرة وربما ردود فعل قد تعرقل من مسيرة الانتقال الديمقراطي، وتشكل تحدّيات جديدة، لكن ذلك لا يعني نسيان الماضي، بل إن تذكّره أمر لا بدّ منه، خصوصاً بوضعه في دائرة الضوء وليس في دائرة النسيان، مع الأخذ في الاعتبار الأمور بسياقها التاريخي وضمن القوانين التي كانت سائدة، بما يعني ترجيح مبادئ التسامح والتواصل على فقه القطيعة والانتقام .
لقد سلكت بولونيا وهنغاريا ما أطلقتُ عليه فقه التواصل، في حين اتّبعت ألمانيا الديمقراطية فقه القطيعة، أما تشيكوسلوفاكيا فقد راوحت بين القطيعة والتواصل، وإذا كانت عملية التغيير السلمية في هذه البلدان قد حصلت بفعل صعود اللحظة الثورية إلى ذروتها، باتحاد العوامل الموضوعية مع العوامل الذاتية، وانتقال الخوف من المحكومين إلى الحكام، فإنها في رومانيا اتخذت طريق مواجهة عنفية ودموية، وأدت في يوغسلافيا إلى تمزيق وحدة الدولة، وانقسمت إلى خمس دول ودخلت في حروب ونزاعات وانتهاكات جديدة وسافرة لحقوق الإنسان وعمليات إبادة وتطهير، بما فيها تدخلات دولية، وخطا الاتحاد السوفييتي السابق على هذا الطريق وتحوّلت الدولة العظمى إلى 15 دولة في إطار حروب ونزاعات حدودية ومجتمعية، أدت إلى إضاعة الكثير من قواعد العدالة الانتقالية التي كان يمكنها تجنيب البلاد الكثير من الآلام والويلات، بالتمسك بالحقوق ومساءلة الماضي وكشف حقيقة الانتهاكات ووضع حد لها قانونياً ومجتمعياً، خصوصاً بتعويض الضحايا وجبر الضرر .
أعتقد أن البلدان العربية ليست بحاجة الى المرور بكل تلك المآسي للوصول إلى الاستقرار والأمن والتحوّل الديمقراطي، بل عليها وبقدر ما تستطيع نخبها الفكرية والسياسية التمسك بالقواعد العامة للعدالة الانتقالية والمضي في ترسيخ القوانين والأنظمة الديمقراطية، دفعاً للفوضى والضياع وتبديد المال العام .
صحيح أن ظروف ليبيا هي غير ظروف تونس أو مصر، كما أن ظروف اليمن هي غير ظروف سوريا وظروف العراق ليست مشابهة لظروف البحرين، والملكية في المغرب غير متماثلة مع ملكية الأردن، لكن القواعد العامة يمكن أن تشكل مشتركاً إنسانياً وقانونياً يُبعد عن هذه البلدان سلوك سبيل الانتقام والاجتثاث والثأر لارتكابات الماضي، ويضع المستقبل نصب العين باعتباره الأساس في طريق التحوّل الديمقراطي، باتّباع خصوصيات كل بلد بالإفادة من قواعد العدالة الانتقالية التي يمكن تطبيقها على الانتقال من حالة نزاع داخلي مسلح إلى حالة السلم، أو الانتقال من حالة صراع سياسي داخلي يرافقه عنف مسلح إلى حالة السلم، أو الانتقال من حكم تسلّطي إلى انفراج سياسي وانتقال تدريجي للتحوّل الديمقراطي، كما يمكن تطبيقه في حالة الانعتاق من الكولونيالية أو التحرر من احتلال أجنبي باستعادة أو تأسيس حكم محلي (وطني) .
وكل هذه المراحل تصاحبها إجراءات إصلاحية ضرورية لما يسمى بالعدالة الانتقالية، خصوصاً للانتهاكات ذات الصيغة المجتمعية أو الجماعية .
----------------
* نقلا عن دار الخليج الأربعاء 29/2/2012.