وأخيراً اجتمع وزراء خارجية دول المغرب العربي في الرباط، واختتمت الدورة بمجموعة توصيات تشكل خريطة طريق جديدة لبعث الروح في اتحاد المغرب العربي من بينها انعقاد مجلس الرئاسة في تونس قبل نهاية السنة، والتنسيق الكامل في اجتماع 5+5 وعقد اجتماع للدول الأعضاء حول المسائل الأمنية بالجزائر في القريب العاجل، علاوة على توصيات اقتصادية واجتماعية وأخرى تدعو إلى تطوير هياكل الاتحاد وتعزيز المكتسبات وتفعيل آليات التشاور السياسي.
وانطلاقاً من هذه التوصيات، يمكن القول إن القادة المغاربيين لم يكتفوا هذه المرة بتبادل برقيات التهاني وتخصيص أمكنة في وسائل الإعلام الرسمية لتمجيد اتحاد المغرب العربي وضرورة تفعيله، وإنما انتقلوا من مرحلة الانكماش السياسي الداخلي والدبلوماسية الميتة إلى اجتماع على أعلى مستوى، وهذه نتيجة حتمية من نتائج الأحداث العربية التي عمت المنطقة، فليبيا وتونس عرفتا تحولات سياسية جذرية أدت إلى تغيير المنظومة السياسية عن بكرة أبيها، والمغرب عرف إصلاحات دستورية من الجيل الرابع جعلته يتبوأ مكانة متميزة في مصاف الدول التي تعرف تجذير الديمقراطية انطلاقاً من الميثاق التعاقدي الذي يجمع النخبة السياسية في الحكم مع كل أطياف المجتمع السياسي والمدني، وهناك انتخابات تجرى في الجزائر وتستعد لها موريتانيا، بمعنى أن بعض الدول تعرف اليوم جيلاً جديداً من المسؤولين ذوي النوايا الحسنة بعيداً عن المسرحيات الفولكلورية التي كان يتماهى بها بعض الزعماء كالقذافي مثلاً والتي بها يستحيل خلق منظومة تكتلية أو اتحاد يسهل التقارب الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، كما تعرف الدول الأخرى واقعية سياسية جديدة تفرض عليها الإيمان المطلق بالانعكاسات الإيجابية عند تفعيل الاتحاد على وضعها الداخلي، فالجميع فهم من تداعيات التحول العربي أن الشعوب هي التي تحمي الأنظمة وليس العكس، وأنه لم يعد ثمة مجال لتضييع الوقت في أمور وحسابات خارجة عن نطاق المعقول... فما ذنب المغربي أو الجزائري أو التونسي أو الليبي أو الموريتاني في التنويم الطويل والمتعمد لآليات اتحاد المغرب العربي؟ ويكفي الرجوع إلى تقارير المؤسسات المصرفية الدولية التي تقر بأن كل دولة مغاربية تفقد سنويّاً ما يزيد عن عشرة مليارات دولار بسبب غياب تفعيل الاتحاد المغاربي للوقوف على هول الفاجعة، كما أن الشركات متعددة الجنسيات تجد مضاضة في المجيء والاستثمار في مجالات مكلفة في دول لا تعرف اندماجاً فيما بينها، بمعنى أن الدول تضيع على شعوبها فرصاً ثمينة لتحقيق التنمية، والاستفادة المجانية من التعاون جنوب-جنوب بين دول متشابهة وذات خيرات يمكنها أن تغطي النقص الموجود في كل دولة على حدة...
إن السياسية الخارجية هي دائماً وعاء ومرآة لما وصلت إليه المؤسسات السياسية الداخلية من نضج ديمقراطي، لأن وزير الخارجية مثلاً يصبح مسؤولاً أمام جهاز تشريعي مستقل عن الجهاز التنفيذي الذي ينتمي إليه، وعليه أن يجد أجوبة على أسئلة حساسة قد تودي بحياته المهنية، وبالإمكان أن نتابع الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأميركية حيث تظل حصيلة العمل الدبلوماسي للرئيس أوباما محل استفسار وانتقاد لدى خصومه في الانتخابات الذين يستعملونها كسلاح موجه ضد حزب الرئيس الأميركي.
إن هناك إذاً إرادة قوية عبر عنها وزراء الخارجية في اجتماعهم الأخير بالرباط، وبالمناسبة كان وزيرا خارجية المغرب والجزائر قد عبرا يوماً قبل الاجتماع عن الإرادة المشتركة لتفعيل اتحاد المغرب العربي خاصة على ضوء التحولات المتسارعة التي تشهدها دول المغرب العربي، وأكدا في ندوة صحفية مشتركة على ضرورة تعزيز علاقات التكامل بين البلدان المغاربية والعمل على مواصلة بناء الاتحاد المغاربي، أما بخصوص قضية الصحراء المغربية، فقد قال وزير خارجية الجزائر "إن هذه القضية توجد الآن بين الأمم المتحدة ولنا ثقة في الأمم المتحدة لتصل إلى حل مرض انطلاقاً من قراراتها(...) وقضية الصحراء كانت موجودة عند انطلاق اتحاد المغرب العربي ولم تمنعنا من انطلاقة جديدة للاتحاد وللعلاقات الثنائية".
وهذا كلام جديد في تاريخ العلاقات المغاربية، وهو انعكاس جلي لتداعيات واقع التحول العربي على السياسة الداخلية والخارجية للدول، وهناك إرادة قوية يجب تفعيلها قبل فوات الأوان.
والحال أن دول الشمال دائماً ما كانت تعيب على دول المغرب العربي انعدام الوحدة بين مكوناتها، وكانت كل دولة تقوي علاقاتها بالاتحاد الأوروبي في تنافس مع دول المغرب العربي الأخرى وفي غياب تنسيق مغاربي شامل، ضيع على هذه الدول عقوداً من الزمن، وهذه نقطة سلبية سيسجلها أبناؤنا في تاريخ المنطقة، وإذا سلمنا بأن الاتحاد سيخرج من سباته في أواخر السنة بناء على الثقة المتنامية التي غرست في العلاقة الجديدة بين دول المغرب العربي والإرادة القوية التي تعكس ميول القادة إلى شعوبهم، فإن على هذا الاتحاد سنوات من العمل المضني في كامل القطاعات والمجالات الحيوية لتدارك العقود التي ذهبت هباء منثوراً، أما إذا قدر الله أنه لم يكتب لهذه الإدارة أن تخرج إلى الوجود بسبب بعض العوامل القديمة واستحكام بعض التيارات في مصير الشعوب، فإن هذه الأخيرة لن تبقى مكتوفة الأيدي.
--------------------
* نقلا عن الاتحاد الإمارتية، الثلاثاء 28/2/2012.