إن السلام الشامل والتنمية المُستدامة فى المنطقة العربية لن يتحققا إلا بتكاتف الدول العربية تحت مظلة القومية العربية حتى يصنع الوطن العربى قطبًا ذا قوى سياسية واقتصادية وعسكرية فى الساحة الدولية. ويعد التكامل الاقتصادى العربى النواة الداعمة لاستقرار وتكامل الوطن العربى سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا.حيث يمتلك الوطن العربى مقومات التكامل من حيث التقارب الاقتصادى، والسياسى، والثقافى، والاجتماعى بين الدول العربية، ويزخر الوطن العربى بالثروات الغنية واللامحدودة من الموارد البشرية الشابة والموارد الطبيعية النادرة والمتنوعة، فضلًا عن الموقع الاستراتيجى المتُميز للمنطقة العربية بين الشرق والغرب، بالإضافة إلى روابط النزعة القومية النابعة من التاريخ العربى المشترك واللغة الواحدة.لذا تسعى الدول العربية تحت مظلة جامعة الدول العربية والبرلمان العربى لإقامة السوق العربية المشتركة سعيًا للتكامل الاقتصادى المنشود.
وعلى الصعيد الآخر، فإن تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية بالوطن العربى عمل على حشد جهود الدول العربية صوب استكمال خارطة التكامل سعيًا إلى تحقيق التنمية المُستدامة الشاملة ومن ثم تعزيز الأمن الجماعى وبناء مستقبل آمن ومستقر لأبناء الوطن العربى.
الجدير بالذكر، أن التكامل الاقتصادى ليس بعيدًا عن المنطقة العربية، وإذا وجهنا نظرنا إلى الاتحاد الأوروبى الذى نشأ فى التسعينيات كان يعد نموذجا ناجحا للتكامل الاقتصادى، أخذا فى الاعتبار أنه لا يعتبر تكاملا متكاملا فقد نجد مجموعة من دول الاتحاد الأوروبى خارج الاتحاد النقدى ومنطقة الشنجن مما جعل خروج المملكة المتحدة أمرا ممهدا. ولذلك نجد أن فكرة إنشاء الاتحاد الأوروبى قامت على سياسة الباب المفتوح من أجل جذب الدول الأوروبية للانضمام والاستقواء فى صنع القرارات السياسية والعسكرية حيث حلف الناتو الذراع العسكرية للاتحاد، وبالتالى خلق قطب سياسى قوى يملك القوى الاقتصادية والعسكرية معًا.
تعددت مفاهيم التكامل الاقتصادى، ولكن خلصت تلك المفاهيم إلى أن التكامل الاقتصادى هو عملية سياسية واقتصادية طويلة الأجل تقترن بالتزام عدد من الدول فيما بينهم بخمس مراحل متتابعة تهدف إلى إزالة كافة القيود الجمركية وغير الجمركية عن حركة التبادل التجارى، وانتقال عناصر الإنتاج، وصولا إلى مرحلة التنسيق الكامل بين السياسات الاقتصادية، والمالية، والتجارية، والإنتاجية بهدف تحقيق الاستخدام الأمثل للموارد الاقتصادية وتوفير الأوضاع الاقتصادية والسياسية الملائمة للارتقاء بمعدلات النمو الاقتصادى وتحقيق التنمية الشاملة المستدامة. مع الأخذ فى الاعتبار أن تكون الدول الراغبة فى تحقيق التكامل متجانسة فى طبيعة أنظمتها الاقتصادية والاجتماعية، بالإضافة إلى تقارب مستوى تطورها الاقتصادى حتى تتكامل العملية الإنتاجية.
وتشمل مراحل التكامل الاقتصادى المترابطة والتى تعتمد على بعضها البعض:
1- إقامة منطقة تجارة حرة: تعتبر إقامة منطقة تجارة حرة من المراحل الأساسية للتكامل الاقتصادى حيث حرية انتقال السلع والخدمات بين الدول الأعضاء عبر تخفيض أو إلغاء التعريفات الجمركية وغير الجمركية وفقا للاتفاقية المنشئة إلى إقامة المنطقة الحرة بين الدول الأعضاء.
2- المرحلة الثانية إقامة اتحاد جمركى: تتبع عملية إقامة منطقة التجارة الحرة إنشاء اتحاد جمركى بين الدول الأعضاء حيث إلغاء الرسوم الجمركية وغير الجمركية بينهم مع توحيد النظم والتعريفات الجمركية بين دول الاتحاد وبين العالم الخارجى.
3- المرحلة الثالثة إنشاء سوق مشتركة: تنطوى تلك المرحلة على إلغاء كافة القيود الجمركية وغير الجمركية على السلع والخدمات مع وضع تعريفة جمركية موحدة على السلع الواردة من العالم الخارجى. بالإضافة إلى حرية انتقال عناصر الإنتاج المختلفة بين الدول الأعضاء. حيث يتم معاملة الاستثمارات معاملة الاستثمارات الوطنية وبالتالى تحصل على الحقوق والامتيازات نفسها من الدعم والإعفاءات الضريبية.
4- المرحلة الرابعة إنشاء اتحاد نقدى: هى المرحلة الأكثر تقدما بعد إقامة السوق المشتركة حيث خلق عملة موحدة وإنشاء سلطة نقدية مركزية. فتكون للدول الأعضاء عملة موحدة وسياسة نقدية موحدة فيما يتعلق بسعر صرف العملة وأسعار الفائدة وأسس التنظيم والرقابة على القطاع المصرفى.
5- المرحلة الخامسة والأخيرة التكامل الاقتصادى الكامل: تقضى المرحلة الأخيرة بتوحيد السياسات النقدية والمالية والتجارية للدول الأعضاء، فتصبح اقتصاداتها بمثابة كيان اقتصادى واحد.
وبالنظر إلى واقع التكامل الاقتصادى العربى، نجد أنه لا يزال فى مراحله الأولى بالرغم من كون الدول العربية أول الدول التى سعت إلى تحقيق التكامل الاقتصادى منذ قيام جامعة الدول العربية فى عام 1945، إلا أن مسيرة التكامل تعرقلت نتيجة لاتساع الفجوة بين المصلحة القُطرية والمصلحة القومية والحروب والصراعات التى أنهكت الأمة العربية على مدار عقود. وبخلاف ذلك بذلت الدول العربية جهدًا كبيرًا فى وضع الأطر القانونية والمؤسسية للتكامل الاقتصادى، وتتبلور تلك الجهود فى المواثيق والاتفاقيات العربية والمنظمات والاتحادات العربية.
وتكمن أهمية تنفيذ كل مرحلة من مراحل التكامل الاقتصادى فى تضاعف القدرة الإنتاجية والتنافسية للدول العربية وضرورة وجود المنتج العربى فى الأسواق العالمية من خلال خلق قاعدة إنتاجية عربية ذات قدرة تنافسية عالية، كما أن التكامل الاقتصادى يسهم فى الاستفادة من اقتصاديات النطاق الناتجة عن التكامل فى أسواق السلع واتساع حجم السوق، الأمر الذى يمكنها من التمتع بوفورات النطاق والتى تتمثل فى انخفاض تكلفة وحدة الناتج مما يزيد من الكفاءة الإنتاجية. إلى جانب الوفورات الخارجية الناتجة عن التنمية الصناعية وزيادة حجم الاستثمارات فيما بين الدول العربية، إذ تقترن الكفاءة الإنتاجية بزيادة الأرباح نتيجة لانخفاض تكاليف الإنتاج مما يزيد من الإنفاق الاستثمارى.
وبالرغم من التحديات السياسية والاقتصادية التى تعرقل مسيرة التكامل، إلا أن دوافع استكمال خارطة التكامل الاقتصادى العربى باتت غالبة على تلك التحديات لتكون الدوافع ذاتها من أجل تدعيم الوحدة العربية وتعزيز العمل العربى المشترك.
وتكمن أهمية التكامل الاقتصادى العربى فى دوافعه حيث الدوافع السياسية، والأمنية، والاقتصادية، والاجتماعية، والتى تتلخص فيما يلى:
⦁ المتغيرات على الساحة الدولية باتت تنذر ببزوغ عالم متعدد الأقطاب، مما يضع الدول العربية أمام تحديات اقتصادية وسياسية تحتم مواجهتها بتعزيز العمل العربى المشترك فى ظل أحداث دولية متواترة تتسارع فيها الدول الكبرى لتحتل مركزًا فى نظام عالمى جديد يتسم بالتعددية السياسية. لذا أصبح استكمال خارطة التكامل العربى أمرًا حتميًا خاصة أن فعالية التنسيق بين الدول العربية تؤثر على مدى قدرتها التفاوضية فى المنظمات الدولية إزاء كل ما يتعلق بالشأن العربى.
⦁ تفاقم الصراعات الإقليمية بات يهدد وحدة الوطن العربى، وقد صار شبح تقسيم الوطن العربى يراود المنطقة العربية حيث الصراعات السياسية، والمذهبية، والقبلية. ونجد أن قرار تقسيم السودان إلى شمال وجنوب أدى إلى مزيد من الصراعات والتوترات السياسية فى جنوب السودان والتى آلت إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية. فضلًا عن الصراعات والنزاعات المُحتدمة وعدم الاستقرار الأمنى فى اليمن، والسودان، وسوريا، ولبنان، والعراق، وليبيا. هذا إلى جانب تفاقم الحرب فى فلسطين التى تحولت إلى أزمة إنسانية. الأمر الذى بات يهدد أمن واستقرار الدول العربية. وعليه، تدفع تلك المخاطر إلى تضافر جهود الدول العربية حيال الحفاظ على وحدة الوطن العربى سواء على الصعيد السياسى حيث دعم أمن واستقرار المنطقة أو على الصعيد الاقتصادى حيث دعم مسيرة التكامل الاقتصادى تحقيقا للتنمية المستدامة فى ربوع الوطن العربى.
⦁ تحقيق التنمية الاقتصادية المُستدامة ومواكبة التطور التكنولوجى المتسارع فى كافة القطاعات الإنتاجية وتكنولوجيا الاتصالات، حيث يشهد الوطن العربى فترة حرجة من الصراعات والحروب التى انهكت بعض الدول العربية لتجتاح المجاعة فى الدول التى تشهد النزاعات والحروب الدامية وكثرة عدد اللاجئين والنازحين، الأمر الذى هدد نسيج المجتمع العربى وارتفاع معدلات التضخم، والفقر، والبطالة، وتباطؤ معدلات النمو الاقتصادى، وهذا أيضًا فى خضم التداعيات السلبية للأزمات الاقتصادية العالمية وتداعيات أزمة كوفيد-19 والأزمة الروسية–الأوكرانية، التى أثرت سلبًا من حيث تراجع عجلة الإنتاج وانخفاض مستوى التبادل التجارى بين الدول العربية، وتراجع الاستثمارات البينية العربية.
⦁ بزوغ العديد من التكتلات الاقتصادية على الساحة الدولية. الأمر الذى يدفع الدول العربية لاستكمال مسيرة التكامل من أجل اللحاق بركاب النظام الاقتصادى العالمى وتقوية المركز التفاوضى للدول العربية فى النظام التجارى العالمى من حيث تحقيق المساواة بين حقوق الدول الأعضاء فى الاتفاقيات التجارية متعددة الأطراف وبخاصة المتعلقة بالإعفاءات والاشتراطات، ضمانًا لتحقيق التنمية الشاملة للدول النامية والمتقدمة معا فى إطار منظمة التجارة العالمية. بالإضافة إلى بحث طبيعة الالتزامات والتعهدات التى تقدمها الدول العربية إلى منظمة التجارة العالمية.
فى ضوء ما تقدم، تمتلك الدول العربية مقومات التكامل الفَّعال من حيث تعدد وتنوع الموارد الاقتصادية متمثلة فى تنوع المحاصيل الزراعية، والثروات المعدنية، ومصادر الطاقة من البترول والغاز الطبيعى، ومصادر الطاقة المتجددة. إلى جانب اتساع حجم السوق حيث الامتداد الجغرافى الكبير للوطن العربى بين الشرق والغرب وأهمية موقع الوطن العربى الجيواستراتيجى والجيوسياسى والتعداد الكبير للسكان، إذ تشكل السوق العربية مجالا رحبا للتكامل العربى الذى يمكن أن يقوم على أرضية التعاون بهدف تلبية حاجات السوق العربية ويؤكد هذه الحقيقة توافر عدد كبير من الموارد والإمكانات الضرورية لتوسيع الطاقة الإنتاجية ومن ثم تنشيط عملية التبادل على الصعيدين الإقليمى والدولى. والجدير بالذكر أن الدول العربية زاخرة بالموارد البشرية ذات الكفاءة العالية فى شتى المجالات الاقتصادية، والتكنولوجية، والإدارية مما يوفر الإمكانيات اللازمة لتحقيق التنمية المستدامة فى الوطن العربى.
ختاما، تعزيز وحدة الوطن العربى بات أمرًا ضروريًا لخلق قوى عربية شاملة فى النظام العالمى الجديد، قادرة على بناء ثقل سياسى واقتصادى فى الساحة الدولية والتأثير على القرارات السياسية والاقتصادية وتعضيد المركز التفاوضى للدول العربية فى المحافل والمنظمات الدولية، فضلًا عن تعزيز الاستقرار السياسى والأمنى وتعظيم كفاءة وتنوع الهياكل الاقتصادية حيث زيادة العوائد الاقتصادية والاستثمارية وتعزيز آليات التمويل من أجل التنمية الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والعسكرية، والبشرية. وتلعب الدولة المصرية دورًا فعالًا فى تعزيز وحدة التعاون العربى المشترك من خلال العديد من الاتفاقيات التجارية والاستثمارية والتنموية فى مختلف القطاعات، ومن بين تلك الاتفاقيات، الشراكة الصناعية التكاملية لتحقيق تنمية اقتصادية مستدامة بين مصر، والأردن، والإمارات، فضلًا عن دور الدبلوماسية المصرية فى تعميق سبل الحلول السياسية والوساطة والمساعى الدبلوماسية الحميدة للحد من الصراعات والنزاعات ووقف إطلاق النار والحروب التى تهدد الأمن الجماعى والسلم والاستقرار، تنفيذًا لقرارات مجلس الأمن الدولى والحفاظ على السلم والأمن إقليميًا ودوليًا. وتخطو الدول العربية الكبرى خطوات جادة نحو التحالف صفًا واحدًا، إذ يعزز التكامل الاقتصادى الروابط الاقتصادية مما يسهم فى تحقيق التكامل العربى سياسيًا، واقتصاديًا، وعسكريًا. وعلى الرغم من وجود العديد من التحديات التى تحول دون التعاون العربى الفَّعال، إلا أن الدول العربية تجمعها قواسم مشتركة وإمكانيات تؤهلها لاستكمال خارطة التكامل الاقتصادى العربى.