مقالات رأى

التهجير العَصرى

طباعة

أصابتنا أبواق الإعلام الغربى بالصمم من كثرة وكثافة عرض مخطط تهجير أهالى غزةإلى سيناء، وكأننا أبدلنا عقولنا بأحذية بالية، أو كأنه عَميت أعيننا، وتبدلت مشاعرنا، وفقدت قلوبنا البصيرة فأصبحنا فى صحراء أوهامهم تائهون.

 إن أهل التيه والضياع تاهوا أربعين سنة عقابا عندما عصوا أمر الله على لسان كليمه موسى عليه السلام، فرفضوا دخول الأرض المُقدسة جُبنا وخوفا من أصحابها، فكتب الله عليهم الشُتاتفى الأرض فقال عزَّ وجلَّ: (وَقطّعْنَاهُم فى الارْضِ أُمَما مِّنْهُم الصَّالِحُون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيِّئات لعلَّهم يرجعونَ). الأعراف: 169. 

يَسخر القدر ممن كُتب عليهم الشتات أن يحاولوا تشتيت أذهان العالم وتضليله عن الحقيقة الساطعةفى سماء أحداث إجرامهم فى الحرب على غزة، كما تسخر قلوبنا وعقولنا من إصرارهمعلى تشتيت أهالى غزة -المُهجرين فى الأصل من أراضيهم بربوع فلسطين المُحتلة- ومحاولة فرض التهجير القصرى على أهالى غزة إلى سيناء، والأحق والأولى أن يهاجر كل أبناء صهيونإلى مواطنهم الأصل فى ربوع الأرض بالبلاد التى لفظتهم وطردوا منها سابقا، ونطلق على عودتهم التهجير العصرى حتى يتناسب مع هذا العصر الذى ملئوه عبثا، واقعا لا يجب أبدا أن ندافععن حقوق مصر وفلسطين الجغرافية، فهى ثابتة تاريخيا وجغرافيا على مر العصور، لا ندافع عن حقوقنا أمام وهم ليس له ثوابت إلا فى توراتهم المُحرفة، ولتكن لنا نظرية -التهجير العصرى- مؤسسة على مبادئ (قانونيةَ، وتاريخية، وجغرافية، ودينيةَ، وإنسانية) لإعادتهم مواطنهم، حتى يسكن صداع رأس العالم، ويتوقف نزيف الدماء البريئة، ويتوقف إهدار بلايين دولارات العالم التى تُنفق على دعم الكيان الصهيونى، فليعودوا جميعا إلى حيث أتوا أو يُقدر الله أمرا كان مفعولا.

لم تدعُ التوراة اليهود -وفقا لأحبارهم- إلى التجمع فى وطن واحد قبل ظهور المسيح، لذا عاشوا على مر العصور فى أرجاء الأرض وتشابهوا فى الهوية الثقافية الصهيونية والدينية اليهودية وأسلوب الحياة، ما تسبب فى نفور الشعوب وجعلهم عرضة لسلسلة من المذابح والاضطهاد والطرد،  وانقسموا لمجموعتين جغرافيتين أساسيتين: يهود أشكناز فى شمال وشرق أوروبا، واليهود السفارديم فى شبه الجزيرة الإيبيرية "إسبانيا والبرتغال"، وشمال إفريقيا، والشرق الأوسط.

لقد بدأت الهجرة الصهيونية منذ عام 1882، ويمكن تقسيم المراحل التى مرت بها منذ ذلك الحين حتى عام 1948 إلى مرحلتين: الهجرة الأولــى، على دفعتين الأولى منهما بين 1882 و1884 والأخرى فى عامى 1890 و1891. وقد جاء فى هذه الهجرة نحو 25 ألف يهودى معظمهم أسر محدودة الإمكانيات من رومانيا و روسيا،  والهجرة الثانية، (1904-1918) وقد حدثت بعد قيام المنظمة الصهيونية، وإشرافها على الهجرة والاستيطان فى فلسطين، وبلغ عدد المهاجرين فيها نحو أربعين ألفا جاء معظمهم من روسيا ورومانيا وكانوا أساسا من الشباب المفلسين المغامرين الذين جندتهم الصهيونية والأجهزة الاستعمارية، ومع نهاية موجة الهجرة الثانية بسبب قيام الحرب العالمى الأولى عام 1914 وصل عدد اليهود فى فلسطين حسب تقديرات المصادر الصهيونية إلى نحو 85 ألف يهودى، ووصلت مساحة الأراضى التى يملكونها إلى 418 ألف كيلومتر مربع، وأصبح لديهم نحو 44 مستعمرة زراعية، وتوالت الهجرات بمساعدة القوى الاستعمارية إلى أن تم إقامة هذا الكيان الغريب فى قلب المنطقة العربية تحقيقا لمصالحهم سنة 1948، أخذت أرقام الهجرة تنكمش من 1974 إلى 1978 بعد حرب أكتوبر المجيدة، بسبب تفاقم المشكلات الداخلية الاقتصادية والاجتماعية فى الكيان الصهيونى نتيجة الحرب وميل الجاليات اليهودية خارج (إسرائيل) إلى الاندماج فى المجتمعات التى تعيش فيها لما تتوفر بها من حياة أفضل وأكثر استقرارا من الحياة فى الكيان الصهيونى، وهكذا أخذت أرقام الهجرة تنخفض بعد عام 1973 فبلغ عدد المهاجرين عام 1974  نحو 30 ألفا، ثم هبط إلى 20 ألفا فى الأعوام 1975 و1976 و1977. وقد اقترن انكماش الهجرة فى أعقاب حرب أكتوبر 73 بتزايد موجة الهجرة المعاكسة، ومن بداية أحداث الحرب على غزة 7 أكتوبر 2023 زاد عدد المهاجرين عكسيا -خارج الكيان- إلى أكثر من 500 ألف مستوطن.

ما سرد عن هجرتهم لا يمثل إلا قطرة من غيث الحقيقة الثابتة عبر التاريخ، والمؤكدة أن ما يدعونه من دولة ما هى إلا أراضٍ مسروقة ووطن محتل،وعن هجرتهم المشئومة إلى الأراضى المحتلة، فلم تكن هجرة طواعية، بل كانت لفظا من بلادهم لما كان لهم من ثقافة وسلوكيات تشابهوا فيها على مختلف جنسياتهم اضطرت المجتمعات التى عايشوها إلى طردهم، فكانوا ينشرون الدعارة والربا وغيرها من الأنشطة التى تؤثر مباشرة على أمن هذه الدول القومى، فما كان من بعض الحكومات إلا فرض العزلة عليهم وتأميم ممتلكاتهم وفى النهاية لم يكن هناك بد إلا التخلص منهم نهائيا بالطرد، فتعاقبت موجات الطرد (من 1080 / فرنسا، 1098 / التشيك، 1113 / كييف، 1147 / فرنسا، 1200 / إنجلترا، 1360 / المجر، 1391 / أسبانيا، 1516 / البرتغال، 1541 / النمسا، 1701 / سويسرا، 1933 / ألمانيا "الهولوكست")، لقد استغل الغرب بحث الصهاينة عن وطن يؤويهم بإصدار وعد بلفور 1917 ودعم تنفيذه بكل ما أوتوا من قوة، ليصيبوا عدة أهداف بحجر واحد، التخلص من أبناء صهيون، وتقسيم الإرث العثمانى بمنطقة الشرق الأوسط بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية واستنزاف الموارد الواعدة بالمنطقة استعواضا لخسائر الحرب العالمية الأولى بزرع كيان يهدد الاستقرار ويبقى شوكة فى حلق دول الشرق الأوسط.

ومنذ ذلك الوعد وحتى الآن، لا تزال دوائر الصراع العربى-الإسرائيلى تدور رحاها، لتنزف الدماء وتأكل الأخضر واليابس وتصدر الفجور وتلوث البيئة الأخلاقية وتجرف هوية المجتمعات العربية وتفرق بين الأشقاء والأصدقاء وتعطل قاطرات التنمية، مدعومين من الدول أصحاب المصلحة ببلايين الدولارات وأحدث أنظمة التسليح إضافة إلى الدعم السياسى فى الأمم المُتحدة التى شبهها الدكتور بطرس غالى ببيت من زجاج فى كتابه المعروف "خمس سنوات فى بيت من زجاج"، حتى تمكن هذا الكيان من احتلال جزء من الأراضى العربية فى حرب الأيام الستة، وما لبث أن حطمته البطولة المصرية العربية فى ست ساعات فى 6 أكتوبر 1973، لتسترد مصر أراضيها كاملة بمعركة سياسية شرشة.

كما تباينت النبوءات اليهودية لمصير الكيان الصهيونى وفقا لخبرتهم التاريخية فى إقامة دولتين يهوديتين قديما، فقامت الدولة اليهودية الأولى "مملكة داوود وسليمان"، حيث استمرت 80 عاما" 516 : 596ق.م"، وفى العام الــ 81 تفككت إلى مملكتى يهوذا وإسرائيل، وبدأ سقوطها تدريجيا، وقامت الدولة اليهودية الثانية المعروفة بــ "مملكة الحشمونائيم"، واستمرت لمدة تصلإلى 88 سنة "151 : 63 ق.م"، ثم تمزقت إلى جزءين وأصبحت محمية ضعيفة خاضعة للإمبراطورية الرومانية، وتُتداول الأحاديث حاليا فى الداخل اليهودى عن زوال الكيان الصهيونى بعد 80 عاما فى ظل هذه النبوءات، فقد أكمل هذا الكيان فى عامنا هذا عامه الـــ 75" 1948 : 2023"، وتنوعت هذه النبوءات بين الدينية، والسياسية كما ذكر إيهود باراك رئيس وزرائهم السابق، وأعاد على مسامع العالم رئيس الوزراء الحالى بنيامين نتنياهو فى حملته الانتخابية قبيل أحداث 7 أكتوبر 2023، فوعد أن تستمر الدولة اليهودية لأكثر من مائة عام، كما تستند بعض مراكز الدراسات اليهودية إلى قراءة وتحليل الوضع الأمنى والداخلى والاقتصادى الحالى أن زوال ما يسمى بالدولة الإسرائيلية قد أوشك.

ومع ما يمارسه هذا الكيان من فساد فى المنطقة العربية وسرقة للأراضى الفلسطينية بالقوة إلا أنه لم ينعم أبدا بالأمن والسلام رغم إضعاف القومية العربية أو حتى تلاشيها، فالمقاومة المباشرة وغير المباشرة مستمرة من الأراضى المحتلة وممتدة من دول الجوار، ليس تعديا منهم بل دفاعا عن أراضيهم المحتلة أو تجنبا لامتداد حدوده التى تُعتبر من عجائب السياسة فى العالم، فلا توجد دولة اعترف بها المجتمع الدولى لمجرد توافر عناصر الدولة الثلاث وفقا للقانون الدولى (الشعب "المطرود من بلاده" -الإقليم "المسروق علانية"- سيادة القانون "المفروضة بالدبابات")، فأين حدود هذه الدولة؟ ولماذا لم يُعلن عنها دوليا ليلتزم نظامها بهذه الحدود؟ أم إنه مجردكيان مُحتل؟ إن كان كذلك، فلماذا يقاتل المقاومة بحجة الدفاع عن النفس وهو ليس له هذا الحق باعتباره كيانا محتلا (المادة 51 / القانون الدولى)؟

لقد استيقظ العالم بأسره يوم 7 أكتوبر 2023 على عمليات برية وبحرية وجوية عنيفة نفذتها المقاومة الفلسطينية ضد الكيان الصهيونى، وأسقطت عنه أقنعة الغرور والتكبر ليظهر أمام مواطنيه قبل العالم عاريا من بطولة وقوة ادعاها، كانت هذه العملية نتيجة طبيعية لهذا الصلف المتتالى من القهر والظلم والعنصرية وتدنيس المقدسات وانتهاك حقوق الإنسان واختراق القانون الدولى الإنسانى، ويبدأ رحلة جديدة من المراهقة السياسية اتسمت بالتخبط والانفعال غير المحسوب ممثلا دور الضحية كما اعتاد سالفا متخذا عملية المقاومة مبررا لسفك دماء بريئة من نساء وأطفال وعزل بحجة الدفاع عن النفس التى ليس لهم حق بها كدولة احتلال، تساورنا الحقائق الجغرافية والتاريخية والقوانين الثابتة مع هذه الأحداث، وتعيد لنا عافية ضمائرنا   فبنظرة إنسانية  حيادية  إلى شعب الكيان الصهيونى المقهور فى فلسطين نتيقن عدم استقراره أمنيا وما يتبعه من ضياع اجتماعى واقتصادى على حد سواء، ما يُحفز إنسانيتنا لأن نبحث لهم عن سبيل حتى ينعموا بالأمن والسلام اللذان  بذلوا الغالى والنفيس وتركوا مواطنهم من شتى بقاع الأرض ليقيموا وطنهم -بدون حدود- فى أرض الأحلام أو الميعاد كما يدعون، لذا كان لزاما علينا إعادة النظر للقضية من بعد قد يختلف عن ما يُطرح ولكنه راسخ فى القانون الدولى، فليعودوا إلى أوطانهم فهذه المنطقة لم ولن تناسبهم، فأرضها ملتهبة وبحارها مُغرقة وسماؤهامُحرقة، مع كل الاحترام الإنسانى لإنسانيتهم المريضة.

إن مقالى هذا ليس طرحا أو فكرة، بل هو فى الحقيقة دعوة لإنفاذ قرارات الأمم المتحدة المتتالية التى لم تجد مكانا إلا ثلاجات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة بعد مواجهتها بالفيتو وإحالتها لطاولة المفاوضات، ثم المساومات والتهديدات والعقوبات، دعوة أوجهها إلى جميع مراكز البحوث القانونية الدولية بالوطن العربى لبحث آليات جديدة لتنفيذ لهذه القرارات والعملعلى تطبيق البند السابع للميثاق العام للأمم المتحدة "سحب الثقة"، الذى تلجأ إليه منظمة الأمم المتحدة لحماية المدنيين ضد الدول التى تنفذ أعمالا تهدد السلم الأهلى وتهدد حياة المدنيين من خلال العدوان عليهم وقتل ضحايا أبرياء، حيث نصت على ذلك ثلاث عشرة مادة "39-51" من البند السابع، جميعها وضعت لحماية المدنيين فى حالة وقوع عدوان، حيث تخول هذه المواد مجلس الأمن فرض  تدابير مؤقتة لحماية المتنازعين قد تصل إلى عقوبات اقتصادية وقطع العلاقات الدبلوماسية، وفى حالة عدم نجاح التدابير المؤقتة فإنه يحق لمجلس الأمن بموجب البند السابع اللجوء إلى اتخاذ تدابير حربية عاجلة كاستخدام القوات المسلحة من بحرية وجوية وبرية لحفظ السلم والأمن الدولى، ويتم ذلك فى حالات تهديد السلم والإخلال به ووقوع العدوان، وعلى الدول الأعضاء بالأمم المتحدة أن تشارك بقواتها وأسلحتها وجنودها لوضع الدولة المُعتدية تحت وصاية الأمم المتحدة بالقوة، أى إن دولة الكيان يجب أن توضع تحت وصاية الأمم المتحدة ويسحب منها الثقة بالقوة.

كما أوجه الدعوة لأولاد عمومتنا المُتباكين المظلومين. عودوا إلى بلادكم قبل أن تُقبروا بهذه الأرض. أطيعوا أوامر أحباركم وإلا تقبلوا صلاتهم عليكم إن أدركوا. لن يترككم الفلسطينيون تلتقطوا أنفاسكم وإن أفنيتموهم ستقذفكم أراضينا بصخور من حمم لا قبل لكم بها.

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. محمد عبدالباسط

    د. محمد عبدالباسط

    خبير فى علاقات الأمن الإقليمي