استقبلت العاصمة اللبنانية بيروت فى 4 أبريل الجارى نائبة المبعوث الأمريكى الخاص إلى الشرق الأوسط، مورجان أورتاجوس، بعد زيارة أجرتها لتل أبيب، وهو ما جذب اهتمام الأوساط اللبنانية كافة، وجاءت زيارتها فى سياق مناقشة ملفات مهمة تمس أمن وسياسة البلاد، "أورتاجوس" اجتمعت مع الرئيس اللبنانى العماد جوزيف عون، وناقشا عدة قضايا متعلقة بالجنوب اللبنانى، منها نشاط لجنة المراقبة الدولية، وانسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلى من المناطق الخمس فى الجنوب: تلة اللبونة، وجبل بلاط، وتلة العويضة، وتلة العزية، والحمامص، وكذلك الأوضاع عند الحدود السورية، وملف الإصلاح ومكافحة الفساد.
الزيارة الثانية لأورتاجوس تحمل دلالات مهمة فى ظل تنامى الاضطرابات الإقليمية، خاصة مع تدهور الأوضاع الأمنية عقب سلسلة من هجمات الاحتلال التى طالت الضاحية الجنوبية لأول مرة منذ توقيع اتفاق التهدئة فى نوفمبر 2024، بالإضافة إلى اغتيال حسن فرحات أحد قادة حماس فى مدينة صيدا.
نائبة المبعوث الأمريكى الخاص إلى الشرق الأوسط، ناقشت خلال لقائها مع الرئيس "عون" ورئيس الوزراء نواف سلام، ورئيس البرلمان نبيه برى، عددًا من القضايا الجوهرية، على رأسها كان سلاح حزب الله، ووضع خطة زمنية واضحة للانتهاء من هذا الملف، المحادثات تطرقت إلى ترسيم الحدود مع الاحتلال، "أورتاجوس" تهدف لانخراط الجانب اللبنانى فى مفاوضات مباشرة مع تل أبيب لتسوية الخلافات الحدودية.
المحادثات اللبنانية مع "أورتاجوس" شملت تشكيل لجان تضم مدنيين ودبلوماسيين للتفاوض مع تل أبيب فيما يخص ترسيم الحدود البرية مع لبنان و الانسحاب من المناطق الخمس التى ترفض إسرائيل الإنسحاب منها، الصحف اللبنانية أكدت أن المسئولين فى بيروت أبلغوا الموفدة الأمريكية بموقف موحد ورفض التطبيع مع الاحتلال أو حتى الجلوس على طاولة واحدة معها لما لذلك من تداعيات خطيرة على السلم الأهلى ووحدة البلاد واستقرارها، كما شددوا على ضرورة انسحاب تل أبيب من الأراضى اللبنانية المحتلة، وإطلاق سراح الأسرى اللبنانيين، ووقف الانتهاكات المتكررة للسيادة اللبنانية.
زيارة "أورتاجوس" لبيروت وضعت ملف سلاح حزب الله على طاولة البحث الدولى مجددًا، كاشفة عن تصاعد الضغوط على لبنان والتى تجاوزت الضغوط الاقتصادية لتصل التوازنات الأمنية والسيادية، هذا التحرك يعكس تبديل سياسة الاحتواء إلى مقاربة تقوم على الحسم التدريجى فيما يخص الجماعات المسلحة، وفى الداخل يستمر الموقف الرسمى اللبنانى فى التحرك فى حلقة مفرغة من التصريحات دون أية محاولات للتنفيذ، ورغم تأكيد "عون" و"سلام" على ضرورة حصر السلاح بيد الدولة، يغيب أى تصور عملى لتنفيذ ذلك أو حتى خطوات ملموسة.
هذا الاختلاف بين الحديث والفعل يعكس واقعًا سياسيًا مأزومًا، تتمسك به قوى "الأمر الواقع" بزمام الأمور، فـ "حزب الله" يرفض التخلى عن سلاحه، معتمدًا على تفسيره للقرار الدولى 1701، فى الوقت الذى يتجاهل فيه قرار 1559 الذى ينص صراحة على نزع سلاح الميليشيات.
الانقسام داخل "الوزراء اللبناني" بشأن الجدول الزمنى لنزع سلاح حزب الله يؤكد هشاشة التفاهمات فى الداخل اللبنانى، ويطرح علامات استفهام حول جدية بيروت واستعدادها لخوض مواجهة سياسية وربما أمنية مع الحزب، فى ظل غياب توافق وطنى وشبكة دعم إقليمية، والأخطر من ذلك أن استمرار هذا الواقع يبقى مؤسسات الدولة عرضة لمزيد من التآكل، ويكرس منطق الدويلات، وبينما تراهن الحكومة على مقاربة تدريجية لمعالجة الملف، يبدو أن المجتمع الدولى بدأ يفقد صبره، ما قد يمهد الطريق لضغوط أقسى أو ربما خطوات أخرى.
السؤال هنا هو لماذا لا تعتمد الدولة اللبنانية جدولًا زمنيًا لسحب السلاح من "حزب الله"، الإجابة هى التعقيدات فى العمق اللبنانى نفسه، بيروت ليست غافلة عن واقع السلاح "الموازي" أو غير المشروع، أو حتى لا تجهل تحديات هذا السلاح، لكنها عاجزة عن اتخاذ "مبادرة القرار" نتيجة تراكمات داخلية وخارجية تجعل الفكرة فى حد ذاتها مغامرة غير محسوبة.
لبنان -منذ تأسيسه- يعتمد على توازنات طائفية حساسة، وإدارة الملفات الحساسة تفرض بالتوافقات، سلاح "حزب الله" لم يعد قضية أمنية فحسب، لكنه أصبح مكونًا أساسيًا فى المعادلة الطائفية، بالإضافة إلى أن نسبة كبيرة من اللبنانيين خاصة الموالين للحزب، يرون أن هذا السلاح درع حماية فى وجه الاحتلال الإسرائيلى، ومايزيد المشهد تعقيدًا هو أن الحزب لم يعد قوة عسكرية بل هو سياسى مؤثر لديه كتلة برلمانية، ومتشعب داخل مؤسسات الدولة اللبنانية.
ولا أحد يطرح مسألة نزع سلاح حزب الله فى الإطار "الدبلوماسي" سوى فى لبنان، حتى " أورتاجوس" أقرت بأن نزع السلاح لن يتحقق فى غمضة عين، وطلبت تشكيل لجان دبلوماسية لمناقشة الملفات العالقة بين بيروت وتل أبيب، بيروت ترى أن القرار 1701 كافٍ لحل هذه القضايا، وفيما يخص ترسيم الحدود فلا مانع من تشكيل لجنة عسكرية.
البطريرك المارونى بشارة الراعى، يرى أن الوقت مناسب لتوحيد السلاح فى لبنان كما نص اتفاق الطائف 1989، وأن الحل يجب أن يكون دبلوماسيًا، وأقر كذلك بصعوبة نزع السلاح فى الوقت الراهن، وأن الأمر يتطلب وقتًا وتدرجًا، وحتى فى ظل حكم مسئولين لبنانيين سابقين، فإن الانفتاح على مناقشة استراتيجية دفاعية وطنية، ولا تهدف إلى نزع سلاح الحزب بالكامل، بل إلى إعادة توظيفه ضمن إطار الدولة، طرح موضوع نزع سلاح حزب الله فى الظرف الراهن ليس مطروحًا، لأن مجرد الاقتراب من هذه النقطة قد يفجر الوضع الداخلى، وماقام به الاحتلال الإسرائيلى من حروب واغتيالات ضد الحزب لم يؤد إلى نتيجة، وتوقفت المعارك فى نهاية المطاف عند حدود قرى الجنوب اللبنانى.
نزع سلاح حزب الله يمتد ليشمل واقعًا أمنيًا، فمنذ 2005، لم تتمكن الدولة اللبنانية من وضع خطة بديلة لضبط الجنوب أو ردع إسرائيل، خاصة فى ظل نقص العتاد فى الجيش اللبنانى والضغوط السياسية التى تعرقل تحركاته، و من الواضح أنه فى حال رغبت بيروت فى نزع سلاح الحزب، لا توجد رؤية واضحة بشأن الحدود، وهناك تعقيدات إقليمية بشأن"حزب الله" الذى بات جزءا من معادلة أكبر، سلاح حزب الله لم يعد مسألة لبنانية فقط، بل أصبح جزءا من "مقاومة" ضد المحتل الإسرائيلى، وبالتالى فإن أى تحرك داخلى سيعتبر تهديدًا استراتيجيًا للمنطقة كلها، ورغم القرارات الدولية، فإن المجتمع الدولى لم يتمكن من فرض أى تغيير فعلى فى موازين القوى، ولا يمكن لأى جهة اتخاذ القرار بدلًا عن الدولة، بل يحتاج لبنان إلى قرار جريء يضع الأسس لحوار استراتيجى داخلى مع حزب الله، هذا الحوار يجب أن يكون من موقع الدولة القوية التى تدرك أن الحلول لا تأتى بالصدف، وكما أظهرت تجارب دولية سابقة، يجب أن يكون الحل شاملًا ويعتمد على مزيج متكامل من الحوار السياسى، والتعزيز الأمنى، والبدائل الاقتصادية، ففى لبنان، حتى وإن تم تعزيز الأمن، فإن ذلك لن يكون كافيًا لتفكيك بنية حزب الله الأمنية إلا إذا رافقه حوار سياسى وخطة اقتصادية واضحة، وإلا، سيجد الجيش اللبنانى نفسه أمام ضغوط تفوق قدرته على مواجهتها، سواء كانت داخلية ناتجة عن التحديات الأمنية والسياسية أو إقليمية بسبب التوترات المتصاعدة فى الشرق الأوسط.
الدولة اللبنانية، لم تحدد الدولة موعدا لتسليم سلاح حزب الله، كون ذلك يتجاوز قدرتها على الصعيد السياسى والأمنى والعسكرى، فأى قرار بهذا الحجم يتطلب توافقًا داخليًا شاملًا، بالإضافة إلى الحاجة إلى دعم إقليمى ودولى حقيقى لا يقتصر على المناشدات، علاوة على ضرورة تقوية الجيش اللبنانى وتطبيق خطة أمنية شاملة لاستعادة سيادة الدولة وبناء الثقة تدريجيًا، وما يحدث الآن لا يعكس مجرد صراع حول السلاح، بل صراع على تعريف الدولة اللبنانية نفسها، سلاح حزب الله سيظل جزءًا من المعادلة اللبنانية المعقدة، ليس لأن الدولة تسعى لهذه النقطة، بل إنه من الصعب نزع سلاح الحزب فى ظل محدودية التأثير خاصة فى الجنوب، حزب الله يتمسك بموقفه الرافض للتخلى عن سلاحه، مستندًا لقرار 1701 الداعم لموقفه فى الجنوب، ويتجاهل قرار 1559 الداعى وبوضوح لنزع الأسلحة "غير الشرعية" فى الدولة اللبنانية.