لطالما كانت الدراما مرآة تعكس واقع المجتمع، بكل ما فيه من عادات وتقاليد وسلوكيات. فمنذ عقود، قدمت المسلسلات المصرية أعمالًا تحمل رسائل اجتماعية هادفة، تعكس القيم الأسرية والتماسك المجتمعى، حتى لو كانت تتناول بعض السلوكيات السلبية. لكن مع التطورات المتسارعة التى شهدها العالم، تغيرت ملامح الدراما بشكل جذرى، وأصبح السؤال الأهم: هل الدراما لا تزال تعكس المجتمع، أم إنها أصبحت تساهم فى تشكيله وتغييره؟
الدراما فى الماضى.. قيم ورسائل هادفة:
فى فترات سابقة، قدمت الدراما المصرية أعمالًا كانت تمثل نموذجًا للقيم والأخلاق، رغم تناولها مشكلات اجتماعية متنوعة. على سبيل المثال:
• "بابا عبده": جسد صورة الأب المثالى الذى يربى أبناءه على المبادئ، وكان نموذجًا للعائلة المصرية المتماسكة.
• "عندما يجيء المساء" و"هند والدكتور نعمان": ناقشا قضايا اجتماعية هادفة بروح درامية هادئة، دون مبالغة أو إثارة.
• "ليالى الحلمية": رغم أنه كان يتناول الصراعات الطبقية والتغيرات السياسية، فإنه لم يغفل عن إبراز القيم الأسرية والترابط بين الشخصيات.
• "مين اللى ميحبش فاطمة": قدم قصة حب راقية دون ابتذال، وسلط الضوء على صراعات الإنسان بين العاطفة والمجتمع.
هذه الأعمال وغيرها لم تكن تخلو من رصد المشكلات الاجتماعية، لكنها كانت تقدمها بأسلوب راقٍ، مع طرح الحلول أو تقديم نماذج إيجابية يحتذى بها المشاهدون.
الدراما الحديثة.. بين الواقعية والمبالغة:
مع تغير الزمن، أصبحت الدراما أكثر جرأة فى طرح المشكلات، لكنها فى كثير من الأحيان بالغت فى التركيز على الجوانب السلبية، لدرجة جعلتها تروج لأنماط حياة غير مألوفة للمجتمع المصرى. يمكن ملاحظة ذلك فى عدة ظواهر درامية حديثة:
1- تفشى العنف والبلطجة: أصبحت الشخصيات الخارجة عن القانون أبطالًا رئيسيين، كما فى بعض الأعمال التى صورت تجار المخدرات وأصحاب النفوذ غير المشروع كمثل أعلى للشباب.
2- الألفاظ والمصطلحات الغريبة: لم تعد الأعمال الدرامية تلتزم بالحد الأدنى من الاحترام فى الحوار، بل انتشرت فيها الألفاظ النابية والمصطلحات السوقية.
3- تفكك الأسرة: بدلاً من تقديم نماذج أسرية إيجابية، أصبحت الدراما تركز على الخيانة، والعلاقات غير الشرعية، والصراعات العائلية، وكأن هذه الأمور هى القاعدة وليست الاستثناء.
4- غياب القدوة: لم تعد الدراما تقدم الشخصيات التى يمكن أن تكون مصدر إلهام للمشاهدين، بل أصبح معظم الأبطال شخصيات إما انتهازية أو عدوانية أو بلا قيم واضحة.
هل الدراما تعكس المجتمع أم تصنعه؟
هناك جدل مستمر حول ما إذا كانت الدراما تعكس واقع المجتمع أم إنها تساهم فى تشكيله. فى الماضى، كان المشاهد يرى القيم الإيجابية فى المسلسلات، ويحاول أن يقتدى بها، بينما اليوم نجد أن بعض الأعمال تفرض نمطًا معينًا من السلوكيات والمفاهيم، مما قد يؤثر على وعى المشاهدين، خاصة الشباب.
على سبيل المثال، عندما انتشرت شخصيات البلطجى فى بعض المسلسلات، أصبح العديد من الشباب يقلدون أسلوبهم فى اللبس والكلام. وعندما ركزت بعض الأعمال على مشاهد العنف الأسرى، أصبحت هذه الظواهر أكثر تقبلًا لدى بعض الفئات. هذا يعنى أن الدراما لم تعد مجرد انعكاس للمجتمع، بل أصبحت عاملًا مؤثرًا فى تشكيل وعى الأفراد وسلوكهم.
كيف يمكن تصحيح المسار؟
إذا كانت الدراما تملك القدرة على التأثير، فمن الضرورى إعادة توجيهها بحيث تقدم محتوى يوازن بين الواقعية والقيم الأخلاقية. يمكن تحقيق ذلك من خلال:
• إنتاج أعمال تتناول القضايا المجتمعية بأسلوب هادف، دون ترويج للعنف أو الانحلال.
• إعادة تقديم الشخصيات الإيجابية التى تشكل قدوة للشباب، سواء فى مجال العمل، أو التعليم، أو العلاقات الإنسانية.
• مراعاة اللغة المستخدمة فى الحوارات الدرامية، والابتعاد عن الألفاظ السوقية التى تسيء إلى الذوق العام.
• إعادة إحياء روح الدراما الأسرية، التى تناقش قضايا العائلة والمجتمع بأسلوب بناء، كما كان الحال فى أعمال، مثل "لن أعيش فى جلباب أبي" و"يوميات ونيس".
ختامًا:
الدراما ليست مجرد تسلية، بل هى وسيلة قوية للتأثير والتغيير. وبينما كانت المسلسلات قديمًا تقدم نماذج إيجابية تعزز القيم المجتمعية، أصبحت فى كثير من الأحيان تروج لأنماط سلوكية غير مألوفة. لذا، فإن مسئولية صناع الدراما والجمهور معًا هى إعادة التوازن لهذا الفن، بحيث يصبح أداة للإصلاح الاجتماعى، وليس مجرد وسيلة لجذب المشاهدات على حساب القيم.