حلت منذ أيام الذكرى الثالثة والعشرون لتأسيس الاتحاد المغاربي الذي ضم الدول العربية في شمال إفريقيا عدا مصر. كان مجلس التعاون العربي الذي تكون من العراق ومصر والأردن واليمن قد أُسِّسَ بدوره في اليوم السابق على تأسيس الاتحاد المغاربي، وبإضافة الاثنين إلى مجلس التعاون لدول الخليج العربية الذي تأسس عام1981 وضم الدول الملكية الست في منطقة الخليج بدا وكأن النظام العربي الذي أخفق في تحقيق التكامل بين أعضائه قد اختار طريق التجمعات الفرعية بديلاً. وكان مجلس التعاون الخليجي هو البادئ، وعلى رغم أن ثمة هواجس أمنية حقيقية مهدت لتأسيسه فإنه قد قوبل في حينه من دوائر عربية عديدة بشيء من الاندهاش أو حتى الامتعاض، حيث اعتبرت هذه الدوائر المجلس بداية لعزلة أعضائه عن السياق العربي العام. ثم مر عقد الثمانينيات إلى أن وصلنا إلى آخر سنواته التي شهدت في يومين متتاليين في فبراير1989 تأسيس مجلس التعاون العربي والاتحاد المغاربي، وبدا أن التجمعات الفرعية قد باتت تشكل "نداء المستقبل".
وقد تمسك البعض على رغم ذلك بنظرته السلبية إلى ظاهرة التجمعات الفرعية على أساس أنها تمزق الوطن العربي، ونسي هؤلاء أن معظم تجارب التكامل الإقليمي خارج الوطن العربي قد بدأت على هذا النحو: تجمعات فرعية يعقبها إطار جماعي (حالة منظمة الوحدة الأفريقية 1963)، ولكن المشكلة لم تكن "تمزيق" الوطن العربي، فلم يكن آنذاك موحداً حتى نتحدث عن تمزيقه، بل إن نجاح التجمعات الفرعية في خلق تكتلات قوية كان من شأنه أن ينعكس بالإيجاب على النظام العربي. غير أن المشكلة الحقيقية تمثلت في أن تلك التجمعات (باستثناء مجلس التعاون الخليجي) كانت تضم داخلها شتاتاً من الدول ذات نظم الحكم والأهداف المختلفة، وبعضها (كالاتحاد المغاربي) كان يواجه مشكلات حقيقية في العلاقة بين أهم عضوين فيه وهما الجزائر والمغرب، والأخطر أن هذه المشكلات كانت تتعلق بمواقف متضاربة من قضايا إقليمية وأمنية.
ولهذه الاعتبارات انفجر مجلس التعاون العربي بعد أقل من سنة ونصف السنة على تأسيسه بسبب تضارب السياستين العراقية والمصرية من الغزو العراقي للكويت 1990، ولو كان المجلس يملك مقومات حقيقية للبقاء لحافظ على وجوده بأعضائه الثلاثة المتبقين بعد خروج مصر منه. وكان نصيب الاتحاد المغاربي أقل وطأة، فجُمِدَ عمل مؤسساته منذ عام 1994، ولم يعد موجوداً من الناحية الفعلية خاصة على ضوء استمرار الخلاف حول مستقبل الصحراء بين الجزائر والمغرب، والاتهامات المغربية للجزائر بمشاركة جزائريين في العملية الإرهابية التي طالت المغرب في 1994، وما تلاها من إغلاق الحدود بين البلدين. ولم ينجُ من هذا المصير سوى مجلس التعاون الخليجي ربما بسبب تشابه أنظمته سياسيّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً وإلى حد كبير اقتصاديّاً، وإن كان قد عانى -على رغم انتظام عمل مؤسساته- من عدم الفاعلية وكذلك بعض الخلافات بين أعضائه في السياسات الخارجية وبعض قضايا التكامل الاقتصادي.
هبت الأحداث العربية في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، وكان ضروريّاً أن تكون لهذه التطورات الجذرية تأثيراتها على النظام العربي، وقد رأينا أولى هذه التأثيرات بالنسبة لموضوعنا في مبادرة العاهل السعودي في آخر قمة خليجية بالدعوة إلى تحويل المجلس إلى اتحاد، وهي دعوة كانت لها أصداؤها الإيجابية خليجيّاً وعربيّاً، وإن كنا سنتتبع اعتباراً من الشهر القادم ما ستسفر عنه دراسة المبادرة من قبل اللجنة التي شكلها المجلس. ثم جاء التطور الثاني بمبادرة الرئيس التونسي بالدعوة إلى تفعيل الاتحاد المغاربي، وهي مبادرة توافرت لها سمات الجدية الواضحة، فقد بدأ أثناء زيارته لليبيا في أوائل الشهر الماضي بالحديث عن اندماج تونسي- ليبي، وعن اتحاد للشعوب العربية المستقلة، وعن تفعيل الاتحاد المغاربي، ثم أتبع القول بالفعل، فقام بجولة مغاربية شملت كل أعضاء الاتحاد، ورفع شعار ضرورة عقد قمة مغاربية في هذا العام للمرة الأولى منذ 1994، وأعلن حصوله على موافقة كافة قادة المغرب العربي على انعقاد هذه القمة التي ستستضيفها تونس. ثم تبع ذلك انعقاد مجلس وزراء خارجية الاتحاد المغاربي في ذكرى تأسيسه، وكان واضحاً أن ثمة اتفاقاً على تفعيل الاتحاد، وإن كان قد اتضح بالقدر نفسه اختلاف مناهج الدول الأعضاء بِشأن تحقيق هذه الغاية. وعلى هامش اجتماع المجلس اجتمع وزيرا خارجية المغرب والجزائر، وأعربا عن ثقة بلديهما في تحريك الاتحاد على ضوء التغيرات الكبرى التي تشهدها المنطقة.
ولاشك أن هذه التطورات قد أحيت الأمل في بعث الحياة في الاتحاد المغاربي، ولكن هذا الأمل يجب أن يبقى حذراً، ويجب أن يكون المتحمسون له على بينة من الصعاب الحقيقية التي تعترض تحقيقه. هناك أولاً استمرار الخلاف المغربي- الجزائري حول قضية الصحراء، ويلاحظ أن كل التطورات الإيجابية السابقة لم تتناول هذا الخلاف من قريب أو بعيد باعتراف طرفيه نفسيهما، وهي قضية بالغة المحورية والتعقد لأنها تتعلق بالتنافس بين أكبر دولتين في الاتحاد وتوازنات القوى في منطقة المغرب العربي، وعلى رغم تعقد القضية فإن مقاربتها مغاربيّاً تمهيداً لحلها واجبة، حيث سيبقى ذلك الخلاف مهدِداً لمسيرة الاتحاد، ولن يجدي حديث الرئيس التونسي عن الالتفاف حول الجدار (أي النزاع حول الصحراء) وليس الاصطدام به، ولذلك نجد أن المسؤولين في البلدين مع تأييدهم فكرة تفعيل الاتحاد حريصون على صياغة هذا التأييد في عبارات شديدة الحذر، فالرئيس الجزائري يتحدث عن "نهج واقعي تدرجي" في هذا الصدد، والمغرب يتبنى في اجتماع مجلس وزراء خارجية الاتحاد فكرة إقامة منطقة حرة بين أعضائه، وكلها أشياء طبيعية، لكن قضية الصحراء ستبقى كما سبقت الإشارة قنبلة موقوتة في طريق الاتحاد، وربما كانت قضية فتح الحدود بين البلدين أيسر بكثير من قضية الصحراء، لكن فتح الحدود لا يعالج الأضرار المتوقعة لو تفجرت قضية الصحراء لا قدر الله.
ومن ناحية ثانية يجب ألا ننسى أن الأوضاع لم تستقر بعد في المغرب العربي، فما زال مستقبل ليبيا يثير علامات استفهام كثيرة، بل إن البناء التونسي الجديد لم تكتمل صورته بعد على رغم ما قطعته تونس من خطوات واثقة في هذا الصدد، ولا أحد يستطيع الجزم بنتائج الانتخابات التشريعية الجزائرية في مايو القادم (هل تسفر عن دور مهيمن للإسلاميين في الحكم أم أنها ستكرس تركيبته الحالية بما يفتح الباب لاحتمالات كثيرة؟)، وكذلك مازالت العلاقات التونسية- الليبية تعاني من آثار الثورة الليبية، فعلى سبيل المثال فإنه قبل زيارة الرئيس التونسي ليبيا بأيام قليلة حدث اشتباك بين دورية حدودية تونسية وعناصر ليبية مسلحة حاولت التسلل إلى تونس، بالإضافة إلى مشكلة وجود رموز مهمة من النظام الليبي السابق على الأراضي التونسية، الأمر الذي يعكر صفو العلاقات بين البلدين، والأمر نفسه موجود في حالة العلاقات الليبية- الجزائرية ولأسباب مشابهة.
ويعني ما سبق أن من حقنا أن نتفاءل بمبادرة الرئيس التونسي والاستجابات المغاربية الرسمية لها على أعلى المستويات، لكن الخطاب السياسي لا ينبغي أن يخفي عن أعيننا حقيقة الصعاب التي تواجه تنفيذ هذه المبادرة التي نتمنى لها التوفيق تماماً، كما نتمنى نجاح مبادرة العاهل السعودي في مجلس التعاون الخليجي.
-------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الثلاثاء 21 فبراير 2012