أصبح من المؤكد أن الاحتلال الإسرائيلي لن ينفذ أي انسحاب كامل من جنوب لبنان قريبًا، خاصة بعد التصريحات الرسمية التي أدلى بها وزير خارجية الاحتلال - المتطرف- جدعون ساعر، وإعلان تل أبيب البقاء في خمس نقاط رئيسية على طول الحدود اللبنانية دون الإشارة لجدول زمني واضح للانسحاب.
قرار تل أبيب وتصريحات "ساعر" تعكس توجهًا إسرائيليًا للاحتفاظ بمواقع استراتيجية داخل الأراضي اللبنانية، في خطوة تحمل أبعادًا عسكرية وأمنية تهدف لتعزيز السيطرة الميدانية أو فرض شروط مستقبلية في أي تسوية مع لبنان أو "حزب الله"، في وقت تتصاعد فيه التوترات في المنطقة، وهو ما يثير تساؤلات حول نوايا الاحتلال الحقيقية تجاه لبنان، فهذه ليست المرة الأولى التي تعتمد فيها إسرائيل على استراتيجيات مماثلة، فقد حدث سابقًا عندما احتلت مناطق في الجنوب اللبناني لعقود قبل أن تنسحب منها في عام 2000 تحت ضغوط عمليات عسكرية لـ "حزب الله"، لكن يبدو أن حسابات الاحتلال مختلفة هذه المرة، خاصة وأن الأوضاع الإقليمية متغيرة.
"ساعر" أكد على أهمية استمرار السيطرة على هذه النقاط الخمسة كونها تشكل ضرورة استراتيجية لضمان أمن إسرائيل، رغم انتهاء المهلة الممنوحة للاحتلال للانسحاب من جنوب لبنان، في 18 فبراير الجاري، بحسب اتفاق وقف إطلاق النار بين الاحتلال و حزب الله، كما أوضح في مؤتمر صحفي أن الاحتفاظ بهذه المناطق مرتبط بالتزامات لبنان، وقال : لن يكون هناك حاجة للإبقاء على المناطق الخمسة إذا أوفى لبنان بالتزاماته الواردة في الاتفاق.
الرئيس اللبناني، العماد جوزيف عون، أعلن في بيان رسمي، أن لبنان مستمر في جهوده الدبلوماسية لاستكمال عملية انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من الجنوب، مشددًا على أن السلطات اللبنانية تبذل كل جهودها لضمان تنفيذ الانسحاب الكامل، وذلك بما يتماشى مع القرارات الدولية.
إسرائيل تواصل تبرير استمرار وجود قواتها العسكرية في جنوب لبنان مستندة إلى عوامل قد تعيق انسحابها الكامل، وتحاول فرض واقع جديد عبر تمركزها في المناطق الاستراتيجية الخمس وهى تلة اللبونة، جبل بلاط، تلة العويضة، تلة العزية، والحمامص، وبدأت في بناء منشآت ومرافق مخصصة للاستخدام العسكري، وهو مايعزز استمرارها، فهى منذ عام 2000 وهى تتبع سياسات حذرة فيما يتعلق بالانسحاب من المناطق الحدودية.
المناطق اللبنانية الخمس بالتفصيل، تلة اللبونة وتبعد عن الخط الأزرق 300 متر، وتقع عند أطراف بلدة علما الشعب في القطاع الغربي، وتتميز بأهميتها الاستراتيجية، فهى قريبة من الناحية الغربية من بوابة الناقورة مقر قيادة قوات اليونيفيل، و في الشمال مخيمي الرشيدية والبص للفلسطينيين في صور، وشرقًا على الأودية والبساتين القريبة من علما الشعب، بينما جنوبًا فهى قريبة من مستوطنات كروش هنيكراه، وشلومي، وحانيتا، وجبل بلاط، ويقع بين بلدتي مروحين وراميا في القطاع الأوسط، ويبعد 800 متر عن الخط الأزرق. ويتمتع بإطلالة واسعة على القطاع الأوسط ووادي عيتا الشعب، وجنوبًا فهى قريبة من مستوطنات شتولا، وشمرا، وزرعيت، وفي القطاع الشرقي، تقع تلة النبي عويضة بين كفركلا والعديسة، على بعد كيلو متر واحد من الخط الأزرق، وتطل هذه التلة على وادي السلوقي ووادي الحجير غربًا، كما ترى قطاع جنوب الليطاني و قريبة من مستوطنات الجليل، ومسكاف عام، والمطلّة، ويفتاح، أما تلة العزية، تبعد 2 كيلومتر عن الخط الأزرق، وتقع فوق بلدة دير ميماس وتطل مباشرة على مجرى نهر الليطاني، ومن الشرق فهى قريبة من سهل الخيام، وتلة الحمامص، والتي شهدت معارك عنيفة خلال الحرب بين جيش الاحتلال الإسرائيلي وحزب الله، تتوسط بين سهل مرجعيون ومزرعة سردة، وتطل على بلدة الخيام، وقريبة من مستوطنة المطلّة، وتبعد هذه التلة عن الخط الأزرق كيلومترًا واحدًا.
وترى تل أبيب أن الانسحاب الكامل من جنوب لبنان قد يمنح "حزب الله" فرصة لتعزيز تموضعه العسكري على الحدود معها، وهو مايجعل الجبهة الشمالية أكثر خطورة، لذا فإن الاحتلال الإسرائيلي يسعى لتعزيز وجوده العسكري في بعض المناطق الحدودية لضمان "الأمن الاستراتيجي"، فوجود قوات الاحتلال في هذه المنطقة يتيح - بحسب الرؤية الإسرائيلية- قدرة أكبر على مراقبة التحركات داخل الأراضي اللبنانية، وفي هذه الحالة يمكن استباق أي تهديد محتمل، كما أن استمرار العمليات العسكرية يستنزف "حزب الله" ويجعله فى نقطة دفاعية بشكل دائم، ويبرر الاحتلال هذا التوجه برغبته في حماية المستوطنات الشمالية في كريات شمونة، ومنطقة الجليل، ومنذ عام 2000، ورغم انسحاب الاحتلال من جنوب لبنان، واصلت تل أبيب تنفيذ عمليات عسكرية دورية على الحدود، لتقويض قدرات "حزب الله" ومنع استخدام الجنوب كقاعدة لهجمات مستقبلية.
ومنذ اندلاع الحرب في غزة 2023، شهدت الجبهة الشمالية تصعيدًا ملحوظًا في المواجهات بين الاحتلال وحزب الله، وازدادت الضربات المتبادلة حتى اجتاحت قوات الاحتلال جنوب لبنان، وحمل المحللون مسؤولية هذا التصعيد لـ "حزب الله" خاصة بعد عملياته ضد الاحتلال ردًا على مايحدث في غزة.
خيارات "حزب الله" ليست سهلة مع بقاء جيش الاحتلال في الجنوب، خاصة و أن تل أبيب متمسكة بالبقاء فى المناطق الخمس، فرئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو مُصر على التخلص من الحزب وخنقه ومنعه من إعادة بناء قدراته، وفي الحقيقة فإن "حزب الله" يجد في هذا الإصرار مبررًا لاستمرار المواجهة مع الاحتلال، و استمرار الضربات الموجهة للشمال، لكن سيواجه ضغوطًا كبيرة للالتزام بتطبيق القرار 1701، “الحزب” يسعى من خلال حشده الشعبي إلى إرسال رسائل عدة إلى العالم، منها أنه لايزال قوة رئيسية على الساحة اللبنانية، ويتمتع بنفوذ واسع، وحضوره السياسي والعسكري واقع على الأرض، فالأمين العام للحزب، نعيم قاسم، شدد على ضرورة أن تتخذ الدولة اللبنانية موقفًا واضحًا وحاسمًا بشأن الجنوب، لافتًا إلى أنه لا مبرر لاستمرار الوجود الإسرائيلي هناك، في إشارة واضحة إلى أن مسؤولية التعامل مع المحتل تقع على عاتق الدولة اللبنانية.
وفي الوقت الحالي، لم يعد ينظر لـ "حزب الله" باعتباره الممثل الوحيد للمقاومة ضد الاحتلال، و قد يؤدي ذلك لظهور فصائل جديدة، وقد تنشط بعض من الفصائل الفلسطينية من اللاجئين الفلسطينيين الموجودين في لبنان، و في هذا التوقيت بالتحديد، كما قد تشهد "ساحة المقاومة" ظهور عناصر شيعية مستقلة و غير مرتبطة بالحزب وتكون "مقاومة مستقلة" تعبيرًا عن موقفها السياسي أو استجابة للتحولات التي قد تطرأ على المشهد في الشرق الأوسط.
"حزب الله" قد يستغل الوضع القائم لتعزيز نفوذه عبر دعم "المقاومة المستقلة"، وسيتبع استراتيجيات مرنة وسيتبنى مرجعيات متنوعة، وسيدعم فصائل فلسطينية ناشئة بهدف تقليل الضغوط الدولية، لكن المزعج في هذا الطرح هو أن مغامرة "حزب الله" مخاطرة غير محسوبة، فقد تخرج بعض الفصائل المقاومة عن السيطرة مما يخلق تحديات أمنية في المستقبل.
وعلى الجبهة الأخرى، فإن الانسحاب الإسرائيلي غير المكتمل سيضع حزب الله أمام معضلة معقدة، حيث سيكون عليه التوفيق بين استمراره في "المقاومة" للحفاظ على شرعيته الشعبية، وبين ضرورة ضبط التصعيد لتجنب تداعيات الضغوط الداخلية والخارجية.
وفي الحقيقة، فإنه لايمكن التعامل مع مرحلة ما بعد الحرب كما قبلها، فنتائج ما حدث في 7 أكتوبر أحدثت اختلالًا جوهريًا في موازين القوى، و "حزب الله" يعرف جيدًا أن الأوضاع لن تعود كما كانت بعد 2006، فبات من المستحيل إعادة تسليح أو تنظيم أي فصيل لتنفيذ عمليات عسكرية، وهو الأمر الذي سيستغله الاحتلال و الاستمرار فى احتلاله جنوب لبنان للسيطرة على "الليطاني" شمالًَا وجنوبًا.
الجيش اللبناني - كما تؤكد الأنباء الواردة يوميًا- يحرز تقدمًا ملحوظًا في السيطرة على هذه المنطقة، فهو يحاول تفكيك بنية "حزب الله" العسكرية، واستكمال هذه المهمة جنوب الليطاني سيعزز من جاهزية الجيش لتسلم الخط الأزرق بالكامل، مما يسهم في إنهاء الاحتلال الجديد، أما في الشمال فمن الصعب على "حزب الله" فرض السيطرة عليه، والسيطرة وحدها ستكون بيد الدولة اللبنانية.