مقالات رأى

من سهوة الاكتفاء إلى شهوة الشراء وهدر الغذاء!

طباعة

        يهل علينا الشهر الكريم بنفحاته العطرة، وتتضرع الأَكُف كل عام سائلة المولى بأن يهله علينا باحتواء كل غريب، وتدفئة كل بردان، وإطعام كل جوعان، يقيناً في رحمة الله قبل عدله، فهو إن عاملنا بعدله، فقدنا ما تبقى من رحمته عز وجل وهو الذي خزائنه لا تنفد ورحمته لا تفنى.

        فالأمر آله ومآله من فعل البشر وسوء صنيعتهم، ولا عجب طالما أنهم يستقبلون رمضان ومن بعده القبلة ويكبرون في المآذن "الله أكبر الله أكبر"، وبينهم آكل حقوق اليتيم، وسارق ميراث إخوته، ومسرف هادر نِعَم الله، وكلهم يفترشون سجادة الصلاة نفسها التي تبتل لحاهم وجلابيبهم عليها، ورغماً عن ذلك، لا يجعلون من فكرة مراجعة النفس مجالاً للتذكِرَة.

        فآفة شهوة الشراء وبالأخص بمناسبة شهر رمضان، التي بطبيعة الحال وفي الأغلب والأعم تُستَتبَع بإسراف في إعداد الطعام ومن ثم فمصيره إلى صفائح القمامة بكل أسف، وفقاً للعادات والتقاليد البغيضة التي ترى في تجنيب الأكل الصالح وإعادة استخدامه أمراً معيباً أو يعكس بخل شخصية أهل البيت أو أصحاب الدعوة.

        وسواء كان الأمر متعلقا بالمهتمين بالناحية الاقتصادية، أو الاجتماعية، أو الدينية، فأرقام الفوائض من الموائد والهدر منها هي أرقام مفزعة ومؤلمة، لأن كل الأرقام والإحصائيات كفيلة بأن تطعم سكان الأرض من الجوعى،  والمحتاجين، وضحايا الحروب، والمجاعات، والأزمات الاقتصادية، هذا بالرغم من كل المحاولات الرسمية والفردية والجماعية غير الرسمية التي تسعى إلى "صون النعمة" أو "حفظ النعمة" كما يسمون مبادراتهم.

        وللباحثين الجديين وراء تفاصيل الأرقام والإحصائيات وتحليل أسبابها ونتائجها، فإليكم بعضاً منها، فهدر الطعام كظاهرة سلبية أو آفة مجتمعية تُعَرِّفه منظمة الأغذية والزراعة على أنه طعام يتم التخلص منه أو يتم فقدانه دون أن يكون قد تم تناوله،ويفيد مؤشر الأغذية المهدرة في برنامج الأمم المتحدة للبيئة أن 900 مليون طن من الطعام تُرمىَ في النفايات عبر العالم سنوياً.

مشيراً إلى أن هذه الكمية من الأغذية يمكنها أن تملأ 23 مليون شاحنة وزن 40 طناً، ولو اصطفت طولاً لأحاطت بالأرض سبع مرات، وذكر التقرير أن 17% من الأغذية المعدة للاستهلاك في المتاجر والبيوت والمطاعم مآلها إلى صناديق النفايات، مبيناً أن نسبة 60% من تلك الأغذية المهدرة مصدرها البيوت.

وتعتلي منطقة دول الخليج بالطبع قمة قائمة الدول الأكثر هدراً للطعام في العالم، ذلك رغماً عن قلة عدد السكان مقارنة بدول عالية الكثافة السكانية قليلة الموارد، وأشار التقرير أيضاً إلى كمية ما تهدره الدول الخليجية من الطعام سنوياً، والتي على الرغم من أنها شهدت تراجعاً اقتصادياً منذ أعوام بسبب انخفاض أسعار النفط، وما تلاها من تأثيرات جائحة كورونا، لكنها لا تزال تسجل نسباً عالية في هدر الطعام عالمياً.

ويتراوح إجمالي الطعام المُهدر ما بين ثلث ونصف الأغذية المنتجة، ويقع هدر وفقدان الطعام في جميع مراحل سلسلة الإمداد الغذائي وسلسلة القيمة، وتحدث معظم الخسائر أثناء الإنتاج في البلدان محدودة الدخل، بينما في البلدان المتطورة يُهدر الكثير من الطعام في مرحلة الاستهلاك، ويذهب الطعام المهدر إلى مدافن النفايات أو يُعاد إلى سلسلة الإمدادات الغذائية، أو يوضع في استخدامات أخرى غير منتجة للطعام.

وكانت تلك العادات وراء تصدرها نسب الإهدار عالمياً، حيث تأتي المملكة العربية السعودية في صدارة دول العالم بهدر الطعام، وفق ما ذكرت دراسة سابقة أعدتها مجلة "ذي إيكونوميست" البريطانية، حيث إنر نسبة هدر الغذاء في المملكة تبلغ أكثر من 33%، أي نحو 8 ملايين طن سنوياً.

لكن تقديرات أوردتها الهيئة العامة للإحصاء السعودية رفعت تقدير حجم ما يهدره المواطن السعودي سنوياً إلى 427 كيلوجراماً من الطعام، وتكلف فاتورة الهدر الغذائي في المملكة 50 مليار ريال سنوياً (نحو 13 مليار دولار)، وفق تقديرات صادرة عن وزارة البيئة والمياه والزراعة السعودية.

وتعتبر الإمارات من بين الدول التي تتصدر العالم في هدر الطاعم حيث تأتي ثانياً بعد السعودية خليجياً، وتهدر سنوياً من الطعام ما تتجاوز قيمته الـ10 مليارات درهم (2.7 مليار دولار)، ويهدر الفرد الواحد ما يوازي الـ 179 كيلو جراماً من الطعام سنوياً.

وتسجل الكويت أيضاً هدراً في الغذاء يقدر بنحو مليون و528 طناً سنوياً، أما في البحرين فيبلغ حجم الهدر اليومي للطعام نحو 400 طن، بما يعادل 146 ألف طن سنوياً، وتبلغ قيمة هذا الهدر 95 مليون دينار (نحو 251 مليون دولار)، ، وتبلغ كمية الطعام المهدر سنوياً في قطر 1.4 مليون طن، وفي سلطنة عُمان تفيد الإحصائيات بأن قيمة الغذاء المهدر تبلغ 300 مليون دولار سنوياً.

قدرت إحصائيات سابقة معدلات هدر الطعام خلال شهر رمضان بـ30% من إجمالي الهدر خلال العام بأكمله، وتبلغ كمية هدر الطعام يومياً في شهر رمضان نحو 600 طن، وتؤكد الدراسات أن ما يزيد على 50% من وجبات الإفطار في رمضان يكون مصيرها النفايات.

ويقابل هذا الهدر في رمضان وغيره، وجود 795 مليون جائع في العالم، بحسب أحدث تقرير نشرته منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة "فـاو"، وتشير تقديرات المنظمة إلى هدر مليار و300 مليون طن من الأغذية سنوياً، وفي المقابل فإن شخصاً واحداً من بين كل سبعة أشخاص في العالم ينام جائعاً، وأن نحو 20 ألف طفل دون سن الخامسة يموتون كل يوم من الجوع.

وفي مصر، تشير تقديرات حكومية إلى أن تكلفة "موائد الرحمن"، على مستوى مدن الجمهورية الرئيسية، تبلغ نحو نصف مليار جنيه، وتشمل أكثر من 13 ألف مائدة، يتردد عليها قرابة مليوني شخص، والأعداد بالطبع في تزايد سنوياً طبقاً للزيادة السكانية وزيادة أعداد الوافدين من دول مجاورة، ومع ذلك فعادة ما يفيض عن هذه الموائد كميات كبيرة من الأطعمة، التي لا تصل إلى كثير من الفقراء والمستحقين داخل البلاد، رغم جهود الجمعيات الخيرية والمتطوعين، في جمع وإعادة توزيع هذه الفوائض.

وعلى صعيد آخر، فقد أطلق برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة تقريراً شمل توقعاته العالمية لعام 2025، أشار فيه إلى أن 343 مليون شخص في 74 دولة يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 10% مقارنة بالعام الماضي،وتعد هذه الأرقام قريبة من الرقم القياسي الذي تم تسجيله خلال فترة الجائحة.

وبالرغم من ذلك، فقد أدى نقص التمويل في عام 2024 إلى إجبار برنامج الأغذية العالمي على تقليص أنشطته، الأمر الذي أثر بشكل كبير على بعض الفئات الأكثر ضعفاً في مناطق مختلفة،حيث أشار تقرير الأمم المتحدة إلى أن 1.9 مليون شخص على شفا المجاعة، في حين أن هناك أعداداً ضخمة من الأشخاص الذين يواجهون الجوع الكارثي في مناطق مثل غزة والسودان وجنوب السودان وهايتي ومالي.

وفي ظل هذه الظروف، ومع استمرار الأزمات العالمية، يواصل البرنامج تحديد الأولويات، وتكييف استجاباته وفقاً للاحتياجات الخاصة بكل بلد، مع التركيز على تقديم برامج إنسانية عالية الجودة، حيث يحتاج برنامج الأغذية العالمي إلى 16.9 مليار دولار أمريكي لمساعدة 123 مليون شخص من الأكثر جوعاً في عام 2025،وهي ميزانية توازي تقريباً ما ينفقه العالم على القهوة في أسبوعين فقط، ما بالك بميزانيات إعداد موائد رمضان، والفائض منها، والمهدر منها.

كلها أرقام وإحصائيات وتوازنات مختلة تحتاج إلى وقفة حقيقية وإرادة رسمية تعكسها النوايا الجادة للدول، لا مجرد مبادرات تُطلَق من ناحية، ونِسَب استهلاك وإهدار تتزايد من ناحية أخرى، تدلل على الخلل الحقيقي في العقول والبطون التي اعتادت الامتلاء دون الاحتياج، والهدر دون إيلاء الأهمية ولا الوعي الحقيقي بحجم ما يمثله هذا الهدر -من اللقيمات والسوائل- من ثروات هائلة قد تنجح في إنقاذ الملايين من الأرواح الجائعة حول العالم.

فالأصل في الطعام أنه لبناء الجسم وتعويض ما يندثر من أنسجته، وتقديم القدرة الكافية التي تستنفد في الحفاظ على حرارة الجسم، و في قيام أجهزته بأعماله، والاعتدال في أي أمر هو أسمى درجاته، والاعتدال في أمر الطعام والشراب هو المقصد الذي ذهبت إليه الآية الكريمة( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ) ففي هذه الآية دعوة للإنسان إلى الطعام والشرب، ثم يأتي النهي والتحذير مباشرة عن الإفراط في ذلك.

        أفلا يعقلون، أفلا يتدبرون، أفلا يتفكرون ....

طباعة

    تعريف الكاتب

    مها محسن

    مها محسن

    كاتبة مصرية