مصر التى صنعها الخالق فأحسن صنعها ووصفها، وقامت هى بعد كل كبوة فصممت وصنّعت فأبدعت وأحسنت الصنع والوصف، هى ذاتها التى ذاع صيتها فى ربوع الداخل والخارج بعجيب الصنع، ومال غصنها وترنح حتى وإن مالت عادت وانتصبت البوصلة، فها هو الشهر الكريم الذى يهل علينا بنفحاته الكريمة، وطقوسه العطرة فى مصرنا المحروسة، وفى كل مرة تطل عليه بأحسن أثوابها احتفالا بقدومه، ومن هذا المنطلق نتعرض فيما يلى لأحسن ما تبدع أيادى الكنانة فى صنعه:
الخياميـــة المصرية:
الخيامية هى فن مصرى أصيل، تم اشتقاق المصطلح من كلمة "خيام"، وهى صناعة الأقمشة الملونة التى تستخدم فى عمل السرادقات، وربما يمتد تاريخ هذه المهنة إلى العصر المصرى القديم، ولكنها بالتأكيد أصبحت أكثر ازدهارا فى العصر الإسلامى، ولا سيما فى العصر المملوكى.
وقد كانت الخيامية ترتبط قديما بكسوة الكعبة المزينة بخيوط الذهب والفضة، والتى كانت تقوم مصر بتصنيعها حتى فترة ستينيات القرن الماضى وإرسالها للحجاز فى موكب مهيب يعرف باسم المحمل، وتوجد هذه الحرفة بكثرة فى شارع الخيامية بالقرب من باب زويلة -آخر شارع الغورية فى القاهرة.
وساهمت صناعة الخيامية فى زخرفة كسوة الكعبة المشرفة، وأنشأت مصر أول مؤسسة لذلك وأسمتها إدارة الكسوة، وهى موجودة فى منطقة تحت الربع -باب الخلق– القاهرة، وكانت الكسوة تُحْمَل على الجِمال فى احتفالية كبيرة مهيبة من مصر إلى السعودية فى موسم الحج، والخيامية هى أحد أشهر أسواق القاهرة التاريخية بحى باب الخلق، بها زخارف مصنعة من قماش الخيام تزين جنبات المكان قام بها فنانون مهرة فى هذه الصناعة التى تتوارثها الأجيال وتقوم بها ورش تخصصت فى هذا النوع من التراث الفنى العريق.
تبدأ الخيامية برسم التصميم الذى سيتم تنفيذه على القماش وغالبا ما يستخدم قماش "التـيل" لأنه سميك، ثم يقوم بتخريم الرسم وتوضع بودرة مخصصة لطبع الرسم على القماش حتى يقوم الفنان بعملية التطريز، إذ يقوم الفنان بقص وحدات القماش وتطريزها مع بعضها البعض، وقد يقوم الصانعون بعمل ما يسمى "تفسير" وهو عبارة عن حياكة خيوط فوق القماش وذلك لعمل الملامح إذا كان التصميم عبارة عن منظر طبيعي، وذلك لإضفاء روح على التصميم وغالبا ما تكون التصميمات إما فرعونية أو إسلامية، هذا بالإضافة إلى الآيات القرآنية والمناظر الطبيعية.
وأمام باب زويلة بالقرب من منطقة "تحت الربع" يقع شارع الخيامية نفسه، وهو أحد أشهر أسواق القاهرة المسقوفة بألواح خشبية مغطى بالزخارف المصنعة من أقمشة الخيام، والذى يقع على امتداد شارع المعز وقد سمى بهذا الإسم نسبة لتلك الحرفة التى كانت مزدهرة جدا فى العهود القديمة، فما أن تدخل ذلك الشارع حتى تجد على جنباته مجموعة من الورش التى تخصصت قى هذا النوع من التراث الفنى العريق.
وهذا الشارع موجود منذ عهد الفاطميين ويتكون من طابقين، وقد كان باب زويلة يغلق ليلا ويفتح فى النهار، وكان يسمح للتجار بالدخول صباحا لمباشرة أعمالهم، وأماكن الورش التى توجد فيها الآن كانت قديما اسطبلا للخيول، والطابق الذى يعلوه كان أماكن لمبيت التجار الذين يأتون من المغرب والشام، وقد كان لهؤلاء التجار خيام يستخدمونها فى سفرهم، وكانوا يعملون على إصلاحها فى تلك المنطقة، كما كان يحرص كل منهم أن تختلف خيمته عن الخيام الأخرى، ومن هنا بدأت مهنة الخيامية.
وتعتبر " الخيامية " من المظاهر الرمضانية الأساسية فى مصر، فما أن يحل شهر الصيام حتى تزدهر الحركة فى شارع الخيامية استعدادا للطلب على الأقمشة المزينة لاستخدامها فى الخيم الرمضانية، وفى سرادقات موائد الرحمن، وفى عروض التنورة، وفى واجهات المحلات والمطاعم، أما باقى أشهر السنة فتقتصر الخيامية على الاستخدام فى سرادقات العزاء والأفراح والدعاية الانتخابية.
وقديما كانت هناك طقوس خاصة لاعتماد أى حرفى خيامى جديد ينضم لتلك الطائفة، حيث كان يتم اجتماع الخيامية وشيخهم لرؤية وفحص أعمال الخيامى الجديد، فإذا كانت على المستوى المطلوب يقيم الحرفى مأدبة اعتماد لجميع الخيامية للاحتفال بانضمامه للمهنة.
التلـى المصرى:
يتم صناعته بشكل أساسى فى محافظة أسيوط – مركز شندويل، وذلك من خلال إبرة وشرائط ذهب أو فضة، ونسيج شبكى أسود أو عاجى اللون،فهذا هو كل ما تحتاجه المرأة الأسيوطة المصرية لتزيين الطرح والشالات والأثواب التى تفتن الناظرين إليها بموتيفات تعيد الأسطورة إلى الحياة.
فى مصر ارتدت عدة شخصيات نسائية متميزة ملابس التول بالتلى أو التلى الأسيوطى، منهن الممثلات والملكات، فارتدت ملكة جمال الكون المصرية شارلوت واصف ثوب تلى فى المسابقة الرسمية عام 1934، مثلما ارتدت ملكة مصر نازلى زوجة الملك فؤاد الأول تلى أسيوطى.
يُرجِع البعض اسم التلى إلى النسيج الفرنسى التولTulle والتولهو شبكة خفيفة الوزن، ناعمة جدا وصلبة، وتولTulle هو اسم مدينة تقع فى المنطقة الجنوبية الوسطى من فرنسا اشتهرت بإنتاج الدانتيل والحرير فى القرن الـ18 الميلادي، وكانت خيوط قماش التول -سواء كانت من الحرير أو من خامات أخرى- تحاك بطريقة محددة فتبدو الفراغات السداسية الشكل وكأنها قرص عسل، وربما عرف الإغريق التول قبل الفرنسيين، ذلك أنهم كانوا يرتدون عباءات مصنوعة من أقمشة شفافة بترتيب زهر البرتقال.
عرف أن التلى المصرى كان يطرز فى القرن الـ18 على أقمشة حريرية أو قطنية، ونظرا لصعوبة الشغل عليهما فقد كانت المساحات المشغولة محدودة، لكن مع بداية مكننة صناعة النسيج فى مصر، بين منتصف القرن الـ19 والربع الأول من القرن الـ20 عُرِفَ قماش الشبك القطنى أو ”التل“، ليصبح الخامة الأساسية فى فن التلى.
والإبرة التى تستخدم فى تزيين الشبك مسطحة وطولها 4 سم، أحد طرفيها مدبدب والطرف الآخر به ثقبان، ويقوم بصناعتها الحرفيون وأحيانا تصنع المرأة الإبرة بنفسها، فتأتى بمسمار من الحديد وتدقه ثم تثقبه وتبرده ليعطيها الشكل المطلوب، وكانت الإبرة فى الماضى تُصنَع من الذهب أو الفضة، ويقوم بصناعتها صانع الذهب.
وقد صنع التلى الأسيوطى فى منطقة أسيوط منذ أواخر القرن الـ19، على الرغم من أن المفهوم يعود إلى مصر القديمة، كما تم العثور على أمثلة على ذلك فى مقابر المصريين القدماء، وفى معظم الحالات كان الخيط المعدنى من الذهب، ويطلق على عملية التطريز بالشرائط المعدنية على النسيج الشبكى لفظ "خياط "، وترجع التسمية إلى أن الزخرفة بالشرائط المعدنية فى النسيج تخضع لطريقة واحدة بخلاف الأنواع الأخرى من التطريز، وهو ما ورد فى دراسة "أسلوب التلى كمصدر لتصميم الأزياء والتشكيل على المانيكان".
والرموز المشغولة على النسيج الشبكى مستوحاة من البيئة المصرية، ومنها ما هو ذو بعد حضاري، أى إن بعضها مصرى قديم وبعضها الآخر قبطي، ومن أشهر تلك الرموز الخط المنكسر الذى يرمز لنهر النيل، والمثلث الذى يرمز للجبال التى تكثر بين أسيوط وسوهاج موطن فن التلي، والصليب القبطى أو المنجل، والعروس، والشمس، والمحمل، والشموع، والجمل، والبيت، وحقول القصب، وغيرها، كلها أشكال مشغولة على التلى ومنها ما تقص على الناظرين حكاية انتقال العروس من بيت أهلها إلى بيت عريسها.
تطرز الموتيفات على الطرح والجلابيب والشالات النسائية لإبطال الحسد حسب المعتقدات الشعبية، وكانت الملابس المشغولة بالتليمن ضمن جهاز العروس، لكن النساء المقتدرات ارتدينها كذلك سواء فى الطقوس الاجتماعية أو الدينية، وموتيف التلى هو عنصر تزيينى فطرى شعبى متوارث، له دلالة معينة ويعبر عن ثقافة منطقة وبيئة، ويتم تكوين الموتيف من خلال عدة غرز يتم تكرارها لتكوين شكل معين، وكلما انتهى شكل انتقلت الخياطة لشغل الشكل الثاني، ومجموع الأشكال تًكوّن موضوعا معينا، وجميع موتيفات التلى القديمة مصدرها البيئة والثقافة الشعبية، وبما أن محافظتى سوهاج وأسيوط هما الأساس فى هذا الفن فإن الموتيفات هى من بيئة مجتمعيهما،وتم حصرها فبلغ عددها 120 رمزا وموتيفة تقريبا.
كان يصنع قديما من قماش واحد " التُـل " بضم التاء، وله مصدر واحد وغالبا ما كان يأتى من الهند، أما الخيوط أشرطة التلى فتستورد من بعض الدول الأوروبية، ويتميز كل بلد بألوان خيوطها المختلفة عن الآخر، فالتلى الفضى يأتى من ألمانيا، أما التلى الذهبى فيستورد من فرنسا، وهو من أجود أنواع الأشرطة مُغطَىَ بطبقة سميكة من الذهب.
ويمتاز بالمرونة التى تساعد فى التطريز، بالإضافة إلى قوة لمعانه، أما التلى المستورد من التشيك فهو النوع العريض، وهو قليل الاستعمال، وهناك أنواع من الخيوط أقل جودة تأتى من الهند والصين، وباكستان، وعملية الاستيراد هذه جعلته يقاوم الانتشار بين الناس، فيكون نادرا وثمينا، وتزداد قيمته، وتضيف له فى الوقت نفسه هيبة وإجلالا، ومما زاد من مكانته أن "التـوب" يستغرق فى صناعته شهورا، قد تقترب من العام، فلا تكفى النقود فقط وإن حضرت لاقتنائه، فلا تملكه إلا عروس سليلة عائلات كبيرة ذات شأن كبير.
وصلت شهرة التلى المصرى إلى القمة، عندما أهداه محمد على باشا والى مصر إلى ملكة إنجلترا، وكعادة الملوك هناك، إحتفظت بالهدية فى متحف بلادها، وتحديدا متحف فيكتوريا ألبرت فى لندن، سجلت أسفله كل البيانات، لعل أهم تلك البيانات أنه"صنع فى صعيد مصر".
ولا يوجد أرقام صادرة حول الأموال التى كانت تحققها صناعة التلى لدعم الاقتصاد المصرى خلال فترة ازدهاره، إلا أن أجانب رصدوا ذلك ، فقالوا إن الطلب كان كبيرا على الشالات الأسيوطى فى القاهرة، ووفقا للمسوحات التى أجريت فى منتصف عشرينيات القرن الماضى كان الإنتاج الأكبر بين عامى 1908 و1912.
فى نهايات القرن الـ19 عُرِف التلى خارج مصر، فوصل إلى دول كثيرة نظرا لارتباطه بالتراث الشعبى وبالموروث الحضارى والثقافى المصري، وهو ما جعل له شخصية خاصة به، بحيث لا يوجد ما يشبهه فى دول وثقافات أخرى، وتقول إحدى المصادر أنه تم استيراد القماش لأول مرة إلى الولايات المتحدة من أجل معرض شيكاغو عام 1893، وأصبح شائعا مرة أخرى مع السحر المحيط باكتشاف قبر الملك توت عام 1922.
ومن نجمات هوليود اللواتى ارتدين التلى باربرا سترايسند، وميا فارو، وإليزابيث تايلور، وبروك شيلدز، وأيضا نجم هوليوود توم كروز الذى ارتدى وشاحا من التلي، كماتوجد كذلك أزياء من التلى فى متحف فيكتوريا وألبرت فى لندن، وبعد ذلك بوقت طويل أعادت بيوت الأزياء الراقية، مثل ديور وجان بول غوتييه وفالنتين وصياغة أنماط التلى لكن النسيج ظل دائماوفيا لجماله الأصلي، كما ظهر التلى أيضا فى مجموعة أزياء ديور فى ربيع 1998.
كانت هذه نبذة مختصرة عن فَنَّين أصيلين من فنون مصر المحروسة التى إن وضعتهما منفردين على خريطة المعارض الخارجية، نفذت بسهامهما إلى خريطة التجارة الدولية، وجعلت منهما مجددا علامة وهوية مميزة لمصر وفقا لمفاهيم ومتطلبات عصر الذكاء الاصطناعى والأحداث الافتراضية عن بُعد.