مقالات رأى

"تصنيع القبول" وشرعنة التهجير.. كيف يُعاد تشكيل الوعى؟

طباعة

تُعد نظرية “تصنيع القبول” أو ما تُسمّى بالإنجليزية (Manufacturing Consent)، التى طورها نعوم تشومسكى Noam Chomskyوإدوارد هيرمان Edward Herman، من أبرز الأطر الفكرية التى تفسر كيفية توظيف وسائل الإعلام الكبرى كأدوات لتوجيه الرأى العام، ليس بوصفها منصات مستقلة تنقل الحقيقة، بل باعتبارها آليات خاضعة لنفوذ النخب السياسية والاقتصادية، تُستخدم لترسيخ تصورات وأجندات محددة.

تعتمد هذه النظرية على مجموعة من الآليات المتشابكة، أبرزها التصفية المعلوماتية، حيث يتم التحكم فى تدفق المعلومات وانتقاء ما يُعرض للجمهور، مما يؤدى إلى تضييق نطاق الإدراك العام. كما تلعب آلية تركيز الاهتمام على قضايا معينة، وتهميش أخرى، دورًا أساسيًا فى توجيه النقاش العام، حيث يتم تضخيم بعض الأحداث لتصبح محورية، بينما تُهمَّش قضايا جوهرية أخرى.

إضافةً إلى ذلك، يُستخدم التكرار الممنهج للرسائل الإعلامية كأداة فعالة فى ترسيخ السرديات، إذ يؤدى التعرض المستمر لمفاهيم معينة إلى تطبيعها وجعلها مألوفة، بغض النظر عن مدى دقتها أو موضوعيتها، مما يسهم فى تشكيل الوعى الجمعى وفقًا لأجندات محددة.

يتماشى هذا المبدأ مع "تأثير التعرض المتكرر" (Mere Exposure Effect) فى علم النفس، الذى يوضح أن الأفراد يميلون إلى تفضيل المعلومات التى يتعرضون لها بشكل متكرر، حتى وإن كانوا فى البداية غير مقتنعين بها.

لكن الأثر لا يقتصر على التكرار فقط، بل يُعزز بإقصاء الأصوات المعارضة وتوجيه النقاش ضمن نطاقات محددة، مما يحد من التنوع الفكرى ويعزز السردية المهيمنة. فى هذا السياق، تقدم الروايات الإعلامية نفسها على أنها موضوعية أو محايدة رغم انحيازها، مما يمنحها مصداقية مضللة.

بالنظر إلى نظرية "تصنيع القبول"، يمكن تحليل تكرار الرئيس الأمريكى دونالد ترامب لفكرة تهجير الفلسطينيين من غزة وربطها بالاستراتيجية الإعلامية التى تسعى إلى ترسيخ السرديات السياسية. على الرغم من الرفض القاطع لهذا الطرح من قبل الدول العربية والمجتمع الدولى، فإن التكرار المستمر لهذه الفكرة يسهم فى تطبيعها ضمن الخطاب السياسى والإعلامى.

يؤدى هذا التكرار إلى تخفيف حدة الاستجابة العاطفية الأولية تجاه الفكرة، مما يجعلها تبدو أقل استفزازًا بمرور الوقت، حتى وإن كانت مرفوضة فى جوهرها. ومع استمرار تداولها إعلاميًا، قد تتغير طريقة إدراكها، إذ يتحول النقاش من رفض قاطع إلى مناقشة حيثياتها وشروطها المحتملة، وهو ما يحقق الهدف الأساسى لمنظومة "تصنيع القبول".

إن خطورة هذه الاستراتيجية تكمن فى قدرتها على إعادة تشكيل الوعى الجمعى، بحيث تصبح الأفكار المرفوضة مبدئيًا جزءًا من الخطاب العام، ما يسهل قبولها أو التعامل معها كأمر واقع. وبالتالى، لا بد من التعامل النقدى مع الخطاب الإعلامى، والوعى بآليات التكرار والتصفية والإقصاء التى تؤثر فى تشكيل الرأى العام.

فالحذر من هذه الديناميكيات ليس مجرد موقف فكرى، بقدر ما هو ضرورة لحماية الوعى الجمعى من التلاعب. ويتطلب ذلك البحث عن مصادر معلومات متنوعة، والانخراط فى التفكير النقدى، وتحدى السرديات المهيمنة التى قد تكون مُصاغة لخدمة مصالح سياسية واقتصادية محددة.

توضح نظرية "تصنيع القبول" كيف يمكن أن تتحول السرديات المتكررة إلى حقائق مقبولة على الرغم من الرفض الأولى لها. وينطبق هذا المفهوم على تكرار ترامب لفكرة تهجير الفلسطينيين، حيث يُستخدم التكرار كأداة لتطبيع الخطاب وتمهيد الطريق أمام تغييرات سياسية خطيرة. لذا، فإن الوعى بهذه الآليات واليقظة النقدية تجاه التكرار الإعلامى والتأطير الانتقائى للمعلومات يظلان حجر الأساس فى مقاومة محاولات التلاعب بالوعى العام بشأن القضايا المصيرية.

وفى ظل التحولات الجيوسياسية الراهنة، يتعين على المتابعين والمحللين السياسيين إدراك الدور الحاسم الذى تلعبه وسائل الإعلام فى صياغة الإدراك العام. فالنخب السياسية لا تكتفى فقط بنشر السرديات، بل تسعى إلى تشكيل بيئة خطابية تُسهل من قبولها وتداولها كحقائق مسلم بها. لذا، فإن مقاومة "تصنيع القبول" لا تتطلب فقط وعيًا نقديًا فرديًا، بل تستدعى كذلك تحركًا مؤسساتيًا وإعلاميًا يسعى إلى تعزيز التعددية الفكرية وفتح المجال أمام السرديات البديلة. إن الوعى بهذه الآليات يعد خطوة أولى نحو تفكيك الخطاب الموجه وإعادة الاعتبار للحقيقة بوصفها بناءً متعدد الأبعاد، لا مجرد سردية مفروضة من قوى سياسية واقتصادية نافذة.

لا شك أن نظرية “تصنيع القبول” تمثّل أداة فعالة فى يد النخب السياسية والإعلامية، حيث تُستخدم لاستبدال بالإدراك الجمعى تدريجيًا سرديات جديدة، حتى لو كانت تتعارض مع القيم والمصالح العامة. ففى حالة تهجير الفلسطينيين، يتضح أن الفكرة لم تُطرح على نحو مفاجئ، بل جرى دمجها ضمن خطاب إعلامى ممنهج يهدف إلى جعلها تبدو وكأنها “أحد الحلول المطروحة” بدلًا من كونها جريمة ضد الإنسانية.

يعتمد هذا الأسلوب على عدة مراحل تبدأ بطرح الفكرة أوليًا كاحتمال بعيد أو حتى كتصريح استفزازى، ثم يتم الترويج لها بشكل متكرر من قبل شخصيات سياسية وإعلامية بارزة. مع الوقت، تتوسع دائرة النقاش لتشمل تفاصيل تنفيذ الفكرة بدلًا من التركيز على مدى مشروعيتها، مما يحوّلها من مسألة مرفوضة إلى خيار “قابل للنقاش”.

خلاصة القول، يقع على عاتق الإعلام العربى دور أساسى فى تفكيك هذه السرديات وكشف دوافعها الخفية، عبر تبنى استراتيجية إعلامية مضادة تُسلط الضوء على مخاطر هذه الخطابات، وتعمل على توعية الرأى العام العالمى بحقيقة ما يجرى.

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. خالد وليد محمود

    د. خالد وليد محمود

    باحث متخصص في السياسة السيبرانية