فى 2013 قال الرئيس الروسى "بوتين" ونقلته صحيفة النيويورك تايمز "إن تشجيع الناس على أن يكونوا استثنائيين مهما كانت الدوافع هو أمر خطير للغاية". الاستثنائية الأمريكية لفظ ملطف عن العنصرية التى نشأت عليها الولايات المتحدة، بل هى جوهر كل ممارساتها. ترامب فقط تعبير "فج" عن هذه العنصرية. تصريحاته عن غزة لا تخرج إلا من هذه المشكاة.
إن جوهر المسألة هو الاستعلاء العنصرى والبراجماتية اللاأخلاقية وحسب المؤرخ الأمريكى "رينولد نيبور" -مؤلف كتاب "سخرية التاريخ الأمريكى": "إذا قدر لنا أن نتعرض للإبادة، فإن قسوة العدو لن تكون إلا السبب الثانى للكارثة، السبب الأول هو عماء هذه الأمة الذى جعلها لا ترى مخاطر الصراع، الناتج عن الكراهية والأمجاد الفارغة". وترامب ليس استثناءً فجميع رؤساء الولايات المتحدة السبعة والأربعين ادعوا أسطورة "الاستثناء الأمريكي"، التى تقول إن الولايات المتحدة هى "النور على قمة الجبل" الذى قصده الله لتنوير العالم.
يدخل نتنياهو على الخط ويذكر ترامب بآبائه الحجاج الذين زعموا أن رحلتهم للأرض الموعودة تشبه رحلة خروج اليهود من مصر، فكرة الاستثنائية هذه هى التى تجعل واشنطن لا توافق أبدًا على الخضوع لأى شخص أو جهة، خاصة الأمم المتحدة وهيئاتها، فرغم أنهم ذبحوا الكوريين، والفيتناميين، والأفغان، والعراقيين، والليبيين، والفلسطينيين، والسوريين... إلخ. فلا ينبغى توجيه الاتهام إلى أى من رؤسائهم أو حتى من أتباعهم مثل نتنياهو من قبل أى محكمة دولية حتى لو كانت الجنائية الدولية، رغم أن الولايات المتحدة والكيان ليسا عضوين فيها.
إن ادعاء "ترامب" عن استيلائه على "غزة" كأنها "إحدى المنقولات" هو أمر فرعى عن ادعاء أمريكا لملكيتها لكل بحار العالم، وكأن شعوبه مثل الهنود الحمر الذين أبيدوا، والفلسطينيين مثل قبيلة الشيروكى التى عقد معها أندرو جاكسون صفقة ونقلهم إلى جنوب المسيسبى وهى القبيلة الوحيدة الناجية حتى الآن.
إن هذه الاستثنائية هى التى جعلت "ترامب" يرفع العصا على الحلفاء قبل الأعداء، ليرد عليه "جاستن ترودو"، لقد كنا شركاء فى كل شيء، فنحن لسنا عبيدًا لكم. كندا هى إحدى الدول السبع، وقد وصفه "إيلون ماسك" بالفتاة التى لا تملك من أمرها شيئا ولا يحق لها الاعتراض.
يقول المفكر والأكاديمى الأمريكى "كورنيل ويست": "من المستحيل أن تكون أمريكيا وألا تعرقن مشاعرك". هذه الجملة كاشفة عن تجذر العنصرية فى المجتمع الأمريكى وفى نخبته السياسية، إذ إنها تدخل فى كل تلافيف العقل وسلوكه، للدرجة التى زعمت فيها "مادلين أولبرايت" أن موت نصف مليون طفل عراقى هو نتيجة عادلة لتحويل العراق إلى دولة ديمقراطية على النظام الأمريكى.
يرفض ترامب أن يمارس "العنصرية" كغيره من الرؤساء السابقين باستخدام الأدبيات الدبلوماسية ووسائل الإغراء والإغواء إذ يعود بها إلى ما قبل حقبة الآباء المؤسسين، وهو يعلم أنها متجذرة فى المجتمع الأمريكى، وما عليه إلا أن يستخدم الأدوات المناسبة لتوظيفها لصالح انتخابه وقد فعل.
فالأبيض هو المعيار الاجتماعى وهو مدار كل القوانين الأمريكية وتحديد مفهومه يعنى بالضرورة والتبعية تحديد من هو غير الأبيض وما يترتب على ذلك من مصالح وامتيازات ومكانة اجتماعية، ورغم أن الديمقراطيين حاولوا التقليل من ذلك من خلال ما يسمى بالتمييز الإيجابى لصالح كل الأقليات، عاد ترامب وألغاه.
لا نتحدث عن تصنيفات الأمريكيين، مثل كل من هو غير أبيض فهو "شخص ذو لون ما"، ولا عن "الآخرين"، ولا عن "القوقازى"، ولا عن "الشرق أوسطى"، ولا عن "الهيسبانيك"، ولا حتى عن "الهنود الحمر الأصليين" فهذا ثابت فى القوانين الأمريكية وقد وصف ترامب "هاريس" بأنها من "الآخرين"، بل نتحدث عن مفهوم العنصرية فى التعليم، والاقتصاد، والسياسة، والاجتماع... إلخ.
يزرع الأمريكيون العنصرية منذ نعومة الأظفار، فالأبيض له سلوك، ومواقف، وأفكار، وقيم، ومهارات، وكفاءات، ومستوى تعليمى عن الآخر مختلف البشرة والملامح، تمهيدًا لكى يصبح الأبيض محايدًا أو صامتًا تجاه أى جرائم تصيب الآخر. إن السيطرة على الوكالة الأمريكية للتنمية فى جوهرها إلغاء لدورها فى الداخل فى إخراج المظاهرات قبل أن يكون انتقاصًا من دورها فى الخارج، لذا لن تخرج مظاهرات تنديدًا بأى فعل للكيان فى المستقبل.
إن مليون أسود فى السجون الأمريكية من أصل ثلاثة ملايين لهو رقم كاشف عن حجم هذه العنصرية، فمعاناة الأبيض غير معاناة الآخر الملون، وجوع الأخير لا يهم بل جوع الأبيض هو المشكلة، والحكم على الأسود بأقسى العقوبات ولو لأصغر الجنايات طبيعى وليس فيه ظلم أو تعسف، فالأبيض هو الأفضل وهو المحق دومًا.
والنظام التعليمى الأمريكى يسعى إلى تغييب البعد الطبقى وتزييف الوعى، فعلى سبيل المثال، ظهرت "نظرية مساعدة الذات" لكى تبرر أن الفرد الأسود أو الملون هو المنوط بمساعدة نفسه لكى يتساوى مع الأبيض الغني، وأن العرق الأبيض هو العادى والمألوف وهو الذى يصوغ الرأى العام، ولهذا فمسألة المهاجرين هى مسألة فى صلب برنامج "ترامب" الانتخابى بعد أن فقد الأبيض أو كاد أغلبيته السكانية.
والعنصرية البيضاء هى مفهوم اجتماعى Whiteness as propertyعن السلطة والامتيازات، وهى ضرورة وفقا للفيلسوف الفرنسى إيتيان بالييار إذ إنه بدون غير الأبيض يتوقف الأبيض عن الوجود، لكن يجرى تصوير حياة البيض وكأنها كل المجتمع إذ يجرى سحبها على كل الأقليات. حتى فى الجيش الأمريكى فتجنيد شباب هذه الأقليات هو فقط عامل اقتصادى، شريطة أن يلقنوا كتلاميذ أن الحرب جيدة للاقتصاد، وإذا أبناء الأسر الغنية الالتحاق بالجيش يلتحقون كضباط وليسوا كجنود.
إن هذه الاستثنائية الأمريكية التى ذكرنا منها غيضًا من فيض، هى ما تجعل ترامب يطلق النيران فى جميع الاتجاهات، بيد أنه سيتراجع فى حالة المواجهة، فقط إذا ما ظن أنه سيخسر.