مقالات رأى

فضيلة الوعي والتربية البيئية

طباعة

تعتبر فضيلة الوعي فطرة خُلِقَ عليها الإنسان، ولدت معه وتنامت بتنامي احتياجاته الأساسية وغير الأساسية، حيث جاءت ممارسة الإنسان القديم للوعي "بدون وعي" منه، أي دون إدراك حقيقي لمعنى الكلمة والهدف من ورائها، ألا وهو التحصين والحماية من تبعات اللاوعي، وهو أمر يمكن تطبيقه على كل مناحي الحياة، اختلف فيما بعد قدر هذا الإدراك بنزول الرسالات السماوية وتوجيه الأوامر الإلهية بالتدبر والإعقال والتوكل (أفلا يتدبرون، أفلا يعقلون، أفلا يتفكرون، أفلا ينظرون).

فالعلاقة بين البيئة والتوعية، هي علاقة قديمة مرت بمراحل متميزة، حيث كانت البيئة هي المصدر الأساسي للتربية، يكتسب منها الإنسان خبرات تفاعله مع مكوناتها المختلفة، وعندما تطورت الحياة البشرية واتسعت الخبرات الإنسانية، برزت المدارس كمؤسسات اجتماعية تقوم بِتَزَوْد الخبرات الإنسانية المتنوعة في صورة مواد دراسية.

أما البيئة فهي منبعه ومصدر إلهامه ونشأته، وهو يعلم بها مثله مثل سائر المخلوقات المحيطة، يميزه في ذلك فقط معيار "الوعي" السالف الإشارة إليه، والذي رغما عن ذلك، إلا أنه أساء إليها عمدا أكثر مما أساءت لها باقي المخلوقات بغير عمدٍ.

وأما العلاقة بين البيئة والتاريخ، والبيئة والأديان، فهي علاقتان أزليتان، ارتبط فيها كل طرف بالبيئة منذ بدء الخليقة، أي منذ خلق نبي الله آدم والذي كان عصيانه لله -بأن أكل مما نهاه عنه- سببا في نزوله للأرض كدار للعقاب والابتلاء، فقد كانت شجرة معرفة الخير والشر هي الخطيئة الأولى للبشرية.

 ومن يمحص نظره في التاريخ يجد أن البيئة الصحية والآدمية والعادلة المتزنة هي أساس قيام حضارات عظيمة والطريق الأمثل لبقائها، مثل الحضارة المصرية القديمة، والرومانية، وأكدت معها كل الشرائع السماوية يهودية، ومسيحية، وإسلامية على الحفاظ على البيئة والرحمة بها والتعامل معها برفق.

ويعتبر "الدين وحماية البيئة" فرعا ناشئا بين التخصصات في المجالات الأكاديمية للدراسات الدينية، والأخلاق الدينية، وعلم اجتماع الدين، واللاهوت، ومجالات أخرى، يركز على مذهب حماية البيئة والمبادئ البيئية، حيث أظهرت دراسة حديثة أن الدين -بوصفه المصدر الأساسي للأخلاق عند المتدينين- يمكن أن يضيّق الفجوة السياسية بين الليبراليين والمحافظين في شأن حماية البيئة.

وهكذا، بدأ الإنسان المعاصر شيئا فشيئا الاهتمام بالتربية البيئية اهتماما حقيقيا، وخاصة بعد أن أفسد الإنسان نفسه كثيرا من مجالات الحياة ومقوماتها في البر، والبحر، والجو، فيقول الله سبحانه وتعالى (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).

فقد تكاثر الإنسان بشكل لم يسبق له مثيل، وازدادت احتياجاته الغذائية، والسكنية، والمائية، مما أدى إلى انخفاض الموارد الطبيعية واستنزافها، وازدادت الفضلات الإنسانية، والحيوانية، والصناعية من ناحية أخرى، وتلوثت البيئة الرئيسية بالملوثات المختلفة واختل توازنها، ودق ناقوس الخطر البيئي في البيئات الرئيسية الثلاث (الأرضية، والمائية، والهوائية)، وارتفعت صيحات الأزمة البيئية عالميا وإقليميا ومحليا، ومن هنا أتت الحاجة إلى استكمال بحث من سبقونا إلى مضمار دراسات التوعية البيئية.

في عام 2022، تم عمل مراجعة منهجية للأدبيات الخاصة بالحركات الاجتماعية المتنافسة على مشاريع الوقود الأحفوري، خلصت إلى أن الحركات الاجتماعية والاحتجاجات ضد ظاهرة الاحتباس الحراري يمكن أن تحد بشكل فعال من تنفيذ المشاريع الضارة بالبيئة وتزيد من الوعي العام.

وبحسب التقارير البيئية المستمرة فقد حاولت الهيئات الحكومية وفرق العلماء على مدى عقود من الزمان السيطرة على الطقس من خلال الهندسة الجيولوجية، حيث قاموا بتلقيح السحب بمادة "يوديد الفضة" في محاولة لتحفيز هطول الأمطار فوق المناطق الجافة، واختبروا تقنية لتفتيح السحب بحيث تعكس المزيد من ضوء الشمس إلى الفضاء، هذا في ضوء ما سلطت صحيفة "كريستشينال ساينس مونيتور" الأمريكية الضوء عليه من ظاهرة ازدياد الكوارث الطبيعية التي تتعرض لها أمريكا على وجه الخصوص، والعالم على وجه العموم.

وفي هذه الصدد مرت التربية البيئية وتطورت من خلال عقد الحلقات الدراسية والمؤتمرات الدولية، التى يعتبر أهمها على الإطلاق حتى الآن "مؤتمر ستوكهولم" الذي عقد بالسويد عام 1972، واعترف فيه العالم بالدور المهم للتوعية البيئية والتعليم البيئي في حماية البيئة وصيانة مواردها، وقد وضع المؤتمر تصورا شاملا للمشكلات البيئية الراهنة والمستقبلية، وكان من أبرزها اعتراف المؤتمر بأن التشريعات البيئية لا تكفي وحدها لصيانة البيئة والمحافظة عليها من التدهور البيئي، بل لابد من إيجاد (وعيٍ بيئي) لدى سكان العالم جميعا لحماية البيئة، والمحافظة عليها من التلوث البيئي بأشكاله المختلفة، وترشيد استهلاك مواردها الطبيعية.

وبشكل محدد أصدر المؤتمر التوصية رقم (96) التي تدعو فيها منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحددة لاتخاذ التدابير اللازمة لبرنامج جامع لعدة فروع علمية للتوعية البيئية، سواء داخل المدرسة أو خارجها، على أن يشمل البرنامج كل مراحل التعليم ويكون موجها لكافة الأفراد المتعلمين والمجتمعات البشرية لإدارة شئون البيئة والمحافظة عليها وصيانة مواردها، وذلك في حدود الإمكانات المتاحة لهم، ولذا فإنه يمكن القول إن تلك التوصية كانت أساسا لبرنامج البيئة والتعليم البيئي.

توازيه في أهميته مؤتمرات الأطراف التي أصبحت أكبر وأهم المؤتمرات السنوية التي تعقد حول المناخ، ففي عام 1992، نظمت الأمم المتحدة قمة الأرض في ريو دي جانيرو بالبرازيل، حيث تم اعتماد اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ وتم إنشاء وكالتها التنسيقية - ما نعرفه الآن باسم أمانة الأمم المتحدة لتغير المناخ.

في هذه المعاهدة، وافقت الدول على "تثبيت استقرار تركيزات غازات الاحتباس الحراري في الغلاف الجوي لمنع التدخل الخطير من النشاط البشري في نظام المناخ"، وقد وقع عليها حتى الآن 197 طرفا مختلفا، ومنذ عام 1994، عندما دخلت المعاهدة حيز التنفيذ، أقدمت الأمم المتحدة بشكل سنوي على جمع كل بلد على وجه الأرض تقريبا لحضور مؤتمرات القمة العالمية للمناخ، المعروفة باسم"COP"، والتي تعني "مؤتمر الأطراف."

خلال هذه الاجتماعات، تفاوضت الدول على ملحقات مختلفة للمعاهدة الأصلية لوضع حدود ملزمة قانونا للانبعاثات، على سبيل المثال، بروتوكول كيوتو في عام ،1997 واتفاق بـاريس الذي اعتمد في عام 2015، حيث وافقت جميع دول العالم على تكثيف الجهود من أجل محاولة الحد من ظاهرة الاحتباس الحراري إلى 1.5 درجة مئوية فوق درجات حرارة ما قبل الصناعة، وتعزيز تمويل العمل المناخي.

هذا ويتناول بالتحليل الإعلام الدولي بشكل عام والأمريكي بشكل خاص ظاهرة ازدياد الكوارث الطبيعية التي تتعرض لها أمريكا على وجه الخصوص وبقية أنحاء العالم بوجه عام، متسائلة عن المتهم الأول في تفاقمها وتكرارها بشكل أكثر ضراوة، ويقول معظم علماء المناخ إن الاحترار العالمي قد أثر على الظروف التي يمكن أن نتوقع فيها المزيد من ظواهر المناخ المتطرف، مثل موجات الحرارة، والأمطار الغزيرة، والجفاف إضافة إلى ارتفاع مستوى مياه البحار الذي يؤدي بدوره إلى تفاقم العواصف والفيضانات.

وقد بدأت الأبحاث، التي لا تزال مثيرة للجدل، في إثارة دور تغير المناخ في المساهمة في العواصف والأعاصير الشديدة، فضلًا عن إطالة موسم الحرائق، وتحول الظروف المناخية إلى حالة أكثر جفافًا يمكن أن تزدهر فيها الحرائق، وغيرها الكثير من الأمور المشابهة في حالات غضب الطبيعة، والتغير العنيف للمناخ، وشدة الظواهر الطبيعية الفتاكة كالأعاصير، والزلازل، والسيول التي باتت من شدتها وآثارها السلبية يتناولها البعض بالتحليل في إطار نظريات المؤامرة واللعبات الخفية.

على أية حال، فإن أفضل أصل يقدمه الدين أو حتى المعتقد الديني أو اللاديني هو الإطار الأخلاقي الذي يُلزم أتباعه به، ولأن كثيرا من المشكلات البيئية نشأت من النشاط الإنساني، فقد يقدم الدين لنا بعض الحلول لتخفيف الأنماط المدمرة،ولأن البشر مرتبطون بالأنظمة الطبيعية، فإن كل أذى يلحق بالأرض يلحق البشر أيضا.

هذا الإدراك قد يغير النوع البشري الذي لا يزال تاريخيا ينهب الأرض لمصلحة الفرد، وعندما يقلل البشر العقلاء الانقسام بين الإنسان والطبيعة ويعبرون الجسر بينهما، عندها تنشأ علاقة احترام متبادل تتعايش فيها جميع الكيانات وفقا لمبدأ تبادل المنافع لا التصارع والانفراد.

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    مها محسن

    مها محسن

    كاتبة مصرية