مقالات رأى

ترامب بين الانحياز والإجحاف في السياسة الخارجية الأمريكية

طباعة

في ظل تحولات السياسة العالمية، يعد الرئيس ترامب واحدًا من الشخصيات الأكثر إثارةً للجدل بسبب قراراته التي لطالما تميزت بالاستخفاف بمصير الشعوب، واستعراض القوة بالقسوة والتمرد على القانون الدولي والأعراف الدبلوماسية، والانسحاب من بعض الاتفاقيات الحقوقية، سواء كان ذلك في فترة رئاسته السابقة أو في حالته الحالية، حيث يُظهر ترامب -مرارًا وتكرارًا- سعيه لتعزيز حكم القوة على حساب العدالة والمبادئ الدولية، كما تعتبر قراراته -التي تتجاوز الحدود المنطقية- طغيانًا لا يعير أي اهتمامٍ للحقوق الإنسانية أو للقانون الدولي، ورغم كل هذا هو أكثر وضوحًا عن سابقيه.

تكشف التصريحات الأخيرة للرئيس لترامب حول شراء وامتلاك غزة عن جهلٍ عميقٍ بحقائق الوضع الفلسطيني وواقع المنطقة الجغرافي والتاريخي، حيث يتضح في هذه التصريحات أن ترامب ومن يشابهونه لا يدركون أن غزة ليست مجرد قطعةٍ من الأرض يمكن التفاوض على بيعها أو شرائها، فهي جزءٌ لا يتجزأ من الأرض الفلسطينية المحتلة، وتعد قضيةً مركزيةً في الصراع العربي–الإسرائيلي، وأن سكان غزة والضفة الغربية ليسوا مجرد سكانٍ مؤقتين، بل هم أصحاب الحق الشرعي في هذه الأرض منذ قرون طويلة.

وتعد زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي المنتظرة -يوم ١٨ من فبراير الجاري ٢٠٢٥- إلى واشنطن مناسبةً مهمة لتعزيز العلاقات الثنائية بين مصر والولايات المتحدة، ولكنها في الوقت ذاته تحمل رسالةً قويةً من القيادة السياسية والشعب المصري إلى الإدارة الأمريكية، وخاصةً فيما يتعلق بمواقف الرئيس ترامب المتعلقة بعملية تهجير الفلسطينيين من غزة، ليعلم أن القيادة السياسية المصرية والشعب المصري لطالما كانوا داعمين للقضية الفلسطينية، وأن شأن "شراء وامتلاك غزة" خطوةٌ غير مقبولةٍ تمامًا؛ إذ إن هذه التصريحات تمثل تحديًا للمواقف السياسية العربية والإسلامية الثابتة، فضلًا عن تهديدها للأمن القومي المصري، حيث ترى مصر أن أي خطةٍ لتهجير الفلسطينيين من غزة إلى أراضيها -سواء كانت بشكلٍ رسمي أو غير رسمي- تعتبر محاولةً لخلق توتراتٍ داخليةٍ تمس استقرار البلاد، خصوصًا في سيناء التي لا تزال تواجه تحدياتٍ أمنيةً نتيجةً للتطرف، وفقًا لما صرح به الرئيس السيسي فيما سبق، ولذلك يوجد رفض شعبي مصري عارم –بجميع أطيافه- لهذه السياسة، حيث يرفض الشعب المصري أن تكون مصر هي المكان الذي يتم فيه تصفية القضية الفلسطينية على حساب أمنها القومي وحقوق الشعب الفلسطيني.

النوايا وراء تصريحات ترامب:

النوايا التي تكشفها تصريحات ترامب واضحة، وهي جزء من تنفيذ الحلم الصهيوني في التوسع، والذي يسعى إلى نقل جزءٍ من الشعب الفلسطيني خارج أرضه تحت غطاء "الهجرة الطوعية"، رغم أن هذه الهجرة -في معناها الحقيقي- تهجير قسري. ومن الواضح أن هذا المخطط سيؤدي إلى توتراتٍ إقليميةٍ ضخمةٍ في دول المنطقة، كما أشار إليها الرئيس عبد الفتاح السيسي في تصريحاتٍ سابقةٍ حول المخاطر المترتبة على هذه السياسات، حيث ستؤدي إلى أزمةٍ ديمغرافية قد تتفاقم وتتحول إلى صراعٍ داخلي، كما أن استيعاب حركة حماس في الأراضي المصرية -وكذلك الأردنية- قد يعيد الدول إلى حالة "الدولة المواجهة" مع "إسرائيل"؛ مما سيغير الخريطة السياسية في المنطقة بشكلٍ كبير.

وهناك جزء آخر من الحلم الصهيوني الذي يسعى ترامب إلى تحقيقه، وهو الطموح في إنشاء مشروع "قناة بن غوريون" أو "القناة الإسرائيلية"، والذي يتمثل في إنشاء قناةٍ مائيةٍ تربط بين خليج العقبة والبحر الأبيض المتوسط، يهدف هذا المشروع إلى منافسة قناة السويس المصرية، ودعم المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، والتعزيز من قدرة إسرائيل على التحكم في طرق الملاحة الدولية، ومنحها ميزة جيوسياسية واقتصادية، والطموح والطمع في تأكيد دور إسرائيل كقوةٍ إقليميةٍ محوريةٍ في منطقة البحر الأحمر والمتوسط، حيث تُعد قناة السويس أحد المصادر الرئيسية للإيرادات المصرية، والتي تساهم بشكلٍ كبيرٍ في الاقتصاد الوطني، وتعتبر القناة الإسرائيلية المقترحة تهديدًا مباشرًا لهذا الدور المحوري الذي تقوم به قناة السويس المصرية.

أما بالنسبة لمصر، فهي تعتبر أن الأرض هي العرض والشرف التي دافعنا عنها بالنفيس والغالي بدماء الشهداء من أبطالنا، كما تؤكد أيضًا على مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، الذي اعتمدته الأمم المتحدة في القرار رقم 3236 في 22 نوفمبر 1974، بموافقة 89 صوتًا مقابل رفض 8 وامتناع 37، ويحمل هذا القرار عنوان "حقوق الشعب الفلسطيني"، والذي يؤكد على الحقوق الثابتة لشعب فلسطين، مثل: الحق في تقرير مصيره دون تدخلٍ خارجي، والحق في الاستقلال والسيادة الوطنيين.

ترى الأيديولوجية السياسية أن على الأمة أن تحكم نفسها، بعيدًا عن التدخل الخارجي غير المرغوب فيه، وترتبط بمفهوم تقرير المصير، وأن أهل غزة وأهل فلسطين في الضفة الغربية لن يتخلوا عن أرضهم، ولن يقبلوا بأي بديلٍ عن حقهم في العودة إلى مدنهم وقراهم التي هُجِّروا منها في عام 1948م، ففلسطين ليست مجرد أرضٍ جغرافيةٍ، بل هي قضية وطنية وقومية تمثل جزءًا أساسيًّا من ضمير كل الأحرار في العالم، ولذلك فإن مقاومة الفلسطينيين لهذا المخطط ستكون قويةً كما كانت طوال عقودٍ من النضال، وستثبت أن غزة ستبقى لأهلها، ولن يغادروا إلا إلى مدنهم وقراهم التي طُردوا منها بالقوة.

موقف الدول العربية تجاه سياسة التهجير القسري:

قوبلت هذه التصريحات برفضٍ قاطعٍ من قِبَل الدول العربية -وعلى رأسها مصر، والأردن، والكويت، والسعودية، والإمارات، وتونس، والبحرين، والعراق- التي شددت على موقفها الثابت من القضية الفلسطينية، ورفض أي حلولٍ تتجاهل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.

 ستستضيف القاهرة قمةً عربيةً طارئةً في 27 فبراير الجاري لبحث تطورات القضية الفلسطينية، بما في ذلك مواجهة خطط تهجير الفلسطينيين، وستناقش القمة اتخاذ موقفٍ عربيٍّ موحدٍ يرفض التهجير، ويؤكد على ضرورة اتخاذ إجراءاتٍ قانونيةٍ ودوليةٍ لوقف محاولات إخراج الفلسطينيين من أراضيهم، كما سيتم بحث خطط إعادة إعمار غزة دون المساس بحق الفلسطينيين في الأرض، بالإضافة إلى دعم استكمال اتفاق وقف إطلاق النار ومنع أي خروقات.

السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط:

تعد السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط جزءًا من عقيدةٍ استعماريةٍ متأصلة، والتي تتجسد عبر تاريخٍ طويلٍ من الهيمنة على المنطقة، ولا تقتصر هذه السياسات على السيطرة العسكرية، بل تشمل أيضًا خلق الأزمات لإدامة الفوضى وتحقيق المصالح عبر إدخال دول المنطقة في صراعاتٍ داخليةٍ مستمرة.

إن الاستعمار الجديد الذي تمارسه أمريكا في الشرق الأوسط يتضمن استغلال الموارد الطبيعية، وفرض النفوذ السياسي، حيث تسعى إلى ضمان السيطرة على النفط والغاز والمصادر الطبيعية الأخرى التي تمثل ركيزةً أساسيةً في تحكمها بالاقتصاد العالمي.

إن التدخلات الأمريكية في العراق، وليبيا، وسوريا، وفلسطين، إلى جانب الضغط على الأنظمة -على سبيل المثال- يمثل نموذجًا واضحًا لهذا النهج، ففي العراق أدى غزو عام 2003م إلى تدمير الدولة وخلق فراغٍ أمني؛ مما مكَّن الجماعات المسلحة -مثل (داعش)- من السيطرة على أجزاءٍ من البلاد، وفي ليبيا أسهم التدخل العسكري في تدمير الدولة وتحولها إلى فوضى عارمة؛ مما ساعد القوى الخارجية في التنافس على النفوذ والسيطرة على الثروات الليبية.

القرارات الأمريكية المؤيدة لإسرائيل.. تجاهل حقوق الفلسطينيين:

من بين القرارات التي أحدثت استنكارًا عالميًّا، تبرز سياسات ترامب تجاه القضية الفلسطينية، وخاصةً مواقفه المؤيدة لإسرائيل، حيث ساهم في مساعدته في الحرب على غزة والضفة الغربية، والمناشدة في تهجير الفلسطينيين قسرًا من أراضيهم، كما جدد دعمه المطلق لممارسات الاحتلال، وهو ما يعكس سعيًا لاستمرار تهميش حقوق الفلسطينيين، ورفضه للقرارات الدولية التي تدين هذا الاحتلال.

وفي عام 2017، اتخذ ترامب قرارًا بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وهو القرار الذي أثار موجة غضبٍ كبيرةٍ في العالمين العربي والدولي؛ حيث لم يكن هذا القرار مجرد خطوةٍ دبلوماسيةٍ، بل كان بمثابة دعمٍ غير مشروطٍ لإسرائيل في ظل استمرار انتهاكها لحقوق الفلسطينيين.

منذ عام 1948، ارتكبت القوات الإسرائيلية العديد من المذابح بحق الشعب الفلسطيني، كان أبرزها مجزرة دير ياسين في ذلك العام، حيث قُتل الآلاف، وتم تهجير ٧٥٠ ألف فلسطيني، بالإضافة إلى تدمير أكثر من ٤٠٠ قرية في ذلك الوقت  في ظروفٍ وحشية، ثم تلتها العديد من المجازر الأخرى عبر السنوات، مثل مجزرة صبرا وشاتيلا في 1982، والعديد من الهجمات على غزة في السنوات الأخيرة، وقد أسفرت هذه المجازر عن استشهاد الآلاف من المدنيين الفلسطينيين، فضلًا عن تشريد مئات الآلاف، كل هذا إلى جانب نتائج الحرب الأخيرة منذ أكتوبر ٢٠٢٤ ، والتي أسفرت عن مقتل أكثر من 22 ألف فلسطيني، بينهم آلاف من الأطفال والنساء، بالإضافة إلى إصابة عشرات الآلاف؛ ما جعل الوضع في الأراضي الفلسطينية أشبه بكابوسٍ إنسانيٍّ دائم، ورغم هذا واصل ترامب دعمه المطلق لإسرائيل متجاهلًا كل هذه الجرائم بحق الإنسانية.

الإجراءات الاقتصادية والتجارة على الساحة الدولية:

تجاوز السياسات الأمريكية -التي جسَّدَها ترامب- الملفات السياسية إلى السياسة الاقتصادية والتجارية، حيث اتسمت سياسات ترامب -على الصعيدين الاقتصادي والدبلوماسي- بنهج "استعراض القوة والتهديد المستمر"، والتي تُرجمت في صورة فرض الرسوم الجمركية على العديد من الدول، بما في ذلك حلفاء الولايات المتحدة التقليديين، مثل: الاتحاد الأوروبي، وكندا، والمكسيك، ويبين هذا إصرارًا واضحًا على فرض الإرادة الأمريكية دون أي اعتبارٍ للتداعيات الاقتصادية والسياسية.

كما أن استخدام القوة الاقتصادية كأداةٍ للضغط يعكس توجهًا أمريكيًّا واضحًا لتعزيز مصالحها على حساب القوانين الدولية التي تنظم التجارة، وبذلك تُظهر هذه السياسات محاولات التفرد بالقرار العالمي، حيث يتم تجاهل الاتفاقيات متعددة الأطراف والخروج عليها، ومن خلال هذه السياسات يُظهر ترامب للعالم أن القوة هي السبيل الأوحد لتقرير مصير الأمم، وهذا يتناقض تمامًا مع المبادئ الأساسية التي قام عليها –ولو حتى ظاهريًّا- النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، والتي ترتكز على احترام حقوق الإنسان، والعدالة، والتعاون بين الدول.

التحديات المستقبلية.. إعادة تقييم العلاقات الدولية:

إن استمرار هذه السياسات والتوجهات الاستعمارية يعزز من ضرورة إعادة التفكير في العلاقات الدولية بين الدول الكبرى والشرق الأوسط، كما يجب على الدول في المنطقة أن تعيد تقييم استراتيجياتها في التعامل مع القوى الكبرى، مع إيلاء الاهتمام اللازم لبناء تحالفاتٍ استراتيجيةٍ، وتعزيز التعاون الاقتصادي والثقافي بين الدول العربية، والبحث عن فرصٍ لتقوية الهوية الوطنية وحماية مصالحها، قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)[سورة آل عمران: 103].

كما أن زيادة وعي الشعوب لمخططات القوى الخارجية، وتأكيد أهمية الهوية الوطنية يمكن أن يكون عاملًا حيويًّا في مواجهة هذه الأطماع؛ إذ يلعب التعليم والتثقيف دورًا أساسيًّا في توعية الأجيال الجديدة بتاريخ المنطقة وأهمية الحفاظ على السيادة والمصالح الوطنية.

الخلاصة: طغيان سياسي مضر بالسلام العالمي:

في  ضوء سياسات ترامب، يبقى هذا الأخير رمزًا لسياسة الطغيان التي تفرض القوة على حساب العدالة، حيث لا مكان للحقوق الإنسانية أو للقوانين الدولية في عالمه، بل تحكم القوة في ظل تجاهل العواقب الإنسانية والاقتصادية، كما أن استمرار هذه السياسات يمثل تهديدًا كبيرًا للاستقرار الدولي، ويؤدي إلى تعزيز الفوضى وعدم الاستقرار في العالم، لذلك يجب على المجتمع الدولي والقوى الكبرى في المنطقة أن تعيد النظر في هذه السياسات، وتعمل على استعادة المبادئ التي قام عليها النظام الدولي من خلال البحث عن حلولٍ سياسيةٍ عادلة، لضمان عالمٍ أكثر عدالةً وتوازنًا.

وعلى العالم أن يدرك أن حقوق الشعب الفلسطيني ليست قضية يمكن إدراجها تحت أي ذريعةٍ أو مصلحةٍ سياسية، وأنه لا يمكن أن يتحقق السلام إلا عندما يتم احترام حقوق الفلسطينيين في العودة وتقرير مصيرهم.

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. عبير فاروق عبدالعزيز

    د. عبير فاروق عبدالعزيز

    دكتوراه في العلوم السياسية