تشهد العلاقات الفرنسية التركية توترا متصاعدا بدت آخر مؤشراته في طرد المستشار العسكري الفرنسي في أنقرة من احدى الحفلات الرسمية التي حضرها العديد من الممثلين الرسميين للدول الأوروبية في فبراير 2012.جاء ذلك على خلفية الصدام بين البلدين إثر إقرار البرلمان الفرنسي في شهر يناير 2012 قانونًا يجرّم إنكار جرائم الإبادة التي تعرض لها الأرمن على أيدى الأتراك العثمانيين إبان الحرب العالمية الأولى.
وبرغم أن الصدام الفرنسى- التركى تعددت فصوله، وليست هذه أولى وقائعه، وفى الأغلب لن تكون الأخيرة. لكن السؤال المهم الآن: كيف ستنتهى الأزمة الحالية، خاصة مع تهديد تركيا بعقوبات رادعة؟، وكيف يمكن للاتحاد الأوروبى إدارة أزمة تتفجر بين أبرز أعضائه من جانب، وأثقل المرشحين للانضمام إليه من جانب آخر؟ وهل يمكن التمادى فى تجاهل الغضب التركى، وأوروبا أحوج ما تكون لأنقرة كلاعب استراتيجى تتزايد أهميته إقليميا وعالميا يوما بعد يوم؟.
أبعاد التوتر
بعد تصويت مجلس الشيوخ الفرنسى فى يناير 2012 لمشروع القانون الجدلى، اتهم رئيس وزراء تركيا، رجب طيب أردوغان، باريس بالعنصرية وانتهاك الحريات ومخالفة المعتقدات الأوروبية الأصيلة من احترام حرية الرأى والاعتقاد، مشددا على أن فرنسا ستنال من بلاده عقوبات لن تتوقف إلا بإجهاض تحول مشروع القرار إلى قانون فعلى. وطالب من صوتوا بـــ "لا" من أعضاء مجلس الشيوخ ( 86 مقابل 127 صوتا مؤيدا) بالاحتكام إلى القضاء والطعن بعدم دستورية مشروع القانون قبل أن يوقعه الرئيس الفرنسى نيكولا ساركوزى، ويدخل حيز التفعيل. ويعاقب القانون من تسول له نفسه إنكار وقائع الإبادة الجماعية بسنة حبسا وغرامة قدرها 45 ألف يورو.
رد الفعل التركي الغاضب لم يخفف منه تأكيدات المسئولين الفرنسيين أن التشريع عام يشمل جميع وقائع الإبادة، وليست واحدة بعينها، قبل التشديد على أن تركيا حليف استراتيجى مهم لا غنى عنه. كانت فرنسا قد اعترفت رسميا عام 2001 بمسئولية الأتراك عما عدته عملية إبادة ممنهجة للأرمن مطلع القرن العشرين، لتصبح باريس واحدة ضمن 20 دولة متخذة هذا الموقف عالميا، وبالتالى فإن قانون " تجريم إنكار الإبادة " سينسحب أول ما ينسحب على الوقائع التى يعترف بها القانون الفرنسى أساسا، ومن ضمنها ما كان من أمر الأرمن.
فى عام 2006، كانت أول محاولة لطرح قانون مشابه، لكنه لم يلتزم الصيغة العامة، بل كان معنيا بأمر الأرمن تحديدا. وكما فعلت هذه الأيام، هبت تركيا حينذاك، وجددت طرح الموقف الرسمى بإنكار صفة " المذبحة " أو " الإبادة الممنهجة " للأرمن، مشيرة إلى أن من سقط منهم " فى الرواية التركية لا يتجاوز 300 ألف وليس 1,5 مليون شخص، وفقا للجانب الأرمنى"، راح ضحية أفعال الحروب وليس عن نية واستهداف.
فى وقتها، تمت عرقلة مشروع القرار وتجميده مؤقتا، ليعود من جديد وبشكل أقوى نهاية عام 2011 وينال تاييد مجلس النواب الفرنسى فى ديسمبر الماضى، بعد نحو شهرين من زيارة الرئيس ساركوزى إلى أرمينيا، وإشارته إلى ضرورة اعتراف دولة تركيا بـ"الصفحات السوداء" فى تاريخها، وتحديدا مذبحة الأرمن.
فى حينها وفور الإقرار الأول لمشروع القانون، اتخذت أنقرة سلسلة من الإجراءات العقابية، فى مقدمتها تعليق جميع الاجتماعات والمشاورات الاقتصادية والسياسية مع فرنسا، واستدعاء السفير التركى من باريس، ثم كان منع الطائرات والبوارج الفرنسية من دخول المجال البحرى والجوى التركى إلا بموافقة مسبقة من سلطات أنقرة، فضلا عن تجميد تدريبات عسكرية كانت مزمعة بين البلدين، فى تصعيد مقلق بين اثنين من أكبر أعضاء حلف الناتو.
كما هاجم أردوغان ساركوزى ، مذكرا إياه بالمذابح الفرنسية فى الجزائر، واتهمه باستخدام القضية الأرمنية- التركية كورقة لدعم فرصه فى انتخابات الرئاسة المنتظرة خلال ربيع 2012 . وفي هذا السياق من المهم الإشارة إلى أن الجالية الأرمنية فى فرنسا تقدر بنحو نصف مليون نسمة وتزيد على نظيرتها التركية، سواء فى التعداد أو النفوذ والثقل السياسي. كما أن إقرار قانون تجريم الإنكار كان من الوعود الرئيسية لحملة ساركوزى الانتخابية عام 2007.
مواجهات " متعددة"
لقد علق أردوغان على قانون تجريم إنكار إبادة الأرمن قائلا إن التصويت عليه يفتح ويعمق جرحا لا يمكن علاجه فى العلاقات التركية- الفرنسية. فبخلاف قضية الأرمن التى واضح أن المواجهات بين أنقرة وباريس تعددت بشأنها، فإن فرنسا بالقيادة الساركوزية تعد أشد المتربصين بملف عضوية تركيا بالاتحاد الأوروبى، ليس فقط بسبب الخلاف الأزلى بخصوص الملف القبرصى، وعدم اعتراف أنقرة بقبرص اليونانية، لكنه الرفض الكلاسيكى من جانب باريس المؤسسة لانضمام دولة مسلمة -حتى وإن اعتنقت العلمانية- إلى النادى المسيحى الأوروبى.
وبرغم أن المستشارة الألمانية ميركل لم تخف هى الأخرى رفضها لعضوية تركيا، إلا أن ساركوزى الذى تولت بلاده الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبى عام 2008، وحاز من حينها لقب الأنشط بين زعماء أوروبا والأكثر حضورا، كان الأقل دبلوماسية فى رفض العضو المنتظر، وعرض على تركيا وضعية " شريك مميز" لا أكثر.
فرنسا نفسها كانت سببا فى إغلاق خمسة فصول كاملة من أصل 35 فصلا أو موضوعا للتفاوض بين الاتحاد وتركيا، التى بدأت مسيرة المفاوضات عام 2005، وحتى الآن لا تقدم يذكر.
وبرغم العداء المتصاعد بين فرنسا الساركوزية وتركيا ، فإن وزارة الخارجية الفرنسية بقيادة ألان جوبيه جاهرت بمعارضتها لقانون تجريم إنكار إبادة الأرمن ، واضعة فى الحسبان الثقل السياسى والدبلوماسى الذى باتت تركيا تتمتع به عالميا.ويكفى الإشارة إلى آخر أدوار الوساطة التركية بخصوص الملف النووى الإيرانى، والأزمة السورية المتصاعدة، بما تشكله مثل هذه الملفات من حساسية بالنسبة للجانب الأوروبى.
قطاع الأعمال الفرنسى أيضا أصابه القلق، خاصة أن باريس تعد خامس أكبر الأسواق العالمية استقبالا للصادرات التركية، والسادسة فى ترتيب الأسواق التى توفر لأنقرة مختلف الواردات والخدمات. كما أن حجم التعامل التجارى بين الجانبين بلغ نحو 11.6 مليار يورو عام 2010 مع بلوغ عدد الشركات الفرنسية العاملة فى السوق التركى نحو 350 شركة.
من الأطراف أيضا التى لم تمنح تاييدها للخطوة الفرنسية، وإن التزمت الحذر وتجنبت المجاهرة بموقف محدد، كان الاتحاد الأوروبى الذى أكد حياده علنيا، وشدد -على لسان ستيفان فول، المفوض الأوروبى لشئون مشورع التوسع- على أن المسألة لا تزيد على كونها ثنائية بين البلدين، ورفض الزيادة على ذلك. لكن هذه الاعتراضات والحسابات السياسية والفكرية المختلفة لم تحل دون وقوع الواقعة، واصطدام البلدين والقوتين الاستعماريتين قديما.
والسؤال الآن: بعد بلوغ هذه المرحلة، إلى أين تتجه الأزمة؟ وهل يمكن لتركيا حقا زيادة التصعيد؟ .
حاليا، لا يبدو حل قريب ، فتركيا فى أقوى أحوالها حاليا ، لكن، هل يمكن حقا تصعيد عقوبات اقتصادية و سياسية ضد فرنسا؟ يمكن، ولكن بحدود، وليس على الإطلاق. فتركيا تلتزم مع دول الاتحاد الأوروبى بشراكة تجارية يصعب التراجع عنها، ولا يمكن تجميدها مع عضو دون الآخرين.
من جانب آخر، يصعب تخيل إجهاض تحول القانون إلى حيز التنفيذ ، خاصة خلال هذه الفترة الحساسة سياسيا فى فرنسا. الأغلب أن الحل لن يكون سهلا، وسيكون للاتحاد الأوروبى، ككيان أو كدول منفردة، دور فى محاولة احتواء أولى أزمات العام الجديد أوروبيا.