يشهد العالم في الوقت الراهن تحولًا رقميًا سريعًا يعيد تشكيل العديد من المفاهيم التقليدية في العلاقات الدولية، ويفرض تحديات جديدة في مجالات السيادة والأمن. من أبرز هذه التحديات هو مفهوم "الحدود السيبرانية"، الذي بات يشكل محورًا رئيسًيا للنقاشات السياسية والاستراتيجية في مختلف أنحاء العالم. إن الفضاء السيبراني، بما يتضمنه من شبكات معلوماتية مترابطة، قد أعاد تحديد كيفية تعامل الدول مع مسألة السيادة، حيث لا تعترف هذه الحدود بالحدود الجغرافية التقليدية، مما يضع الدول أمام ضرورة إعادة تعريف سيادتها في ظل هذا الفضاء المفتوح.
إنّ موضوع الحدود السيبرانية Cyber Boundaries بات يلقى اهتمامًا كبيرًا بين أوساط الباحثين والأكاديميين ومراكز التفكير العالمية، وله حضور قوي في الأدبيات السياسية والعلاقات الدولية، وبدأت تطفو على سطح النقاش تساؤلات تتعلق بقدرة الدول على التحكم في البنية التحتية الرقمية الخاصة بها وببيانات مواطنيها، مثل: هل الحفاظ على الحدود الإقليمية والمفاهيمية المرتبطة بالمفهوم التقليدي للسيادة يتوافق مع فضاء سيبراني مترابط ومستقل؟
لقد فرض الواقع السيبراني مفاهيم جديدة تتعلق بالجغرافيا من حيث الزمان والمكان والمحيط الجيوسياسي للدول، مما جعله يُظهر هشاشة الحدود الجغرافية وإمكانية اختراقها بسهولة من قبل فاعلين افتراضيين يصعب تحديد هوياتهم أو التعرف على الجهات أو الدول التي تدعمهم وتوفر لهم الملاذ.ومن هنا يتضح أن ثمة العديد من الدول باتت تسعى إلى رسم حدودها السيبرانية بحيث تتماشى مع حدودها الجغرافية، بهدف حماية أمن مؤسساتها التي تواجه تهديدات وهجمات سيبرانية متكررة، إلى جانب الحفاظ على خصوصية المعلومات الشخصية للأفراد، والتي أصبحت مكشوفة ومعرضة لخطر القراصنة. ويأتي ذلك في ظل حالة "السيولة" التي تشهدها أنظمة حماية المعلومات الرقمية، والمخاوف المتزايدة من الجانب "المظلم" للإنترنت، الذي يؤثر سلبًا على العلاقات الدولية، ويحدّ من الاستفادة الكاملة من تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، مما قد يؤدي إلى زعزعة الاستقرار في النظام العالمي.
وعليه فقد أسهم الفضاء السيبراني في تشابك العلاقات بين الدول ضمن سياسات التحرر الاقتصادي والانفتاح، مما أتاح تجاوز الحدود الدولية وتخطيها بشكل غير مسبوق، الأمر الذي أضعف قدرة الدول على فرض سيطرتها كما كان الحال سابقًا. فقد تجاوز الإنترنت مفهوم الحدود الإقليمية واخترقها، ما أدى إلى نشوء فضاء جديد للنشاط البشري، يحدّ من فاعلية القوانين المستندة إلى الحدود الجغرافية. ونتيجة لذلك، أصبحت مسألة السيادة الوطنية في الفضاء السيبراني من أبرز التحديات التي تواجه الدول في عصر التكنولوجيا الحديثة.
كما هو معلوم، تمتلك الدول حدودًا جغرافية برية، وبحرية، وجوية يمكن الدفاع عنها ومراقبتها باستخدام تقنيات مثل الرادار والاستشعار عن بُعد. إلا أن ظهور الفضاء السيبراني استدعى الحديث عن نوع جديد من الحدود، وهي الحدود السيبرانية أو الرقمية، التي تشمل البث التلفزيوني والرقمي، بالإضافة إلى الوصول إلى فضاء الإنترنت. وتكمن صعوبة هذه الحدود في أنها أكثر عرضة للاختراق، حيث تفتقر العديد من الدول إلى القدرات التكنولوجية اللازمة لحمايتها. وهذا يجعل من السهل على الجهات المعادية استهداف الأنظمة والخدمات الحيوية والسيطرة عليها. ولإدراك حجم هذه المخاطر، يكفي أن نتخيل سيناريو يتم فيه اختراق أنظمة تشغيل شبكة الكهرباء أو شركات الطيران، أو حتى مراكز التحكم في البنية التحتية الأساسية مثل البنوك وشبكات المياه، مما قد يؤدي إلى نتائج كارثية على الأمن الوطني والاستقرار الاقتصادي.
تأسيسًا على هذا القول، فإننا نجد أن هناك تحولات مؤثرة عززت من حضور الدولة الوطنية في فرض سطوتها على الفضاء السيبراني داخل حدودها، من خلال استثمارها الرئيسى في البنى التحتية، ووضع قواعد وقوانين لتنظيم المعلومات بحيث تكون الضامن الأخير لاستمرارية تدفق المعلومات والبيانات. فبعض الدول، مثل الصين وإيران تنظران مثلًا إلى التقنيات الرقمية بصفتها ساحة معركة شرسة للمنافسة العالمية، بسبب ما نتج عنها من توترات جيوسياسية بعد فضائح وتسريبات "إدوارد سنودن"، والاستثمار في إمكاناتها لبسط النفوذ على فضائها السيبراني من خلال "استعادة السيطرة" على تدفق بياناتها وحمايتها من عمالقة شركات التكنولوجيا العملاقة. وأصبح مدخل الحوكمة لشبكة الإنترنت معرضًا للخطر مع التوظيف السياسي والاستراتيجي من جانب قوى دولية لإخضاع شبكة الإنترنت إلى شبكة وطنيَّة تحت سيادتها الوطنية وجغرافيتها السياسية، ويظهر هنا دلالة سلبية تدور حول تعريف الحقوق والواجبات الرقمية للدولة، ويمكن أن يستغرق تجاوزها قطع الإنترنت وبناء جدران الحماية الكبرى والمراقبة وانتهاك الحريات. بينما يؤكد البعض على ضرورة استخدام أو قبول مصطلح "السيادة السيبرانية" انطلاقًا من حاجة الدول لحماية معلوماتها الحساسة في الفضاء السيبراني من هيمنة مزودي خدمة الإنترنت للحفاظ على سرية تدفق بياناتها وتوافرها وسلامتها.
بعد تسريبات "إدوارد سنودن"، بادرت بعض الدول إلى طرح مبادرات لإنشاء حدود سيبرانية مستقلة عن الفضاء السيبراني العالمي، وأعلنت عن رغبتها في بناء شبكات إنترنت وطنية. جاء ذلك في سياق تزايد عمليات التجسس والتهديدات السيبرانية التي نفذتها الولايات المتحدة، سواء ضد خصومها أو حلفائها. كما تصاعدت الهجمات السيبرانية ضد شبكات المرافق الحيوية، مع مخاوف من اختراق الشبكات العسكرية وسرقة المعلومات الاستراتيجية أو السيطرة على الأنظمة العسكرية الإلكترونية بواسطة دول وفواعل غير دولية. وفي هذا السياق، اتجهت دول من الاتحاد الأوروبي ومجموعة "البريكس" نحو بناء شبكات إنترنت داخلية لتعزيز أمنها السيبراني.
على الجانب الآخر، تبنّت الصين نهجًا استباقيًا لحماية فضائها السيبراني، الذي يشمل البيئة العالمية للمعلومات، والمكونة من بنى تحتية مترابطة لتكنولوجيا المعلومات، بما في ذلك الإنترنت. وقد سعت الصين إلى فرض سيطرتها القضائية على فضائها السيبراني عبر إنشاء "الجدار الناري العظيم" (Great Firewall of China)، الذي يهدف إلى حماية البلاد من التهديدات الإلكترونية وتعزيز أمن المعلومات على الإنترنت، بالإضافة إلى تأمين الشبكات الخاصة من الاختراقات والتجسس السيبراني.كما سعت إيران إلى اعتماد وتوسيع نطاق السيبرانية وتوسيعها، وخصصت لها موارد هائلة، وذلك لإنشاء فضاء تتحكم فيه وطنيًا.وتحاول الحكومة الإيرانية منذ سنوات تنفيذ خطة لفصل الإنترنت الداخلي عن الشبكة العالمية، فقد أفاد مركز البحوث التابع للبرلمان الإيراني في مايو 2020 أنه جرى إنفاق نحو 190 تريليون ريال (أي ما يعادل 4.5 مليار دولار) على إنشائها، الأمر الذي يخرج مثل هذه الدول شيئًا فشيئًا من دائرة الهيمنة والاحتكار الذي تمارسه الشركات الأميركية في هذا المجال.
تسعى الدول إلى رسم حدودها السيبرانية لحماية مؤسساتها من التهديدات والجرائم السيبرانية المتزايدة، في ظل "سيولة" المعلومات الرقمية وارتفاع مستوى التهديدات السيبرانية. ويؤثر الجانب "المظلم" للإنترنت على العلاقات الدولية، مما يحدّ من فوائد تكنولوجيا المعلومات ويهدد الاستقرار العالمي. وتعتمد هذه الحدود على مكونات تشمل البنية التحتية للإنترنت، وأسماء النطاقات، ومواقع الحوسبة السحابية، والطاقة الداعمة للاتصالات، ما يسمح بإنشاء بوابات لمراقبة تدفق البيانات. ومع ذلك، تفرض هذه الإجراءات تحديات على خصوصية المستخدمين وحرية التعبير، إلى جانب الصعوبات التي تواجه الدول في توطين فضائها السيبراني والتحكم في شبكاتها.
تبدو الفجوة في المرافق السيبرانية الرئيسية المتصلة بالبيانات بين البلدان المتقدمة والنامية واضحة في الهيمنة على نظام الكابلات البحرية هو البنية التحتية الرئيسية التي تدعم الفضاء السيبراني العالمي.فأهمية هذه الكابلات تجعلها في صميم التوترات والتنافس الدولي ضمن مشهد "الصّراع الرقمي" بين الفواعل التي تمتلك الكابلات وتسيطر عليها، والأخرى الساعية لبسط السيادة على بيئتها الرقمية والسيطرة على التدفقات المعلوماتية على حدودها السيبرانية.
وفق هذا المنطلق، أضعفت السيبرانية عامل الجغرافيا، ما سمح بإنشاء فضاءات جديدة تختزل بداخلها كمية معلومات هائلة تخص أمنها الداخلي، ومثّلت معلومات "الدولة الإلكترونية" وضرورة حمايتها وتأمينها هاجسًا جديدًا في أي سياسة أمنية قد تتبناها هذه الدول، وقد نظر بعضها إلى هذا الأمر من منطلق السيادة بمفهومها الجديد، هذه الأخيرة التي تواجه تحديات عدة تنبع من الأنشطة عبر الفضاء السيبراني.
لم تظهر الحدود السيبرانية إلا بتخطي الإنترنت سيادة الدول وحدودها الواقعية التي ساعد فيها تطور الاتصالات الإلكترونية عبورها، وبعد أن أصبحت هناك حالة من التأثير الشبكي المتزايد بين الدولة وخارجها. فقد اتسع استخدام الأفراد، والجماعات، والدول والفواعل من غير الدول، مثل عمالقة شركات التكنولوجيا الحديثة التي تمتد قدرتها إلى السيطرة على البيانات والمعلومات والتفاعل في المجال السيبراني.
إنّ مبدأ السيادة التامة والمطلقة للدولة على إقليمها باتت مسألة نسبية، لمصلحة سيادة مخترقة بعد أن تحدّى الإنترنت المهمّات التقليدية للدولة، وهي: ضمان الأمن الوطني، وتنظيم النشاط الاقتصادي، وفرض نمط من القيم في المجتمع. كما أن للسيادة السيبرانية، في مجال السياسة دلالة إيجابية، تتمحور حول "استعادة السيطرة" من عمالقة التكنولوجيا والشركات العملاقة المهيمنة على الإنترنت، وفي الوقت نفسه، لها دلالة سلبية تترك تعريف الحقوق والواجبات الرقمية للدولة وحدها، ويمكن أن يستغرق تجاوزها قطع الإنترنت وجدران الحماية والمراقبة.
وبهذا نخلص إلى القول إنّ الحدود السيبرانية تحدد سلطة الدولة أو المؤسسة على الموارد السيبرانية التي تقع داخل حدودها. وتختلف الحدود السيبرانية من دولة إلى أخرى، وتتأثر بالتشريعات والقوانين المحلية، وبالعلاقات الدولية واتفاقيات الحماية السيبرانية الدولية. وبما أن الفضاء السيبراني لا يتميز بحدود جغرافية واضحة، فإنّ تحديد الحدود السيبرانية يتطلب تعاونًا دوليًا قويًا واستخدام التكنولوجيا للكشف عن الأنشطة السيبرانية غير المشروعة. وتتضمن الحدود السيبرانية الموارد السيبرانية جميعًا التي تنتجها أو تستخدمها، مثل قواعد البيانات، والبرامج، والأجهزة، والأنظمة، والشبكات ويتعين على الدول والمؤسسات الحفاظ على أمن هذه الموارد وحمايتها من الهجمات السيبرانية غير المشروعة، ويتطلب ذلك تنفيذ سياسات وإجراءات أمنية فعَّالة وتحديثها دوريًا، والتدريب المستمر للموظفين على السلوكيات الأمنية السيبرانية، وتوفير الموارد المالية والتقنية اللازمة لتحسين الأمن السيبراني.