لعب القمح المصرى دورا محوريا منذ فجر التاريخ باعتباره أحد رموز الخير الأساسية فى تاريخ الحضارة المصرية القديمة، وهو أيضا أحد أهم رواسخ الدولة الزراعية التى نشأت عليها تلك الحضارة، فقد أجزم المؤرخون والأثريون أن فكرة صناعة صوامع لتخزين القمح هى فكرة مصرية خالصة، بدأت منذ العصر الحجرى الحديث، ثم تطورت فى عصر ما قبل الأسرات وتنوعت أشكالها وأوصافها وأحجامها فيما بعد، وفى هذا الصدد يؤكد المؤرخون أيضا أن فكرة صناعة صوامع لحفظ القمح وتخزينه فى مصر القديمة أسبق تاريخيا من عصر سيدنا يوسف عليه السلام.
وهذا الأمر فى الأساس يرجع لفكرة استقرار الفلاح المصرى لآلاف السنين على أرضه، وهو ما جعل إنتاجية مصر من القمح ثابتة وعالية لعقود عديدة، الأمر الذى جعلها مطمعا للرومان فى البداية، ومخزنا للإمبراطورية الرومانية بعد ذلك، ففى الوقت الذى اعتمدت فيه دول البحر المتوسط فى القرنين الأخيرين قبل الميلادعلى الرقيق، للقيام بالمهام الزراعية كأحد مهامهم الأساسية، وهو الوقت ذاته الذى شهد فيه حوض البحر المتوسط تغييرات حادة فى توزيع سكانه من جراء كثرة الهجرات والمجاعات والحروب المستمرة وعدم الاستقرار السياسى، كان لاستقرار الفلاح المصرى فى أرضه أحد أهم الأسباب والدعائم لبقاء الإمبراطورية الرومانية، وظلت مصر -مخزن غلال الإمبراطورية الرومانية- محتفظة بسكانٍ مستقرين.
ولأن الأزمات تصنع المعجزات، ولأن من لا يملك قوته لا يملك قراره، فمن هنا كان قرار زراعة القمح مَروِيا بطاقة الإرادة فى قطاع توشكى بجنوب الوادى بمحافظة أسوان، وهو المشروع الذى يعد الأكبر من نوعه فى قطاع الاستصلاح الزراعى فى الشرق الأوسط، كما يعد خطوة مهمة نحو الاكتفاء الذاتى من المحصول،وأيضا أحد المشروعات القومية العملاقة التى نجحت مصر فى إعادة الحياة لها،وذلك بحل كل المشكلات التى كانت تعوق المشروع عن تحقيق مستهدفاته.
وتتمتع منطقة توشكى بظروف مناخية وتربة مناسبة لزراعة القمح، وقد حققت مصر خلال السنوات الماضية قفزات كبيرة فى مجال زراعته فى توشكى بالتحديد وتحسين جودة سلالاته، حتى وصلت المساحات المنزرعة إلى ما يزيد على 500 ألف فدان خلال عام 2024، ومتوقع أن يتم مضاعفة تلك المساحات بما يعكس الإرادة السياسية للدولة المصرية بإيلاء الأهمية القصوى لملف الأمن الغذائى، وما يعكسه من ارتباط وثيق بالأمن القومى والإقليمى، فإذا كان الماء حياة تلوح وتستأثر بها الدول الحاضنة للأنهار، فقد أصبح الغذاء سلاحا فى يد الدول المنتجة له.
وعلى ذكر رواسخ الأمن القومى، فقد نشأ وظهر هذا المصطلح فى مصر منذ العصر المصرى القديم، حيث كان ولا يزال مرتبطا ارتباطا وثيقا بأمن وسلامة واستقرار الدولة ونهضتها، كما يعتمد هذا المفهوم على الدور والمهام والمسئوليات التى يقوم بها الملك أو الحاكم والحكومة بتشريعاتها وقوانينها فى حماية البلاد وتأمين حدودها وضمان سلامة أراضيها ومواطنيها وممتلكاتها ومصالحها المختلفة فى كافة المجالات، حيث نشأت الإمبراطورية المصرية القوية محققة فترات من الازدهار والبناء والنمو والاستقرار من خلال الحضارة المصرية العظيمة، والتى كانت ولا تزال تؤثر وتدهش العالم حتى يومنا هذا، فى الوقت الذى عاشت فيه معظم البشرية فى ظلام وجوع وحروب متكررة خلال تلك الفترة الزمنية من التاريخ.
وتظهر تلك الأحداث عبر التاريخ المصرى كيفية تطور مفهوم الأمن القومى فى البلاد، مع التركيز على الدور المهم والمؤثر للحاكم وقوات الأمن فى تأمين وحماية المصالح المصرية، كما تستعرض تلك الأحداث أيضا أشكال تلك الإمبراطورية وأحوالها والعوامل التى أدت إلى صعودها ونهضتها عبر استرجاع عدة صفحات ولوحات خالدة ومحفورة فى التاريخ وصولا إلى عصرنا الحديث هذا.
ولأن مصر عرفت كيفية فرض الأمن والنظام عبر المؤسسات الأمنية منذ فجر التاريخ، فقد تبلورت تلك الجهود فى تأسيس مصالح وقطاعات شرطية وأمنية توفر تلك الخدمات الأمنية، وما يتعلق بها من خدمات ذات طابع قانونى،ولأن التطورات التكنولوجية والمتغيرات السياسية والأمنية إقليميا أفرزت حزمة من التحديات، فقد استدعى الأمر تطوير هياكل المؤسسات الأمنية فى مصر، وتطويرها لمواكبة هذا الاشتباك والتداخل بين أدوار تلك الأجهزة ونظائرها فى المنطقة.
وفى هذا السياق، فقد نجحت الدولة المصرية فى رفع معدلات الأداء الشرطية من خلال حزمة من البرامج الأمنية، وأصبحت المدن المصرية فى صدارة التصنيفات المتعلقة "بأمن المدن"، ووفقا لمؤشر جالوب للقانون والنظام لعام 2018، والصادر عن مؤسسة (جالوب) الدولية المتخصصة باستطلاعات الرأى، وبعد استطلاع رأى العديد من المواطنين صرحوا فيها بأنهم يشعرون بمستوى عالٍ من الأمن والاستقرار، وصلت مصر وفقا لاستطلاع الرأى الذى شمل (142) دولة إلى المركز الـ (16)، لتتساوى مع الدنمارك، وسلوفينيا، ولوكسمبورج، والنمسا، والصين، وهولندا،من حيث شعور المواطنين بالثقة فى الأجهزة الشُرَطِية وإجراءات تطبيق القانون عبر المؤسسة الأمنية، بالإضافة إلى اطمئنانهم للسير ليلا فى تلك المدن، وبهذه المرتبةتفوقت الشرطة المصرية على نظيراتها فى عدة دول، مثل بريطانيا، وإسبانيا، واليابان، والولايات المتحدة، وبلجيكا، وإيطاليا، وتركيا، وروسيا.
ويأتى هذا التطور المتنامى فى أداء الشرطة المصرية نتاجا لعملية منتظمة من إعادة الهيكلة لأجهزة وقطاعات الوزارة، كذلك تفعيل أدوار المجتمع المدنى، وإدارات الرقابة المختلفة على أداء المنظومة الأمنية، وصولا إلى صياغة برامج عمل ومبادرات فعّالة فى مواجهة عدد من الظواهر والمشكلات السلبية داخل المجتمع المصرى، كإطلاق عدة مبادرات لمواجهة الهجرة الشرعية منذ عام 2016، والبدء فى تفعيل برامج عمل مشتركة مع عدد من الدول الأوروبية للقضاء على تلك الظاهرة، الأمر الذى يجعل الدور الأمنى الداخلى يعمل بمحاذاة الدور العسكرى المخول للقوات المسلحة للبلاد.
أليس هذا هو العيش والحرية والكرامة الإنسانية؟!