شهدت العاصمة الرومانية بوخارست مظاهرات ضخمة خلال الأيام الماضية شارك فيها عشرات الآلاف من المواطنين احتجاجًا على قرار المحكمة العليا الرومانية فى السادس من شهر ديسمبر الماضى بإلغاء الانتخابات الرئاسية قبل يومين من جولة الإعادة، وهى خطوة غير مسبوقة أثارت اضطرابات واسعة النطاق فى البلاد. وقد طالب المتظاهرون بالعودة إلى الديمقراطية وإجراء الجولة الثانية من الانتخابات واستقالة الرئيس المنتهية ولايته كلاوس يوهانيس، معتبرين ما حدث "انقلابا على الشرعية الشعبية" التى صوتت لكالين جورجيسكو وجعلته يحتل الصدارة. ولعلها من المفارقات أن المرشح اليمينى المتطرف جورجيسكو لم يظهر فى استطلاعات الرأى خلال الحملات الانتخابية ضمن أهم الشخصيات المتنافسة فى سباق الرئاسة، مع ذلك، سجل مفاجأة للأحزاب السياسية لفوزه بأعلى الأصوات التى كانت قد أهلته لخوض الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية قبل أن تلغى المحكمة العليا النتيجة. التقرير التالى يحاول فهم ما حدث خلال الانتخابات الرئاسية فى هذا البلد ذى الموقع الاستراتيجى بقلب أوروبا المنضم حديثا لمنطقة الشينجن والمجاور لأوكرانيا، مع توضيح أسباب إصدار المحكمة العليا قرارها بإلغاء الانتخابات، وتداعيات ذلك على المشهد السياسى فى رومانيا، ومخاوف الاتحاد الأوروبى، خاصة من سيناريو تحول رومانيا نحو اليمين المتطرف وأن تكون ضربة فى خاصرة الاتحاد الأوروبى من خلال قيادتها لدول وسط وشرق أوروبا المؤيدة لروسيا.
قرار المحكمة العليا الرومانية بإلغاء نتيجة الانتخابات الرئاسية بعدما أسفرت الجولة الأولى عن الفوز المفاجئ للمرشح اليمينى المتطرف المستقل كالين جورجيسكو اعتمد بشكل أساسى على اتهامات بتدخل الكرملين فى حملات التأثير لتسهيل فوز جورجيسكو، حسبما ذكرت وسائل إعلام رومانية.وقد أشار قرار المحكمة العليا إلى استخدام غير قانونى للتقنيات الرقمية مثل الذكاء الاصطناعى ومصادر تمويل غير معلنة، ألقى بظلال من الشك على العملية الانتخابية. وقد طعن جورجيسكو فى قرار المحكمة أمام محكمة استئناف محلية، كما قدم شكوى إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. ولم يتضح حتى الآن ما إذا كان سيُسمح لجورجيسكو بالمشاركة فى الانتخابات الجديدة التى وافقت الأحزاب السياسية على إجرائها خلال شهر مايو على جولتين.
"دراكولا" الجديد مرشح "التيك توك":
لفهم كيفية فوز المرشح اليمينى المتطرف المستقل كالين جورجيسكو، البالغ من العمر 62 عاماً، وبالعودة إلى حملته فسنجدها قد ركزت فى المقام الأول على مواقع التواصل الاجتماعى، وبالتحديد منصة تيك توك التى حصد حسابه عليها 7.2 مليون إعجاب و646 ألف متابع. ويدرك الخبراء المتخصصون فى الإعلام الجديد أن الشعبية على هذه المنصات يمكن تضخيمها بشكل مصطنع. لكن لم يتوقع أحد أن تنجح فى الدفع بمرشح رئاسى إلى صدارة الترتيب وبشكل غير مسبوق.
وبفحص أفكار وأطروحات جورجيسكو على حسابه على موقع التواصل الاجتماعى يُلاحظ انتقاده الاتحاد الأوروبى وحلف شمال الأطلسى "الناتو"، بينما يشيد بالرئيس الروسى بوتين باعتباره "وطنيا"، كما أشاد فى منشورات قديمة نسبيا بأمير الحرب فى العصور الوسطى والبطل القومى، فلاد المخوزق (المعروف أيضا باسم دراكولا) حتى إن بعض المتابعين لحساب جورجيسكو أطلقوا عليه " نيو دراكولا" أو دراكولا الجديد. وهذه الأفكار المتطرفة تعتبرها غالبية الأحزاب فى رومانيا خطرا على القيم السياسية فى البلاد، بل يصل الأمر إلى الاتهام بالخيانة والولاء لدولة أخرى هى روسيا ورئيسها بوتين، وهما حاليا فى مصاف الأعداء للدول الأوروبية وشعوبها. وهذا الجانب هو ما يفرق بينه وبين المرشح اليمينى زعيم الحزب القومى الشعبوى المحافظ (AUR) جورج سيمون، المنضم لتحالف مجموعة اليورو المحافظة، والذى أظهرت استطلاعات الرأى خلال الحملة الانتخابية أنه أقوى منافس فى سباق الرئاسة أمام رئيس الوزراء المرشح بدوره للرئاسة سيولاكو.
وكانت التحليلات تشير إلى أن المواطنين الرافضين لاستمرار المساعدات الرومانية لأوكرانيا والذين يرون أنها أرهقت كاهلهم سوف يدعمون سيمون دون إيلاء أى اهتمام للمرشح الأكثر تطرفا جورجيسكو. لذلك جاء فوز الأخير مفاجأة مدوية غير متوقعة للأحزاب والقوى السياسية الأخرى المتنافسة فى الانتخابات، لدرجة أن الليبراليين توجّهوا على الفور إلى حساباته على الإنترنت، لمحاولة معرفة ما يمثله ومن أين أتى بذلك الدعم وتقدموا بشكاوى إلى الجهات المسئولة عن الرقابة.
سرقة "هاشتاج" الليبراليين:
كشف موقع بوليتيكو بتاريخ 21 ديسمبر 2024 النقاب عن سر فوز جورجيسكو بفضل مواقع التواصل الاجتماعى بشكل غير مسبوق. وأشار الموقع إلى تحقيق استقصائى جديد صادر عن موقع (snoop.ro) أفاد بأن الحزب الوطنى الليبرالى الرومانى الذى ينتمى إلى يمين الوسط، دفع تكاليف حملة على منصة تيك توك كان لها دور رئيسى فى تفضيل المرشح المستقل اليمينى المتطرف كالين جورجيسكو. وأضاف الموقع أن جورجيسكو قفز إلى الصدارة فى الجولة الأولى من التصويت فى الانتخابات الرئاسية الرومانية فى 24 نوفمبر الماضى بفضل حملة منصة تيك توك التى روجت بشدة لجورجيسكو. وقالت إن التأثير جرى على غرار عمليات التأثير السابقة التى أدارها الكرملين فى مولدوفا، وجورجيا، وأوكرانيا.
ومن المفارقات التى كشف عنها التحقيق الاستقصائى أن مصلحة الضرائب الرومانية أوردت أن الليبراليين هم الذين دفعوا مقابل حملة على وسائل التواصل الاجتماعى، منها تيك توك، من خلال مؤثرين ومن خلال الترويج "لهاشتاج" لخدمة حملتهم، لكن انتهى الأمر "باختطاف" ذلك"الهاشتاج" لصالح جورجيسكو بدلاً من المرشح الليبرالى. ومن هنا شكلت منصة للتواصل الاجتماعى لأول مرة فارقا جوهريا فى التأثير على أصوات الناخبين فى سباق رئاسى، ومن خلال سرقة محتوى "الهاشتاج"!
خيبة أمل فى شركات استطلاع الرأى:
شكلت شركات استطلاع الرأى خيبة أمل للسياسيين الذين كانوا يثقون فى نتائجها حيث حملوها مسئولية "الفضيحة" المتمثلة فى عدم ذكرها حظوظ المرشح جورجيسكو ضمن أهم الشخصيات المتنافسة فى سباق الرئاسة، فى حين ركزت على خمسة متسابقين فقط، هم: مارسيل سيولاكو، جورج سيميون، ميرسيا جيوانا، إيلينا لاسكونى، ونيكولاى سيوكا. وفشلت بذلك كافة توقعات تلك الشركات، والمفارقة هى كونها لم تقدم قراءة واقعية لسلوك الناخبين الذين أظهرتهم مؤيدين للمرشح الاشتراكى الديمقراطى (رئيس الوزراء) فى حين انهم اختاروا المرشح الأكثر تطرفا والمنحاز لقضاياهم الأكثر إلحاحا، مثل الفقر، والتهميش، وارتفاع تكاليف المعيشة، والتضخم، والعجز فى الموازنة، ومعالجة الديون المتراكمة، ناهيك عن تداعيات استمرار الحرب فى أوكرانيا على حياتهم وعدم الثقة فى حلف الناتو وقدرته على الدفاع عن أعضائه.
ومن المؤاخذات الأخرى على شركات استطلاعات الرأى أنها أظهرت مارسيل سيولاكو المرشح للسباق الرئاسى صاحب الحظوظ الأوفر مقارنة بمنافسيه الأربعة الآخرين، باعتباره رئيس الوزراء وزعيم للحزب الديمقراطى الاجتماعى (PSD)، فى المقابل لم يترشح للدور الثانى وجاء ترتيبه فى المركز الثالث بعد إيلينا لاسكونى زعيمة حزب "انقذوا رومانيا" المعارض للحكومة. وهناك شكوك حول مدى استفادة سيولاكو من وجوده بالسلطة حيث أشادت به العديد من شركات ومراكز الدعاية لكونه على دراية بأهم المشكلات الاقتصادية لبلاده والقضايا ذات الأولوية لدى المواطن الرومانى، رغم قضايا الفساد خلال العقد الماضى والتى ارتبطت بالحزب الديمقراطى الاجتماعى الذى يتزعمه.
ومن المفارقات أيضا أن استطلاعات الرأى أظهرت أن سيميون، وسيوكا، ولاسكونى متقاربون للغاية ورشحت أيًا منهم لمواجهة سيولاكو فى جولة الإعادة. وقد تكون شركات سبر الآراء قد استسهلت أيضا واعتمدت على مؤشرات قديمة من الانتخابات السابقة، حيث كانت معركة الجولة الثانية تجرى عادة بين مرشح الحزب الاشتراكى الديمقراطى من يسار الوسط ومرشح من حزب التحرير الوطنى من يمين الوسط.
وهكذا فإن فشل استطلاعات الرأى ومن يديرها أو يؤثر عليها من مراكز القرار يعتبر خيبة أمل ونكسة للديمقراطية فى نظر الكثير من المراقبين للساحة السياسية الرومانية، كما أن استخدام وسائل التواصل الاجتماعى للحد الذى يساهم فى تفوق مرشح دون آخر أمر أصبح لافتا ويثير المخاوف ويستوجب الدراسة سواء فى رومانيا أو فى الاتحاد الأوروبى ككل، خاصة عندما يتعلق الأمر بالترويج لأفكار تؤثر فى المزاج الانتخابى وتؤدى لتصاعد الخطاب المتطرف والمناهض لحلف شمال الأطلسى كما هو الحال فى واقعة جورجيسكو الذى يشكك فى الركائز التى قامت عليها الوحدة الأوروبية ويصف درع الدفاع الصاروخى للناتو فى رومانيا بأنه "عار على الدبلوماسية".
تحديات ومخاطر مستقبلية:
يرجح مراقبون استمرار المظاهرات فى شوارع رومانيا خلال الفترة المقبلة والتى تسجل مع كل نهاية أسبوع انضمام المزيد من القوى السياسية اليسارية واليمينية للاحتجاج على الطريقة التى ألغيت بها الانتخابات والمطالبة بالعودة للديمقراطية واستئناف الانتخابات الرئاسية بالجولة الثانية.
فى تلك الأثناء، كان البرلمان قد وافق بفارق ضئيل على تشكيل حكومة ائتلافية بقيادة سيولاكو مجددا ليطول بذلك عمر وزارته لحين موعد إعادة الانتخابات الرئاسية التى تم تحديد الجولة الأولى منها فى 4 مايو، على أن تُعقد الجولة الثانية فى 18 مايو إذا لم يحصل أى مرشح على الأغلبية. وفى ضوء عدم اتضاح ما إذا كان سيُسمح لجورجيسكو بالمشاركة فى الانتخابات الجديدة أم لا فإن الاتحاد الأوروبى وأعضاءه فى حلف الناتو وكذلك القوى الغربية ستظل تراقب ما يجرى على الساحة السياسية الرومانية خلال الأيام والشهور المقبلة على أمل أن تنقشع الأزمة العميقة وتعقد الانتخابات الرئاسية فى هدوء وبنجاح مع حرمان متوقع ومأمول لجورجيسكو من خوضها. ولعل وجود حدود مشتركة بين رومانيا وأوكرانيا بطول 650 كيلومترًا، يجعلها ذات دور استراتيجى حيوى فى دعم كييف ضد روسيا، وهو دور لا يقبل المجازفة أو المخاطرة بالنسبة للأوروبيين بصعود رئيس معارض لهذه السياسات. كما أن رومانيا واحدة من المنافذ المحورية لتسهيل تصدير الحبوب الأوكرانية نحو أوروبا والعالم، وعلى الجانب الثانى فى دخول مساعدات عسكرية أوروبية إلى أوكرانيا. غير أن خوض جورجيسكو الانتخابات الرئاسية وفوزه المحتمل لا يزال يثير المخاوف الأوروبية حول المستقبل من مخاطر تحول جذرى فى السياسة الرومانية تجاه أوكرانيا وتجاه الانخراط مع الاتحاد الأوروبى والناتو. وستبذل كافة الأطراف المتضررة الجهود للحيلولة دون حدوث هذا السيناريو فى دولة مثل رومانيا، إذا خرجت عن التأييد للغرب وسياسات الاتحاد الأوروبى وحلف الناتو، فإنها ستقود بالتأكيد حزاما من الدول فى وسط وشرق أوروبا يتزعمها سياسيون يوصفون بكونهم "شعبويين مستبدين ومؤيدين لروسيا"، مثل المجر، وسلوفاكيا، والنمسا.