لطالما مارسنا لسنوات طويلة جلد الذات واتهمنا أنفسنا بفقر الإنتاج، وتواضع الصناعة، وتراجع الابتكار، وغلق الأبواب أمام بوابة التصدير، وفتح باب الاستيراد على مصراعيه، عملاً بالمثل الشعبي "شِرا العبد ولا تربيته"، ومازلنا نمارس تلك الهواية المَرَضِية عن جهل أو عمد أو عِند، لا أعلم مبرراً محدداً لتجاهل كل المحيطات من المحاولات بل والتطبيقات العملية الناجحة بتفوق التي قد نعلم بها أو نراها رؤية العين أحياناً، أو على شاشات التلفاز أحياناً أخرى، ومع كل هذا نتجاهلها أو نغض بصرنا عنها.
عملية الإنكار أو التسفيه تلك لا تزيد الناجح إلا إصراراً على تحقيق مزيد من النجاح، حتى وإن أقصت ناجحاً عن المضي قدماً في طريقه، فهو حتماً ستجده يشق طريقاً آخراً لتحقيق نجاح أكثر لفتاً للإنتباه، بما يجعلهم يرتدون نظاراتهم الشمسية من فرط بريقه.
أحدثكم عن موانئنا العامرة بآلاف السفن العابرة للبحار والمحيطات في كل الاتجاهات، والحاملة لكل الحاويات الحاملات للهوية المصرية بصناعة وطنية تحمل بفخر جملة "صنع في مصر"، وهي نفسها ذات الجملة التي يحملها البرنامج التليفزيوني الذي سيُعرض في موسمه الثالث على التوالي، وأتابعه بشغف وحماس مع ملايين غيري، وهو برنامج "الكونتينر" للفنان المصري المتميز/ أحمد داوود، الذي يعتبر وبحق خير من يقوم بتلك المهمة الوطنية.
أتعجب في كل مرة أشاهد حلقات هذا البرنامج، وأنا التي أدعي حرصي منذ الصغر على شراء المنتج المصري مهما كان متواضعاً، تحفيزاً له وتشجيعاً له، كما أزعم متابعتي لمعظم الخطوات الإنتاجية التي تقوم بها الدولة في كل القطاعات وبالأخص القطاع الصناعي، إلا أنني مازلت أجد في كل حلقة أتابعها أن ما نعلمه أقل بكثير عما لا نعلمه، ليشق هذا البرنامج طريقه إلى عقولنا ووجداننا الذي ارتبط فيما مضى بالكثير من الصناعات المصرية الفاخرة.
فكثير من أبناء جيلي يتذكرون حتماً الزيارات المدرسية لمصانع بم بم وبسكو مصر والشمعدان، وهي مصانع جميعها خاصة بالأغذية لكنها مازالت عالقة بالذاكرة، ما بالك بتلك الصناعات المبهرة التي تعرضها شاشة برنامج الكونتينر، والتي لا نعلم عنها شيئاً رغماً عن كونها صناعات رائدة في مجالها ومحيطها وغير محيطها الجغرافي، حيث يقوم البرنامجبجولات مختلفة في عدد من المصانع المصرية التي تقدم منتجات تحت شعار "صنع في مصر" للبيع في السوق المصرية والتصدير لكل دول العالم، وتوفير العملة الصعبة ونشر المنتجات المصرية ذات الجودة العالية.
كما يهدف البرنامج إلى استعراض الثورة الصناعية التي أحدثتها مصر في السنوات الماضية، ويزور مصانع مصر في مختلف المحافظات، ليرصد تطور صناعات النسيج، الصناعات الدوائية، الصناعات الغذائية، صناعة الألومنيوم، وصناعات البتروكيماويات، والجلود، والمنتجات الصحية، ومواد البناء والتعمير، والسيارات، والتجهيزات الأمنية وأجهزة الاتصالات، وغيرها من الصناعات.
حيث ناقش الموسم الأول من البرنامج فكرة "عقدة الخواجة"، وأن البعض لا يعرف قيمة صناعاته الوطنية، على الرغم من أن دول العالم تحاول أن تكون أفضل من مصر في بعض الصناعات التي تتميز بها الأيدي الوطنية.
كما سلط الضوء على حرص مصر في السنوات الماضية–آخر خمس سنوات بالأخص- على خوض مصر لمضمار كل الصناعات الأساسية أو التكميلية، سواء ملابس أو إكسسوارت أو صناعات غذائية أو جلود أو أجهزة كهربائية أو حتى صناعات ثقيلة،ليخرج من الدولة يومياً آلاف الحاويات المُحملة ببضاعة تحمل علامة "صُنِع في مصر" متجهة إلى كل بلاد العالم، حتى أصبحت مصر مؤخراً بها نقلة نوعية على الخريطة الصناعية، وأصبحت لاعباً أساسياً في العديد من الصناعات المتطورة.
يعتبر ملف توطين الصناعات من الملفات شديدة الحساسية التي ترقى لمصاف تصنيفات "الأمن القومي المصري"، فمن لا يملك قوت يومه لا يملك قراره، والأمر بالطبع قد تخطى منذ زمن فكرة قوت اليوم من قمح وسكر أو حتى مواد بترولية، فتطور العالم وتغير معطياته وفقاً لترتيبات الصراعات الدائرة هنا وهناك، التي تديرها الأيادِ الخفية وتعلم تحديداً متى تغلق باباً للصراع لتفتح له جبهة أخرى في بؤرة أخرى، يحتم علينا تحقيق أقصى درجات الاكتفاء الذاتي، ليس فقط توفيراً للعملة الأجنبية، ولا تحقيقاً للربح الوطني، ولا انتصاراً للكرامة القومية، ولا ترسيخاً لمبادىء السمعة الدولية، بل وتحقيقاً لمحاور الأمن الوطني المصري وترسيخاً له، فما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت.
فضلاً يا كل صناع الإعلام، أزيدونا من تلك النوعية من البرامج التي تتحدث صدقاً، وتنقل واقعاً، وتصنع تحصيناً ووعياً ناضجاً مستنيراً صانعاً للفوارق، في عصر السماوات المفتوحة الذي عز فيه الصدق وساد فيه الزيف.