ما الذى حققه الحوار الوطنى منذ إطلاقه وحتى هذه اللحظة؟. سؤال إشكالى وجدلى، وأغلب الظن أن النقاش بشأنه يشبه العديد من الأسئلة التى تكون الإجابة عنها بطريقة الأبيض والأسود. رأيى الشخصى أن الحوار الوطنى حقق الكثير من الأهداف، حتى من قبل أن يتم تنفيذ غالبية التوصيات التى رفعها مجلس الأمناء إلى الرئيس عبدالفتاح السيسى والتى أحالها بدوره إلى الحكومة أو البرلمان. سأحاول فى هذه السطور أن أرصد تجربة الحوار الوطنى بصورة موضوعية قدر المستطاع مركزا على دور الحوار فى حلحلة ملف حقوق الإنسان، حيث حقق انفراجة فى الملف عبر موجات متلاحقة من الإفراجات عن أكثر من ألفى محبوس على ذمة قضايا سياسية.
أولا ــ اهتمام رئاسى لافت:
الرئيس عبدالفتاح السيسى أطلق الدعوة إلى الحوار الوطنى فى ٢٦ أبريل من عام ٢٠٢٢ خلال إفطار الأسرة المصرية. ويومها أيضا، أعلن إعادة تفعيل لجنة العفو الرئاسى، وسوف نكتشف أن هذا التزامن كان مهما ومقصودا. الرئيس حدد هدف الحوار الوطنى يوم إطلاقه فى البحث عن مساحات مشتركة بين القوى السياسية المختلفة، ولاحقا قال الرئيس السيسى إن الهدف هو «أن نسمع بعضنا البعض». ويقول البعض إن الحوار استغرق وقتا طويلا قبل أن يبدأ فى الانعقاد الفعلى، وهؤلاء يتعاملون مع الحوار وكأنه عملية سهلة ويتغافلون عن الحال التى كان عليها المشهد السياسى فى مصر قبل انطلاقه، ما قبل الحوار الوطنى لم يكن هناك نقاش سياسى أساسا. الحياة السياسية كانت شبه مجمدة، وغالبية الناس نسيت أن هناك أحزابا سياسية. وحينما بدأ الحوار عادت الأحزاب للحديث، بل والظهور فى قنوات التليفزيون ووسائل الإعلام المختلفة، بما فيها القومية أو المؤيدة للدولة.
ثانيا ــ حضور حزبى:
وبعد الحوار رأينا نشاطا حزبيا فاعلا، من خلال مشاركة قطاعات حزبية واسعة. ورأيى الشخصى أنه لولا الحوار الوطنى ما خاض فريد زهران رئيس الحزب المصرى الديمقراطى الاجتماعى انتخابات الرئاسة فى الشتاء الماضى، ولولا الحوار الوطنى ما فكرت جميلة إسماعيل رئيس حزب الدستور فى خوض الانتخابات قبل أن تتراجع لاحقا لعدم حصولها على التوكيلات القانونية اللازمة منذ لحظة إطلاق الحوار فى ٢٦ أبريل وحتى انعقاد أول اجتماع لمجلس الأمناء فى الأسبوع الأول من يوليو ٢٠٢٢، كانت هناك محاولة جادة أن يأتى تشكيل مجلس الأمناء معبرا عن كل التيارات والقوى السياسية والمجتمعية والخبراء وكان لافتا مثلا وجود نجاد البرعى وهو واحد من أهم وأبرز رموز مجتمع حقوق الإنسان فى مصر إضافة إلى عدد كبير من ممثلى هذا المجتمع فى لجنة حقوق الإنسان فى المحور السياسى خصوصا المحامى المعروف أحمد راغب، وخلال الجلسات التى ناقشت موضوعات حقوق الإنسان والحبس الاحتياطى فقد رأيت بعينى كل ممثلى المنظمات الحقوقية حاضرين ومناقشين ومنتقدين ومتفقين هنا أو هناك، وكانت هناك أيضا العديد من اللقاءات بين منسق الحوار الوطنى ضياء رشوان وبعض ممثلى هذه المنظمات بما أتاح الاستماع لوجهات نظرها كاملة. وقد تشرفت باختيارى عضوا فى مجلس أمناء الحوار الوطنى، وأتذكر جيدا أن كل أعضاء مجلس الأمناء الحادى والعشرين وفى مقدمتهم المنسق العام ضياء رشوان، ورئيس الأمانة الفنية المستشار محمود فوزى، قد توافقوا على أهمية مشاركة الجميع فى الحوار باستثناء القوى الإرهابية أو من يرفض الدستور، وبالتالى تم قطع الطريق على دعاة العنف والإرهاب، ومن هنا يمكن فهم لماذا تعرض الحوار لهجمات وتشكيكات متواصلة من أنصار هذه القوى الذين حلموا فى بداية انطلاقه أن يكونوا بين المشاركين كبوابة للعودة إلى المشهد السياسى. وأتذكر جيدا وخلال الجلسات الأولى طوال أول شهرين من الحوار الوطنى وأثناء وضع قائمة بالقضايا واللجان والمحاور أن الخلافات كانت كثيرة بين غالبية الحاضرين. لغة الحوار فى البداية كانت التربص والجدل والتشكيك، لكن هذه الحال انتهت تماما لتنشأ أولا علاقة إنسانية بين الجميع، والأهم تطبيق شعار الحوار وهو «البحث عن المساحات المشتركة» وترجمة ذلك عمليا أن الأعضاء جميعا اتفقوا على أن إدارة النقاش والتوصيات ينبغى أن تتم بالتوافق وليس بالتصويت تطبيقا لفكرة «المساحات المشتركة».
ثالثا ــ حقوق الإنسان .. قضية إستراتيجية:
وطوال اجتماعات الشهور الثلاثة الأولى سعى مجلس الأمناء لوضع آلية واضحة للنقاش واختيار الموضوعات التى سيتم مناقشتها. وكان البعض يريد أن يشمل الحوار كل القضايا، لكن فى النهاية انتصرت وجهة نظر عاقلة تقول إنه سيتم مناقشة أى قضية يمكن الوصول فيها إلى توصيات قابلة للتطبيق، وليس فقط مجرد كلام فى الهواء. ولا أرد على المتربصين والمشككين فهؤلاء لا أمل فى إقناعهم، لكن أعذر الذين يقولون إن وقتا طويلا قد مر دون أن تظهر نتائج عملية للحوار الوطنى. وظنى أن على هؤلاء الذين يتحدثون بحسن نية الانتباه والمقارنة بين المشهد السياسى والحقوقى قبل وبعد انطلاق الحوار الوطنى. وبعد هذا العرض البانورامى سوف أركز على الدور الذى لعبه الحوار الوطنى فى دعم فكرة حقوق الإنسان. لم يكن صدفة أنه فى اليوم الذى أطلق فيه الرئيس السيسى الدعوة إلى الحوار الوطنى فقد قرر أيضا تفعيل لجنة العفو الرئاسى، التى كان انطلاقها الأول مع مؤتمر الشباب فى شرم الشيخ عام ٢٠١٧ لن أتحدث عن كلمات إنشائية، لكن ومنذ انطلاق الحوار الوطنى وحتى الآن فقد تم الإفراج عن أكثر من ألفى سجين كانوا محبوسين على ذمة قضايا سياسية. وقبل انطلاق الحوار الوطنى كان المشهد السياسى شبه مجمد لأسباب كثيرة أهمها تفرغ الدولة لمحاربة الإرهاب، وإقامة البنية الأساسية. وأتذكر جيدا أن التوصية الأولى والمتكررة التى كانت تحظى بأكبر قدر من التوافق بين كل أعضاء مجلس الأمناء ثم داخل جلسات الحوار فى المحور السياسى وبالتحديد فى لجنة حقوق الإنسان، كانت مناشدة رئيس الجمهورية وجميع الجهات ذات الصلة بالإفراج عن أكبر عدد ممكن من المحبوسين على ذمة قضايا سياسية. وللموضوعية فإن استجابة مؤسسة الرئاسية لهذه المناشدات كانت جيدة ومقدرة فى كل الأوقات سواء على مستوى الإفراجات الفردية أو الجماعية.. وأحد الأدلة على ذلك الإفراج عن الباحث باتريك زكى والمحامى محمد الباقر فى ١٩ يوليو عام ٢٠٢٣ بعد صدور حكم نهائى وبات ضد زكى بالسجن ثلاث سنوات، وهو الأمر الذى استقبله كثيرون حتى من قوى المعارضة المدنية بأنه خطوة إيجابية جدا. وغالبية رموز المعارضة المدنية الذين كانوا محبوسين سواء كان حبسا احتياطيا أو بعد الحكم عليهم حكما نهائيا وباتا، تم إطلاق سراحهم، ومنهم أسماء معروفة جدا، خصوصا زياد العليمى، وحسام مؤنس، وهشام فؤاد، وخالد داود، والأخير خرج من السجن ليحضر حفل إفطار الأسرة المصرية، ويشارك كمقرر مساعد فى إحدى لجان المحور السياسى بالحوار الوطنى. وعلى المنوال نفسه فإن جلسات الحوار الوطنى ساهمت بشكل فعال فى إعطاء مزيد من الزخم لحقوق الإنسان على مستويات مختلفة. فإضافة إلى الإفراجات المتتالية عن المحبوسين ساهمت مثلا فى إعادة الحياة إلى مجاريها بين الدولة المصرية والعديد من القوى السياسية والحقوقية. وأعتقد أن هذا التواصل لعب دورا مهما للغاية فى مد الجسور بين الطرفين وإزالة العديد من جوانب سوء الفهم بينهما، فإن التواصل أخمد العديد من الحرائق التى كان يمكن أن تصيب كثيرين بشررها، وظنى أن الحوار الوطنى أقنع العديد من المنظمات الحقوقية أن الأمور ليست بالصورة القاتمة التى كانوا يتصورونها، وأقنع الدولة بأنه ليس صحيحا أن كل الحقوقيين لهم أجندات خارجية، وأن كل همهم هو الدولارات الخضراء، وأن هذا ينطبق على قلة منهم وليس جميعهم. ونتذكر أيضا أنه خلال انعقاد جلسات الحوار الوطنى فقد جرى تسوية نهائية لقضية التمويل الأجنبى لعدد من المنظمات الحقوقية، والتى بدأت بعد ثورة يناير مباشرة واستمرت حتى شهور قليلة مضت. وهل معنى كلامى السابق أن حقوق الإنسان فى مصر صارت مثل الدولة الغربية التى قطعت طريقا طويلا فى هذا المضمار، وصارت تتمتع بحقوق وحريات كاملة بل يراها البعض منفلتة؟. الإجابة هى لا قاطعة، ولكن كل ما أريد إن أقوله أن انطلاق الحوار الوطنى كان له آثار إيجابية على المشهد السياسى عموما، والحقوقى خصوصا، وبينما لا تزال العديد من الملفات فى المحور السياسى عالقة، مثل قوانين الانتخابات وتداول المعلومات، فإن الإفراج عن العديد من المحبوسين شهدت انفراجات واسعة، وكشفت عن اهتمام عميق للدولة المصرية بالملف الحقوقى من خلال حرص المؤسسات الرسمية وفى الصادرة منها المؤسسة الرئاسية على رعاية ودعم القضايا الحقوقية، وتوفير مناخ صحى لتطورها. وهناك تطور مهم وهو أن الحكومة استجابت لتوصيات الحوار الوطنى فى قضية الحبس الاحتياطى، ورأينا الرئيس السيسى بنفسه يغرد متضامنا ومؤيدا لتوصيات الحوار الوطنى فى هذا الصدد وطالب بألا يتحول هذا الإجراء الوقائى إلى عقوبة منفصلة، ففى ٢١ أغسطس الماضى وجه الرئيس بـ «تخفيض الحدود القصوى لمدة الحبس الاحتياطى كإجراء وقائى تستلزمه ضرورة التحقيق دون أن يتحول إلى عقوبة، وتفعيل تطبيقات بديلة للحبس الاحتياطى وأهمية التعويض المادى والأدبى وجبر الضرر لمن يتعرض لحبس احتياطى خاطئ». ونتذكر أن هذه الاستجابة المقدرة من الرئيس السيسى جاءت كاستجابة مباشرة لمناشدات الحوار الوطنى خلال مناقشة مجلس النواب لقانون الإجراءات الجنائية، علما بأن الحوار الوطنى ناقش المواد الخاصة بالحبس الاحتياطى فقط، وعددها لا يزيد على ٢٢ مادة، ولم يناقش مطلقا مجمل مواد القانون وعددها ٥٤٠ مادة كما تخيل البعض خطأ. وظنى الشخصى أن الموضوعية تقتضى تقييم الحوار الوطنى بعيدا عن الأهواء وبعيدا عن منطق الأبيض والأسود وأن التغيير إلى الأفضل عملية تراكمية مستمرة، ولن تتحقق بمجرد التمنى أو بكبسة زر خصوصا أن هناك العديد من الأصوات التى لا تتمنى النجاح للحوار الوطنى.
ختـامـــــــا:
يمكن القول إن الحوار الوطنى ليس بديلا عن البرلمان أو الحكومة، هو بدأ فى ظروف معينة نعلمها جميعا. وأدى دورا مهما فى إضافة المزيد من الانفتاح السياسى خصوصا فى ملف حقوق الإنسان، ونأمل أن يستمر هذا الدور لتحصين وزيادة مناعة الدولة الوطنية المصرية ضد كل ما يواجهها من تحديات وتربصات وتهديدات،خصوصا من التهديد الإسرائيلى الذى يتحدث عن تغيير المنطقة مدعوما بالولايات المتحدة الأمريكية وبالأخص بعد فوز دونالد ترامب.