تتجاوز مسألة حقوق الإنسان كونها مجرد مبادئ أخلاقية فلسفية أو قوانين حقوقية، إلى كونها حقوقا سياسية وضرورة وجودية لحياة الإنسان، واستقرار المجتمعات، وسلام الأمم والحضارات. لكنها للأسف، وككل قضية نبيلة وعادلة، تتعرض للاستباحة والاختطاف من جانب أطراف تدعى ظلما وزورا أنها المنافح والمدافع عنها. ففى ظل الأزمات الدولية والإقليمية المتفاقمة تواجه منظومة حقوق الإنسان المعاصرة إشكالية كبيرة على مستوى التطبيق والممارسة، هذه الإشكالية تسببت بها إلى حد كبير دول ومنظمات حقوق الإنسان التى تُعد راعية لهذه الحقوق، لاسيما فى دول الغرب بزعامة الولايات المتحدة. إذ أصبح من المؤكد أن دعم الغرب لحقوق الإنسان يتسم بالانتقائية وتغليب المصالح الذاتية، وردود أفعاله غير المنطقية على كثير من الانتهاكات الأخرى لميثاق الأمم المتحدة، وهو ما أدى بدوره إلى مزيد من زعزعة الاستقرار، وتعزيز الإفلات من العقاب.
إن حقوق الإنسان معترف بها عالميا كمبادئ أساسية تحمى كرامة الإنسان وحريته ومساواته. لكن تفسيرها وتطبيقها غالبا ما يختلفان عبر الثقافات والأنظمة السياسية والسياقات التاريخية. وغالبا ما يقدم الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، نفسه باعتباره الوصى على حقوق الإنسان العالمية. ويعطى إطار حقوق الإنسان الغربى، الذى تشكله فى المقام الأول الديمقراطيات الليبرالية، الأولوية للحريات الفردية، مثل حرية التعبير، والتجمع، والمشاركة السياسية. وفى حين أن هذه الحقوق حيوية، فإن النهج الغربى يتجاهل غالبًا الحقائق الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية للمجتمعات غير الغربية. إن إصراره على التطبيق الشامل يتجاهل تنوع التقاليد والأديان ونماذج الحكم فى جميع أنحاء العالم. ومن خلال آليات مثل التقارير السنوية لحقوق الإنسان، ينتقد الغرب بانتظام دولا، مثل الصين، وروسيا، وكوريا الشمالية، وإيران، ويصورها على أنها منتهكة للحريات الأساسية. وتحتل منطقة الشرق الأوسط اهتمامًا واسعًا من قبل الغرب فى مجال حقوق الإنسان بسبب أهمية المنطقة الاقتصادية وكونها جزءًا كبيرًا من خريطة المصالح السياسية لدول الغرب. وهذا التشابك بين المصالح السياسية والاقتصادية، يدفع بعض دول الغرب لممارسة بعض الضغوط السياسية فى كثير من الأحيان لتحقيق أهدافها من هذه المصالح، وأحد هذه الضغوط هو الحديث عن أوضاع حقوق الإنسان(1).
أولا- تاريخ «تسييس» الولايات المتحدة لحقوق الإنسان:
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت الولايات المتحدة غير مبالية تمامًا بحقوق الإنسان، فبينما كان الإعلان العالمى لحقوق الإنسان قيد الإعداد، أعربت حكومة الولايات المتحدة عن دعمها اللفظى مع التأكيد على أنه لا ينبغى أن يكون أكثر من وثيقة ملهمة بلا قوة ملزمة. ولقد أصرت على جعل المواد المتعلقة بحقوق الإنسان غامضة قدر الإمكان، واعترضت بشدة على المبادرة التى اقترحتها بعض الدول والمنظمات لتفصيل تلك المواد والالتزامات التى يتعين على كل دولة عضو أن تتحملها. ولم تغير موقفها حتى، وخاصة بعد ما حدث فى المجر عام 1956. وأشارت تقارير مفوضية الأمم المتحدة لشئون اللاجئين إلى أن الولايات المتحدة بدأت فى اتخاذ موقف داعم لأنها اعتقدت أن إنشاء نظام دولى للاجئين سيكون سلاحًا قويًا فى الصراع بين الشرق والغرب. وبعد عام 1953، تحول موقف أمريكا تجاه حقوق الإنسان المعترف بها دوليا من التردد وعدم الرغبة فى الدعم إلى اللامبالاة الصريحة. وبعد فترة وجيزة من توليه السلطة، أعلن أيزنهاور أن إدارته ستظل بعيدة عن الإعلان العالمى لحقوق الإنسان، وزعم أن سياساتها الداخلية والخارجية لن تكون مقيدة بالتزامات حقوق الإنسان. وفى عام 1960، أقرت الأمم المتحدة إعلان منح الاستقلال للدول والشعوب المستعمرة وغير ذلك من التدابير التى توفر الدعم المعنوى والشرعية السياسية للقوى المناهضة للاستعمار، والتى صوتت الولايات المتحدة ضدها أو امتنعت ببساطة عن التصويت عليها. وقد حدث الشىء نفسه بالنسبة للعديد من معاهدات حقوق الإنسان الأخرى. لقد غرس «مبدأ دالاس»(وزير خارجية أيزنهاور) الذى طرحته الولايات المتحدة فى الخمسينيات من القرن الماضى فكرة مفادها أن التنافس مع الاتحاد السوفيتى يساهم فى تعزيز حقوق الإنسان. فقد رأى دالاس أن الأمم المتحدة هى أفضل منبر لإدانة منافسى الولايات المتحدة الشيوعيين، وأولت إدارة الرئيس دوايت أيزنهاور (1952-1960) اهتماما أكبر بـ «معاداة الشيوعية الأخلاقية» مقارنة بحقوق الإنسان المعترف بها دوليا، ووضعت إدارتا كيندى وجونسون طوال الستينيات الماضية معاداة الشيوعية على رأس أجندتهما وقضية حقوق الإنسان فى المرتبة الثالثة. وخلال سبعينيات القرن العشرين إلى نهاية الحرب الباردة روجت الولايات المتحدة لـ «دبلوماسية حقوق الإنسان»، واستخدمت حقوق الإنسان كأداة سياسية لمهاجمة الاتحاد السوفيتى السابق. إذ بدأ الكونجرس الأمريكى فى اعتبار حقوق الإنسان موضوعًا مهمًا فى السياسة الخارجية المتعددة الأطراف فى منتصف السبعينيات، وربط حقوق الإنسان بالمساعدات الأمنية والمساعدة الاقتصادية وأصوات الولايات المتحدة فى المؤسسات المالية الدولية. بعد أن أصبح جيمى كارتر رئيسًا للولايات المتحدة فى عام 1977، طرح رسميًا شعار «دبلوماسية حقوق الإنسان» ووصف حقوق الإنسان بأنها «حجر الزاوية» و«روح» السياسة الخارجية الأمريكية. وفى ثمانينيات القرن العشرين، كانت سياسة حقوق الإنسان التى تنتهجها إدارة ريجان تستند إلى «الاستثنائية» الأمريكية وسياسة الحرب الباردة. وزعم أنصار الاستثنائية أن الولايات المتحدة أدركت حقيقة حقوق الإنسان أثناء عصر التنوير ونفذتها فى المرحلة المبكرة من الثورة الأمريكية. لذلك، ينبغى النظر إلى الولايات المتحدة باعتبارها نموذجا لالتزاماتها بالحقوق المدنية والسياسية، وأنها لا تحتاج إلى معايير دولية لحقوق الإنسان. وانتقدت إدارة ريجان إدارة كارتر لكونها «ساذجة» فى التعامل مع قضايا حقوق الإنسان وحاولت إعادتها إلى مسار الحرب الباردة. وفى الأمم المتحدة، اتهمت إدارة ريجان الدول الشيوعية علنا بانتهاك حقوق الإنسان بينما انحازت إلى حلفائها، مثل تشيلى، والأرجنتين، وجواتيمالا. ولقد استخدمت الولايات المتحدة حقوق الإنسان صراحة كأداة للتنافس مع الاتحاد السوفيتى وحلفائه، وطالبت الأمم المتحدة بإعطاء الأولوية لمناقشة انتهاكات الأنظمة الشيوعية لحقوق الإنسان، وخاصة فى كوبا، فى حين غضت الطرف عن قضايا حقوق الإنسان فى العديد من البلدان الأخرى. كما كانت الولايات المتحدة سلبية بشكل مستمر فيما يتصل باتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة. وفى مذكرة حقوق الإنسان التى قدمتها إدارة ريجان إلى الكونجرس، حددت معايير حقوق الإنسان «النشطة» و«السلبية»، حيث تنطبق الأولى على الدول الاشتراكية فى أوروبا الشرقية، مع فرض أشد العقوبات على أفعالها المنتهكة للحقوق، بينما تنطبق الثانية على حلفاء الولايات المتحدة بغض النظر عن مدى خطورة الانتهاك. إن التقارير السنوية للدول حول حقوق الإنسان التى تصدرها الولايات المتحدة تبالغ فى تضخيم حالة حقوق الإنسان فى الدول النامية والدول الاشتراكية وغيرها من الدول «غير الصديقة»، ولكنها تقلل من أهمية مثل هذه القضايا أو تخفيها فى حالة حلفائها(2). وأصبحت قضية حقوق الإنسان جزءا من صراع أيديولوجى عالمى، حيث راح المعسكر الغربى يتحدث عن «الحقوق السياسية والمدنية»، والمعسكر الاشتراكى عن «الحقوق الاقتصادية والاجتماعية»، ودول العالم الثالث عن «حقوق الشعوب»، باعتبارها أصل وجوهر هذه الحقوق! ولم يسمح النظام الدولى، ثنائى القطبية، بأى تطوير حقيقى فى آليات الحماية العالمية لحقوق الإنسان، وراح كل معسكر يدافع عن مصالحه. ورغم أنه كان بوسع دول المعسكر الغربى أن تفاخر بنظمها السياسية والقانونية، باعتبارها النظم الأكثر تطويرا لآليات ضمانات حقوق الإنسان، إلا أن ذلك لم يحُل دون تحالفها مع أفظع دول العالم الثالث ديكتاتورية (بينوشيه شيلى وشاه إيران). ورغم أن انهيار المعسكر الاشتراكى ونهاية الحرب الباردة فتح بابًا للأمل، لكنه سرعان ما تحول إلى سراب فى ظل تنامى الطموحات الإمبراطورية للولايات المتحدة وتهميش دور القانون الدولى والمنظمات الدولية، خاصة بعد وصول المحافظين الجدد إلى السلطة، وتأكد أن السلوك الدولى للحكومات المنتخبة ديمقراطيا ليس ديمقراطيا أو أكثر احتراما للقانون الدولى بالضرورة(3). ومنذ نهاية الحرب الباردة فرضت الولايات المتحدة بشكل تعسفى على الدول الأخرى قيم حقوق الإنسان الخاصة بها باعتبارها «قوة ناعمة» وقمعت الدول ذات الأنظمة السياسية المختلفة فى محاولة للحفاظ على وضع الولايات المتحدة المهيمن فى العالم. وبعد نهاية الحرب الباردة، نشأ لدى الولايات المتحدة شعور لا يمكن تفسيره بالتفوق على نظامها السياسى، وغطرسة مؤسسية وتحيز ضد البلدان التى طبقت نظاما سياسيا مختلفا، معتقدة أن النظام الأمريكى وحده هو المعقول والعالمى. ومرة أخرى وضع الرئيس بوش حقوق الإنسان فى مركز السياسة الخارجية الأمريكية. وكانت الولايات المتحدة تفرض بكل وضوح حركة ديمقراطية عالمية، حيث تشن هجمات صارمة على الرأى العام وتقمع أى نظام سياسى غير غربى وتصف البلدان ذات الصلة بأنها «غير ديمقراطية» و«استبدادية» وحتى «دول مارقة». وبعد هجمات سبتمبر 2001، واحتلال الولايات المتحدة لأفغانستان فى نهاية عام 2001، وغزو العراق فى مارس/أبريل 2003، جعلت واشنطن نفسها المنتهك الرئيسى لحقوق الإنسان فى البلدان الأخرى. فباسم مكافحة الإرهاب، أنكرت وزارة العدل الأمريكية القانون الدولى لحقوق الإنسان. وظهرت أعمال التعذيب والاغتيال وغيرها من الأعمال التى تنتهك حقوق الإنسان بشكل خطير واحدة تلو الأخرى، والتى تعرضت لانتقادات واسعة النطاق فى المجتمع الدولى. وأطلقت وكالة الأمن القومى الأمريكية، بدعوى الأمن القومى، حملة تستهدف الاستخبارات الأجنبية، حيث قامت بالتنصت على المعلومات الشخصية لشخصيات سياسية أجنبية ومواطنين أمريكيين وجمعها وانتهكت خصوصيتهم، مما تسبب فى احتجاجات واسعة النطاق. ونظرا للصراع بين استراتيجيتها العالمية والمعايير الدولية لحقوق الإنسان، فإن الولايات المتحدة إما أن تتخلى عن الأخيرة للدفاع عن هيمنتها، أو تطبقها بشكل انتقائى لخدمة مصالحها السياسية، أو تستخدمها ببساطة كذريعة لوصف البلدان التى تهدد مصالحها السياسية بأنها «منتهكة لحقوق الإنسان»، وبالتالى تخفى انتهاكها لسيادتها بحجاب أخلاقى. لقد جعلت جميع الإدارات الأمريكية الحفاظ على هيمنة الولايات المتحدة ومنع ظهور دولة رئيسية فى منطقة آسيا والمحيط الهادئ من شأنها أن تهددها بمثابة جوهر استراتيجى لها. وأصبحت الصين، لأسباب واقعية، هدفها الرئيسى، حيث أصبحت «حقوق الإنسان» بطاقة مفيدة لاحتواء صعودها(4).
ثانيا- حرب غزة والمعايير المزدوجة للغرب:
لطالما أدان مجلس حقوق الإنسان، تحت تأثير القوى الغربية، انتهاكات حقوق الإنسان، فى ما يُعرف ببلدان «الجنوب العالمى»، أكثر مما أدان انتهاكها فى بلدان «الغرب»، إذ لم يصدر عن هيئة جنيف، أى قرار يدين انتهاكات الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، الحقوقية مثلا، فى أفغانستان أو العراق. وعندما تولى الرئيس بايدن الرئاسة، أعلن أن عناوين سياسته الخارجية هى احترام حق الإنسان والوقوف مع الشعوب المضطهدة. لكن جاءت حرب غزة التى اندلعت عقب طوفان الأقصى فى 7 أكتوبر 2023، لتفضح وتكشف زيف كل الشعارات التى يرفعها قادة الغرب، لاسيما شعارات حقوق الإنسان وقيم الديمقراطية، وكشفت إلى أى حد تتبنى الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون معايير مزدوجة. وقد تساءل كثيرون باستغراب شديد عن صمت إعلام الغرب إزاء فظائع الإبادة الإسرائيلية فى غزة وجنوب لبنان، هو الغرب نفسه حامل لواء حقوق الإنسان فى الحرب الروسية-الأوكرانية ولواء الديمقراطية والحضارة فى كل الأنحاء(5). ورغم تحذيرات الأمم المتحدة من أن أفعال إسرائيل ترقى لمستوى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، فإنه لم يتم اتخاذ أى إجراءات فعالة لوقف المجازر وحماية المدنيين. ما يثير تساؤلات جدية حول مصداقية المجتمع الدولى والمنظمات الحقوقية فى التزامها بحماية المدنيين وفقًا لمبادئ حقوق الإنسان. ويكشف هذا الواقع المؤلم عن معايير مزدوجة فى التعامل مع انتهاكات حقوق الإنسان، حيث تغض الكثير من الدول والمنظمات الدولية الطرف عن جرائم إسرائيل، بينما تتحرك بحزم أمام انتهاكات أخرى، كما يبرز هذا الواقع المرير الفروق الصارخة بين ردود الفعل الدولية تجاه الغزو الروسى لأوكرانيا، وبين الصمت إزاء ما ترتكبه إسرائيل من جرائم فى حق الشعب الفلسطينى منذ عقود. ففى أوكرانيا، تحركت كل الآليات الدولية بسرعة لفرض عقوبات اقتصادية قاسية على روسيا وتقديم الدعم العسكرى والإنسانى لأوكرانيا، أما فى فلسطين فقد اكتفت ببيانات إدانة خجولة لا ترقى لوقف معاناة شعب بأكمله يتعرض للقتل اليومى على مرأى ومسمع من العالم. ويظهر هذا التباين الصارخ مدى الانتقائية والمعايير المزدوجة فى تطبيق مبادئ حقوق الإنسان، حيث تسرع الدول لحماية البعض، بينما تترك البعض الآخر فريسة للظلم والاضطهاد، رغم أنه يجب ألا يكون هناك تمييز بين قيمة دماء البشر وكرامتهم بناء على العرق، أو الدين، أو الموقع الجغرافى، فكل البشر متساوون فى الحقوق والكرامة وفقًا للمواثيق الدولية. وكشفت هذه الحرب وفضحت نية الغرب وشعاراته الكاذبة التى نادى بها مرارًا وتكرارًا من أجل حماية حقوق الإنسان، وأظهرت أيضًا موقف الإعلام الغربى وقدرته على نشر الأكاذيب والشائعات تحيزًا لإسرائيل(6).
ثالثا- تداعيات «تسييس» الغرب لحقوق الإنسان:
لقد جلب تسييس الغرب لحقوق الإنسان آثارًا كارثية على الحوكمة العالمية لحقوق الإنسان. فقد أعاق التطور الطبيعى للقضية الدولية لحقوق الإنسان، وأغرق بعض البلدان فى الفوضى، ودنس المفهوم والمثل المقدس لحقوق الإنسان.
1- إن تسييس الغرب لحقوق الإنسان يعيق التطور السليم لقضية حقوق الإنسان على المستوى العالمى. إن تقسيم العالم على أساس المصالح السياسية قد حرم الغرب من إمكانية إقامة حوار طبيعى بين أصحاب وجهات النظر المختلفة بشأن حقوق الإنسان، وحول هيئة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة إلى ساحة معركة للمواجهة السياسية. غالبًا ما يستهدف التطبيق الانتقائى لمبادئ حقوق الإنسان من قبل الدول الغربية البلدان التى تقاوم أجنداتها الجيو- سياسية. وهذا النهج يقوض عالمية وحياد الدعوة إلى حقوق الإنسان.
2- من خلال التدخل فى الشئون الداخلية للدول الأخرى بحجة حقوق الإنسان، خلق الغرب، لاسيما الولايات المتحدة اضطرابات وطنية فى دول أخرى وبدأت كوارث جديدة لحقوق الإنسان. وأدى انتهاك الولايات المتحدة لسيادة الدول الأخرى إلى حروب وخسارة أرواح فى الدول التى تدخلت فيها وغزتها، مما أدى إلى كوارث جديدة لحقوق الإنسان(7). وتؤدى هذه الممارسات الانتقائية إلى تآكل السلطة الأخلاقية للدول الغربية فى الدعوة لحقوق الإنسان، مما يلقى بظلال من الشك على صدقها ونواياها.
3- إن الولايات المتحدة، التى اتخذت حقوق الإنسان مجرد أداة لتنفيذ استراتيجيتها العالمية، انتهكت المثل الأعلى لحقوق الإنسان. فقد استخدمت بشكل انتقائى أجندة حقوق الإنسان لاستهداف المنافسين السياسيين فى حين تتجاهل أو تقلل من شأن الانتهاكات التى ترتكبها الدول الحليفة، يشكل مصدر قلق متزايد فى المجتمع الدولى. إن هذه الممارسة لا تقوض مصداقية الدعوة لحقوق الإنسان فحسب، بل إنها تؤدى أيضا إلى تفاقم الانقسامات العالمية، وتغذية انعدام الثقة بين الدول(8).
4- لقد أدى «تسييس» الولايات المتحدة لحقوق الإنسان إلى تآكل وتدمير الأساس العالمى لحوكمة حقوق الإنسان وتسبب فى عواقب وخيمة على القضية العالمية لحقوق الإنسان. وقد أدانته وانتقدته القوى العادلة فى المجتمع الدولى على نطاق واسع. وفى المناقشة العامة للجنة الثالثة للدورة 76 للجمعية العامة للأمم المتحدة فى 7 أكتوبر 2021، ولقد أكد ممثلو مصر، والجزائر، وتشاد، وتركمانستان، وبيلاروسيا، وفنزويلا فى كلماتهم على أن شعوب كل دولة لها الحق فى اختيار مسارها الخاص فى مجال تطوير حقوق الإنسان وفقا للظروف الوطنية. كما عارضوا بشدة تسييس حقوق الإنسان، وممارسة المعايير المزدوجة، والتدخل فى الشئون الداخلية للدول الأخرى. وفى الوقت نفسه، اختاروا الصمت بشأن قضاياهم الخاصة وغضوا الطرف عن سجلات حقوق الإنسان الرهيبة لحلفائهم. وعلى هذا النحو، فإن مفهوم حقوق الإنسان الذى يدافعون عنه هو عصا سياسية، وأداة تستخدمها الولايات المتحدة للتدخل فى الشئون الداخلية وتقويض النظام الشرعى فى البلدان الأخرى(9).
5- المؤكد أنه عندما تصبح الدولة التى يفترض أن تكون أكثر دول العالم ديمقراطية واحتراما لحقوق الإنسان هى نفسها الأكثر انتهاكا له، يصبح الحديث عن الحماية الدولية لحقوق الإنسان ضربا من العبث. ولن يستطيع العالم أن يتحدث عن حقوق الإنسان، بينما القوى المتحكمة فى شئونه تنتهك هذه الحقوق كل يوم. ولأنه لا احترام لحقوق الإنسان إلا فى نظام دولى ديمقراطى، فلا ضمان لهذه الحقوق إلا إذا نجح العالم فى إقامة نظام دولى تشارك فى صنع قراراته وتراقب تنفيذها جميع الدول، كبيرها وصغيرها على قدم المساواة، وذلك حلم لا يزال، حتى إشعار آخر، بعيد المنال(10).
رابعا - نحو معايير شاملة لحقوق الإنسان:
لا شك أن الغرب له الأسبقية فى التاريخ الحديث بتأسيس وتأطير مبادئ حقوق الإنسان، وصياغة إطار دولى عام خضع له أغلب دول العالم إن لم يكن كلها. فقد بدأ التأسيس مع «إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسى» إبان الثورة الفرنسية عام 1789، حيث تم وضع تعريف للحقوق الفردية والجماعية، وانتهى إلى الإعلان العالمى لحقوق الإنسان والعهد الدولى الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. ونظرًا لأسبقية الغرب فى وضع الأسس العالمية والمواثيق والقوانين الدولية المؤسسة لمبادئ حقوق الإنسان، ترى مؤسساته الآن أنها قادرة على تقييم أوضاع حقوق الإنسان فى دول العالم، فى حين نجد دول المشرق تختلف تجربتها التاريخية عن الغرب، حيث إنها دول قديمة قدم التاريخ. ونشأت الحضارات فيها على أساس أن هناك ملكًا ورعية يعمل على إدارة مصالحهم، وتمدد هذا النظام بأشكال وطرق مختلفة، إلى أن وصلنا إلى مرحلة الاستقلال عن الملكية والتحرر من آفة الاستعمار الأوروبى، وذلك فى منتصف القرن العشرين. وبدأت تجارب ناشئة محاولة تطبيق المبادئ والأسس العالمية للحكم الرشيد والالتزام بحقوق الإنسان السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية. واختلفت نتائج تلك التجارب باختلاف ظروف الدول، فهناك من نجح واستطاع تحقيق النموذج العالمى الذى يسعى لحكم أكثر ديمقراطية ويكفل حقوق الإنسان بشكل عام، وهناك دول ساقتها ظروفها إلى أوضاع سياسية، واقتصادية، واجتماعية رثّة حاول شعوبها الثورة عليها أملًا فى تحقيق الأفضل. ونلاحظ من هذه المقارنة المبسطة أن تاريخ التجربة الغربية فى قضايا حقوق الإنسان قد بدأ منذ الحرب الفرنسية، بينما دول المشرق فقد بدأ تاريخ تجربتها مع نهاية الحرب العالمية الثانية. الأمر الذى يدفعنا للقول إن الحكم على أوضاع حقوق الإنسان فى الشرق سيكون ظالمًا نظرًا لعدم اكتمال التجربة. ومن ناحية ثانية، تفرض الظروف الحالية لدول الشرق والتى يعتبر أغلبها دولًا نامية، مقاربة مختلفة عن تلك التى ينتهجها الغرب الآن أو يطالب بها. فقد أصبحت الحاجة إلى اقتصاد قوى وظروف اجتماعية متماسكة أمرًا فى غاية الأهمية، وذلك نظرًا للسياق العالمى الذى نعيشه الآن فى ظل أزمات اقتصادية متتالية. وتفرض هذه الأزمات أهمية التركيز على حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية، كالحق فى سكن ملائم، وفى رعاية صحية جيدة، وتعليم جيد، وغيرها من الحقوق. وهو ما لا يلتفت إليه الغرب الذى وصل بعد ما يزيد على القرن إلى حكم أكثر رشادة، ونظام سياسى ديمقراطى، واقتصاد قوى، وقوة عسكرية ضخمة(11). ومن ناحية ثالثة، فإن منظومة «حقوق الإنسان» لا يمكن أن تكون حكرا على أحد وإنما هى تراث إنسانى عالمى، وبالتالى لا يحق لأى شعب من الشعوب، أو نظام من النظم، أو حضارة من الحضارات أو ثقافة من الثقافات أن تدعى لنفسها شرف اختراعها أو التبشير برسالتها. فهذا التراث هو حصيلة نضال الإنسان فى مواجهة كل أشكال وقوى القهر، والظلم، والاستعباد، والاستغلال، والهيمنة، أينما ومتى وجدت أو حلَّت. وهو تراث لم يتشكل فجأة أو دفعة واحدة ولم يأت به أحد ويقدمه للبشرية على طبق من ذهب أو من فضة، وإنما تشكل عبر تراكم تدريجى لتضحيات مناضلين، من أجل كرامة الإنسان فى كل زمان ومكان(12). وللتعامل مع تحديات «ازدواجية المعايير» الغربية، من الأهمية بمكان التحرك نحو نهج أكثر شمولا وتعددية لحقوق الإنسان. وهذا يتطلب الاعتراف بشرعية الأنظمة الثقافية، والدينية، والسياسية المتنوعة فى تشكيل أطر حقوق الإنسان، وذلك من خلال ضرورة تبنى الخطوات التالية:
• تعزيز الحوار: تشجيع المحادثات بين الدول لتطوير معايير قائمة على الإجماع تحترم التنوع الثقافى والتاريخى.
• رفض المعايير المزدوجة: ضمان التدقيق والمساءلة المتساوية لجميع الدول، بغض النظر عن تحالفاتها الجيو-سياسية.
• التركيز على التنمية: الاعتراف بالتقدم الاجتماعى والاقتصادى كحجر أساس للكرامة الإنسانية وإعطاء الأولوية للتعاون العالمى لمعالجة عدم المساواة(13).
ختـامــــــا:
يمكن القول إن حقوق الإنسان طموح عالمى، ولكن تنفيذها يجب أن يحترم تنوع المجتمعات البشرية. إن تسييس الغرب لهذه القضية، والذى يتميز بالمعايير المزدوجة والنقد الانتقائى، يقوض نزاهة الدعوة العالمية. إن دولا مثل الصين والعالم الإسلامى تقدم نهجا بديلا يعطى الأولوية للتنمية، والرفاهة الجماعية، والخصوصية الثقافية، مما يدل على أن الكرامة الإنسانية يمكن تحقيقها من خلال مسارات متنوعة. ويتعين على المجتمع العالمى أن يتبنى نهجا أكثر توازنا وشمولا، ويضمن أن تكون حقوق الإنسان بمثابة جسر للتعاون وليس أداة للانقسام. وفقط من خلال رفض التسييس واحتضان التنوع يمكن الحفاظ على الجوهر الحقيقى لحقوق الإنسان للجميع. وفى العموم، فإنها منظومة إنسانية، وأخلاقية، ودينية، وعرفية لا يجب التنازل عنها، لأنها جزء من المبادئ الإنسانية المشتركة، وجزء من قيم الشعوب وإرثها. وهنا، فإن أهمية معالجة قضايا حقوق الإنسان على المستوى العالمى من خلال نهج بناء، وشامل، وغير مسيس، وغير انتقائى أو متحيز، وأن تعالج كذلك قضايا حقوق الإنسان بطريقة عادلة، ومتساوية، وموضوعية، وذات مصداقية بخصوص حالة حقوق الإنسان فى جميع بقاع العالم.
الهوامش:
1-By Zamir Ahmed Awan, The Politicization of Human Rights Must End, November 29, 2024, available at, https://moderndiplomacy.eu/2024/11/29/the-politicization-of-human-rights-must-end/?nowprocket=1
2-=US Politicization of Human Rights Erodes Foundations of Human Rights Governance, China Daily Global,
2021-12-28, available at, http://epaper.chinadaily.com.cn/a/202112/28/WS61ca5cbaa31019b029ba2d4f.html
3-حقوق الإنسان بين المزايدة السياسية والالتزام القانونى، المصرى اليوم، الأحد 14 ديسمبر 2008، متاح على الرابط:
https://www.almasryalyoum.com/news/details/77094
US Politicization of Human Rights Erodes Foundations of Human Rights Governance, Ibid 4.
5-جميل مطر، وقفة أمام معضلة إقليمية ومصيرية شديدة التعقيد، الشروق الجديد، الخميس 5 ديسمبر 2024، متاح على الرابط:
https://www.shorouknews.com/columns/view.aspx?cdate=04122024&id=8e6e60e6-dd43-4654-879f-2b5b71fb8185
6-أمانى إبراهيم، الحرب ضد غزة تفضح ازدواجية معايير حقوق الإنسان، المصرى اليوم، السبت 4 نوفمبر 2023، متاح على الرابط:
https://www.almasryalyoum.com/news/details/3021757
US Politicization of Human Rights Erodes Foundations of Human Rights Governance, Ibid. 7
By Zamir Ahmed Awan, The Politicization of Human Rights Must End, Ibid. 8
US Politicization of Human Rights Erodes Foundations of Human Rights Governance, Ibid. 9
10-حقوق الإنسان بين المزايدة السياسية والالتزام القانونى، مصدر سبق ذكره.
11- د. نورهان موسى، حقوق الإنسان بين الشرق والغرب، المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية، 12 يناير 2023، متاح على الرابط:
https://ecss.com.eg/32256
12-حقوق الإنسان بين المزايدة السياسية والالتزام القانونى، مصدر سبق ذكره.
By Zamir Ahmed Awan, The Politicization of Human Rights Must End, Ibid. 13