لنتخيل أن مؤرخاً حاول تسجيل أحداث الثورات العربية بعد خمسين عاماً من الآن، فما الذي يمكن أن يقوله لتفسير اندلاع هذه الثورات الشعبية ضد نظم سلطوية غاشمة؟ وليس ذلك فحسب، ولكن ماذا يقول عن قدرة هذه الثورات، سواء في تونس أو في مصر أو في ليبيا، على إسقاط النظم وإجبار رؤسائها على الهروب أو التنحي؟ وما التفسير الذي يمكن أن يصوغه لتزامن وقوع هذه الثورات في فترة زمنية لا تكاد تتجاوز شهوراً معدودة؟
ربما كانت الإجابة على السؤال الأول سهلة وميسورة، بحكم أن النظم السياسية السلطوية في كل من تونس ومصر وليبيا مارست القمع السياسي ضد شعوبها عقوداً طويلة، ليس ذلك فحسب، بل من خلال الفساد المعمم ارتفعت فئات قليلة من النخب السياسية ورجال الأعمال إلى ذروة الثراء الفاحش، في حين سقطت طبقات اجتماعية كاملة يقدر أفرادها بالملايين في مستنقع الفقر والبؤس.
ولذلك، كان طبيعياً أن يحدث الانفجار الثوري الذي أطاح بهذه النظم، والذي فتح الباب للخلاص من قيود السلطوية الخانقة والانطلاق إلى آفاق الديموقراطية الرحبة.
ويلفت النظر أن الشعار الأساسي الذي رفعته الثورات الثلاث التونسية والمصرية والليبية هو الحرية بالمعنى الواسع لهذه الكلمة. ويقصد بها أساساً الحرية السياسية والتي تتمثل في تأسيس حكم ديموقراطي يستند في المقام الأول إلى الإرادة الشعبية، من خلال إجراء انتخابات دورية نزيهة لتكوين مجالس نيابية أو لاختيار رؤساء الجمهورية في انتخابات مفتوحة لا قيود عليها من اي نوع.
وإذا كانت هناك شعارات أخرى أبرزها المطالبة بالعدالة الاجتماعية، فمما لا شك فيه أن الربط الوثيق بين الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية يعد ترجمة أمينة للشعار الذي ارتفع في العقود الأخيرة -بعد تأمل خبرات القرن العشرين-، وهو أنه «لا ديموقراطية من دون عدالة اجتماعية ولا عدالة اجتماعية من دون ديموقراطية».
هذا الشعار، الذي يعكس خبرة الشعوب المختلفة، قضى على المقايضات السياسية التي حاول بعض النظم أن يقيمها، والتي تمثلت بالتضحية بالحرية السياسية في سبيل تحقيق العدالة الاجتماعية، كما فعل كثير من النظم الاشتراكية، أو على العكس، تحقيق الحرية السياسية على حساب العدالة الاجتماعية، كما يفعل كثير من النظم الرأسمالية في الوقت الراهن، مما أشعل الاحتجاجات الجماهيرية في كثير من البلاد الغربية، وأولها الولايات المتحدة الأميركية وكثير من الدول الأوروبية.
وإذا تتبعنا المسار الديموقراطي الناشئ في كل من تونس ومصر وليبيا، لاكتشفنا أن هناك اختلافات جوهرية بين هذه الدول بعد الثورة، ليس فقط في طريقة إدارة المرحلة الانتقالية، ولكن في الإيقاع السياسي الذي يحدد المراحل وطريقة الانتقال من كل مرحلة إلى المراحل الأخرى وتوقيته، وصولاً إلى إتمام تشييد البناء الديموقراطي الشعبي الجديد.
كان المسار في تونس أكثر وضوحاً وسلاسة من المسار في مصر، لأن التحول الديموقراطي بدأ بانتخاب مجلس تأسيسي لوضع الدستور واختيار رئيس للجمهورية، وتم ذلك بناء على توافق سياسي أداره حزب «النهضة»، الذي حصل على غالبية مقاعد المجلس التأسيسي، وكان ذلك تعبيراً عن نضج سياسي مؤكد.
غير أن مسار التحول في مصر كان معقداً، لأنه لم يبدأ -كما كان ينبغي- بانتخاب مجلس تأسيسي، ولكن بعد إعلان دستوري أصدره المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي يدير العملية الانتقالية، نظم استفتاء موضوعه «الدستور أولاً أو الانتخابات أولاً»، وكانت النتيجة لصالح الانتخابات أولاً. وهكذا، تمت انتخابات مجلس الشعب التي فاز فيها الإسلاميون («الإخوان المسلمون» من ناحية والسلفيون من ناحية أخرى) بنصيب الأسد.
وهكذا برزت الظاهرة السياسية الجديدة، وهي حكم الإسلاميين، سواء في تونس أو في مصر، بالإضافة إلى تأثير الصوت الإسلامي في مرحلة الانتقال الليبية.
وصول الإسلاميين الى الحكم في تونس ومصر يثير مشكلات سياسية وفكرية لا حدود لها، ولعل أول هذه المشكلات هي: هل سيقبل الإسلاميون بمبدأ تداول السلطة، والذي يجعلهم مستعدين للتنازل عنها لو خسروا الانتخابات التشريعية القادمة؟
وثاني هذه المشكلات: هل سيحاولون أن يفرضوا توجهاتهم الأيديولوجية والدينية على المجتمع، من خلال استخدام الآلة التشريعية استناداً إلى أغلبيتهم النيابية؟
بالنسبة الى المشكلة الأولى، هناك إجابات قاطعة من قبل الإسلاميين تشير إلى قبولهم ليس فقط بآليات الديموقراطية، ولكن بقيمها أيضاً، والتي أبرزها قبول مبدأ تداول السلطة.
أما المشكلة الثانية، فهي أعقد المشكلات في الواقع. وفي هذا المجال، هناك فرق واضح في النضج السياسي بين زعماء حزب «النهضة» في تونس وزعماء «الإخوان المسلمين» وحزب «النور» السلفي في مصر من ناحية أخرى.
الإسلاميون في تونس أكدوا أنهم لن يفرضوا على المجتمع التونسى قيمهم الدينية، وسيقدمون نموذجاً للإسلام الليبرالي، أما الإسلاميون في مصر، فقد صدرت عن بعض قادتهم تصريحات شتى بإصرارهم على أسلمة المجتمع المصري من خلال نشر الدعوة في كل مكان، وكأن هذا المجتمع لم يعرف الإسلام ديناً من قبل، وآن أوان أسلمته!
وفي تقديرنا، أن الثورات العربية لن تنجح إلا إذا طبقت معايير الحداثة بكل جوانبها كما عرفتها المجتمعات المتقدمة، والتي انتقلت من نموذج المجتمعات الزراعية إلى نموذج المجتمعات الصناعية.
وإذا كانت الحداثة السياسية تعني في المقام الأول تطبيق الديموقراطية، إلا أنه يمكن القول إن لا ديموقراطية من دون تحكيم العقل، ولا تحول ديموقراطياً حقيقياً من دون الانتقال من دوائر القيم التقليدية المغلقة إلى دوائر القيم العصرية المنفتحة.
غير أن أهم صور الحداثة على الإطلاق هي الحداثة الفكرية، والتي تقوم على مبدأ أساسي مبناه «أن العقل وليس النص الديني هو محك الحكم على الأشياء».
وإذا كان يمكن التحجج بأن هذا المبدأ الحداثي المهم لصيق أساساً بالتجربة الغربية، بحكم استبداد الكنيسة في العصور السابقة على عصر الدولة الحديثة، ولذلك نشأ مبدأ العلمانية، بمعنى الفصل بين الدين والدولة، إلا أنه يمكن القول بوجه عام إنه إن لم يتم هذا الفصل فإن مسار التحول الديموقراطي في دول الثورات العربية سيتعثر تعثراً شديداً، وذلك لأن محاولة إقحام الدين كإطار مرجعي للممارسات السياسية والفكرية والثقافية، والتركيز على القيم التقليدية في سياق ديني متشدد يركز على الشكل من دون الجوهر، من شأنه أن يهدد حرية الأفراد ويجمد حركة المجتمع، وقد يؤدي إلى خرق حقوق الإنسان.
من هنا، يمكن القول إنه إذا كنا قد اتفقنا على أنه لا ديموقراطية من دون عدالة اجتماعية، فإنه في الوقت نفسه ينبغي التأكيد على أنه لا ديموقراطية من دون حداثة فكرية، تقوم على حرية التفكير وحرية التعبير وحق أفراد المجتمع جميعاً في إرساء القيم التي تحدد السلوك الاجتماعي وفق نظرية عصرية منفتحة تتفق مع عصر العولمة والسماوات المفتوحة، وليس تطبيقاً لقيم تقليدية رجعية يراد إعادة إنتاجها من خلال اجتهادات دينية متشددة تقوم في الواقع على أساس استخدام القياس الخاطئ وممارسة التأويل المنحرف للآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة!
وقد تابعنا في السنوات الماضية محاولات جادة ومحمودة لتحديث الإسلام كانت في الواقع متابعة لجهود الشيخ محمد عبده وأجيال أخرى متنورة سارت في الطريق ذاته. غير أننا لاحظنا من ناحية أخرى في العقود الأخيرة محاولات فاشلة لـ «أسلمة الحداثة» في ضوء صياغات تلفيقية ليس من شأنها سوى إفقاد الحداثة روحها الأصيلة، وهي الحرية بلا ضفاف!
---------------------
* نقلا عن الحياة اللندنية، الأحد 19/2/2012.