يحدثنا الواقع المعاصر عن كمٍ هائل من المتناقضات والمغالطات التاريخية وتلك التي تخص الحاضر أيضا، ويخبرنا الكثير عن ادعاءات الغرب بالتقدم والتحضر، بينما تظل نظرته لنا نظرة استعلائية ناعتا إيانا بالتأخر، واضعا أميالا من الفجوات بيننا وبينهم، هذا رغما عن كل ما يؤكد أن نهضة أوروبا –التي انتقلت بطبيعة الحال إلى أمريكا وكندا- كلها استندت في الأساس على الحضارة الإسلامية في المتوسط والشرق، ومن قبلهاالحضارة المصرية القديمة، في مجالات متعددة ومختلفة كالطب، والصيدلة، والهندسة، والعمارة، والفن، والموسيقى، والزراعة، واللغة، والتكنولوجيا.
ما بين نظريات الخوارزمي العالم العربي المُسلم المُلقّب بـ "أبو الجبر"، أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزمي في كتابه "المُختصر في حساب الجبر والمقابلة"، الذي أخذ العلم الغربي الحديث لفظ ALGEBRAمن كلمة "الجبر"، وهي النظريات التي أُسست عليها كل وسائل التواصل الاجتماعي وعلى رأسها الفيسبوك.
وبين كل نظريات الطب الحديثة التي استندت إليها أوروبا والغرب نقلا عما جاء على جداريات مصر القديمة وبردياتها، من علم التشريح والتحنيط، إلى طب التخدير وعلم معرفة نوع الجنين والولادة، وطب وهندسة الأطراف التعويضية،وطب الأسنان، إلى الوصفات الطبية.
فقد أشارت مثلا -على سبيل الذكر لا الحصر الذي يصعب تحجيمه- إحدى البرديات المصرية المسماة ببردية "إدوين سميث"، وهى من أشهر البرديات التى تتحدث عن الجراحة، إلى علاج أكثر من 48 حادثا مختلفا يتعرض له الإنسان، وكيف كانت تُجرى العمليات الجراحية، ومنها «عملية كسر قاع الجمجمة» وكيف ينزف المريض من الأنف والأذن، كما تطرقت البردية لعلاج الالتهاب السحائى، والعمود الفقرى، وغيرها من الجراحات الخطيرة، والتى وصل عددها إلى 48 جراحة.
كل هذا لا تذكره ولا تتذكره أوروبا والغرب، الحضارات التي نهلوا منها نهلا حتى امتلئوا عن آخرهم، ثم أضافوا لمساتهم الأخيرة ووضعوا توقيعهم، بل الأدهى أنهم لم يذكروا في مراجعهم ولا حواشيهم المصادر التي نقلوا منها علمهم كما يحدث من باب الأمانة العلمية، فهم لا يتذكرون إلا غسل العقول والوعي الجمعي، ليس فقط على مستوى شعوبهم، بل على مستوى شعوب المنطقة أيضا، فممارسة التغييب عن ماضٍ مشرف ومستقبلٍ مجهول من ناحية، والتسويق لكل ما هو براق مزيف هي أهداف تحيا من أجلها أنظمة العالم الذي يسمي ذاته بالمتقدم.
وبنظرة مقربة ودقيقة من واقعهم الحياتي اليومي في العصر الحديث، تجد أن قاسمهم المشترك وبرغم كل عوامل النظام والترتيب، هو البطء والبيروقراطية الشديدين في تطبيق كل ما يخص مصالح المواطن، سواء على مستوى عمل الدوائر الحكومية، أو الإجراءات الأمنية، أو أية ترتيبات تنظيمية من شأنها الإسراع في قضاء مصالح المواطن.
فلك أن تتخيل أن إجراءات استصدار مستخرج رسمي في دولة من دول العالم الأول ككندا -التي يقارب عدد سكانها الأربعين مليون نسمة- قد يستغرق أسابيع وشهورًا، في الوقت الذي يمكنك فيه أنت المواطن المصري أن تستخرجه في الحال من أي قسم شرطة أو أي فرع من فروع السجل المدني أو مكاتب البريد، التي لها أيضا مواعيدا مسائية حتى تستطيع استيعاب وامتصاص كثافة الإقبال وبالتالي عدم التأخر في تنفيذ مصلحة المواطن.
ولك أن تتخيل أيضا أن المواطن الأمريكي أو الإنجليزي إذا مرض يوما فعليه أن ينتظر شهورا لكي يستطع أن يُعرض على طبيب، وشهورًا أخرى مثلها لإجراء اختبارٍ أو تحليلٍ أو أشعة ترتبت على كشف الطبيب، مهما كان الأمر بالغ الخطورة، فعليك أن تنتظر حتى يحين دورك، في الوقت الذي تكاد مصر أن تقضي فيه على قوائم الانتظار التي كانت تكتظ بآلاف المرضى من كل حدب وصوب، وبرغم أن المنظومة التأمينية التي تنتهي في كافة ربوع المحروسة بحلول عام 2030 لا تزال لا تعمل بكامل طاقتها ولا كفاءتها.
الواقع يقول إن طفرة الأقمار الصناعية لأوروبا والغرب لم تستطع أن تحدث فارقا في أنظمتهم المترهلة الممتدة الأطراف والمعقدة التفاصيل، بل هي نفسها التي لم تستطع الاطلاع على مواقع إرهابيي القاعدة، ولا طالبان، ولا حزب الله، ولا بوكو حرام، ولا داعش، لكنها فقط تطلع على تحركات علمائنا وخطواتهم، وقادتنا وخطتهم.
المنشغل بأمرنا تؤرقه خطواتنا .. إلى الحد الذي يؤخر خطواته هو .. دامت خطواتنا .. ودابت خطتهم.