فى 8 ديسمبر 2024، أعلن مقاتلو المعارضة السورية أنهم أطاحوا بالرئيس بشار الأسد بعد السيطرة على دمشق مما أجبره على الفرار وأنهى عقودا من حكم عائلته بعد أكثر من 13 عاما من الاضطرابات الداخلية، حيث كانت الحرب على الأرض السورية مأساة مستمرة منذ أمد بعيد. فمنذ عام 2011، لقي أكثرمن 500 ألف سوري حتفهم، بمن في ذلك أكثر من 200 ألف مدني، وفقاً لخبراء حقوق الإنسان. كما فر ملايين السوريين من ديارهم. وكان تدفق اللاجئين إلى أوروبا كبيراً بما يكفي للمساعدة في زعزعة استقرار السياسة في فرنسا وألمانيا وإيطاليا وأماكن أخرى، وفي لحظة زلزالية بالنسبة للشرق الأوسط ، وجه المتمردون الإسلاميون ضربة قوية لنفوذ روسيا وإيران في سوريا في قلب المنطقة - الحليفتين اللتين دعمتا الأسد خلال فترات حرجة، ولكنهما انشغلتا بأزمات أخرى في الآونة الأخيرة، تلك الديناميات المتسارعة تجعلنا نطرح جملة من التساؤلات بشأن الوضع الحالي في سوريا والسيناريوهات المحتملة لمستقبل البلاد.
بداية، أُطلق على هذا الهجوم اسم عملية "ردع العدوان"، وشاركت فيه عدة مجموعات سورية مسلحة من المعارضة بقيادة هيئة تحرير الشام وبدعم من الفصائل المتحالفة معها والمدعومة من تركيا، وتعتبر هيئة تحرير الشام بقيادة أبو محمد الجولاني، أكبر الفصائل وأكثرها تنظيماً، حيث حكمت محافظة إدلب لسنوات قبل هذا الهجوم، ومن بين الفصائل الأخرى التي شاركت في العملية: الجبهة الوطنية للتحرير، وأحرار الشام، وجيش العزة، وحركة نور الدين الزنكي، بالإضافة إلى فصائل مدعومة من تركيا تنضوي تحت مظلة الجيش الوطني السوري.
وفي سياق متصل، فإنه بالرغم من سقوط النظام السورى، فإن مقاتلي المعارضة لم يدخلوا اللاذقية وطرطوس، المحافظات الساحلية التي تعتبر معاقل الأسد. وتقدم المتمردون بسرعة، ففي غضون أيام، استولوا على حماة وحمص، المدينة التي كانت تُعرف ذات يوم باسم عاصمة الثورة خلال السنوات الأولى منذ 2011. وفي يوم السبت الماضي، خرجت مدينة درعا - مهد الانتفاضة عام 2011 – أيضاً عن سيطرة الحكومة، وأعلن الجيش السوري أنه يعيد الانتشار والتمركزفي المحافظة وفي السويداء المجاورة، لكن يبدو أن ذلك لم يؤد إلى أي نتيجة.
أسباب سقوط نظام بشار الأسد بهذه السرعة:
شهدت سوريا على مدار العقدين الماضيين سلسلة من الأحداث السياسية والعسكرية التي رسختها كساحة مفتوحة للتنافس الإقليمي والدولي، حيث شكلت هذه الأحداث محطات مفصلية أدت في النهاية إلى تحول دراماتيكي في ميزان القوى داخل البلاد، ما ساهم في تسريع انهيار النظام السوري.
منذ غزو العراق في عام 2003، بدأ الحديث عن ضرورة إعادة تشكيل السياسة الأمريكية تجاه سوريا لتلبية احتياجات حلفائها الرئيسيين في المنطقة، مثل إسرائيل والأردن وتركيا، إلى جانب شركائها الاستراتيجيين المؤقتين في بعض الأحيان مثل العراق ولبنان. في هذا السياق، كانت سوريا تُعد نقطة ارتكاز استراتيجية على صعيد الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط، بالنظر إلى موقعها الذي يربط منابع النفط في العراق بالبحر الأبيض المتوسط، فضلاً عن كونها جسرًا بين الشيعة في العراق وإيران وحزب الله في لبنان. وبالتالي، كان لها دور مركزي في تحقيق التوازن الإقليمي، ما جعلها تحت أنظار القوى الكبرى التي كانت تسعى لتطويعها لخدمة مصالحها.
على الرغم من هذه الأهمية الجغرافية والسياسية، وضع الرئيس الأمريكي جورج بوش سوريا في “محور الشر” عام 2002، في إشارة إلى تهديدها للسلام والأمن الإقليمي والدولي. أما الرئيس باراك أوباما، فقد تبنى سياسة حذرة تجاه سوريا، محاولًا تجنب التصعيد الذي قد يؤدي إلى تفكك أكبر في المنطقة. في حين أن دونالد ترامب لم يتردد في شن ضربات عسكرية ضد النظام السوري في عام 2017، لكنه لم يلتزم بخطوات مؤثرة طويلة الأمد ضد النظام، مما يعكس عدم استقرار السياسة الأمريكية تجاه دمشق.
لكن مع اندلاع الصراع المسلح فى الأراضى السورية، والتي نشأت على خلفية الانتفاضة الشعبية ضد نظام بشار الأسد فى عام 2011، دخلت البلاد في حالة من الفوضىالدموية التي زادت من تعقيد الوضع. فبينما كانت سوريا في قبضة نظام الأسد، فقد شهدت البلاد عددًا من الفظائع التي أضافت أبعادًا كارثية إلى صراعها المستمر، مثل حصار حمص وتجويعها في 2012، واستخدام الأسلحة الكيميائية في الغوطة عام 2013. علاوة على ذلك، كان ظهور تنظيم “داعش” في عام 2014 وتحوله إلى قوة شبه دولية، بمثابة مؤشر على تفشي حالة الفوضى والفراغ الأمني في سوريا.
ومع تصاعد حدة الصراع وتدخلات القوى الإقليمية والدولية، بدأ مصير النظام السوري يتحدد تدريجيًا في ميادين خارج حدود سوريا. فقد تبين أن سقوط بشار الأسد لم يكن نتيجة للضغوط الداخلية فحسب، بل جاء أيضًا نتيجة لتقلبات في الدعم الخارجي الذي كان يتلقاه. فبعد أن كانت روسيا وإيران أهم داعمين للأسد، بدأت هذه القوى تفقد قدرتها على تقديم الدعم الكافي في ضوء أولوياتها المتغيرة في مناطق أخرى. على سبيل المثال، أدى الغزو الروسي لأوكرانيا في 2022 إلى استنزاف الموارد العسكرية الروسية، ما انعكس سلبًا على قدرة موسكو على توفير الغطاء الجوي والدعم العسكري للنظام السوري في حربه ضد المعارضة بالمستوى السابق نفسه.
وقد أظهر وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف ضعفًا واضحًا في تصريحاته التي أقر فيها بعدم القدرة على التنبؤ بمستقبل الوضع في سوريا، في تأكيد على أن روسيا لم تعد قادرة على الوفاء بتعهداتها تجاه حليفها السوري. أما إيران، فشهدت هي الأخرى تحولًا في مواقفها الاستراتيجية، إذ شهدت الأشهر الأخيرة تطورًا خطيرًا في مواجهتها مع إسرائيل، حيث بدأت المواجهات العسكرية تأخذ طابعًا أكثر علانية وتصعيدًا، ما أدى إلى إضعاف قدرة طهران على تقديم الدعم المطلوب للأسد. كما أن حزب الله، الذراع العسكرية الإيرانية في لبنان، تعرض لعدة ضربات قاصمة على يد إسرائيل، مما أثر على قدرة الحزب على لعب دور مؤثر في سوريا. رغم التعهدات الإيرانية بالدعم، إلا أن هذه الوعود لم تترجم إلى تحركات فعالة على الأرض.
وسط هذا التراجع في الدعم الروسي والإيراني، انكشف ضعف النظام السوري بشكل جلي، حيث بدأت القوى الإقليمية تتحرك لإعادة تشكيل المشهد السياسي في المنطقة؛ كانت تركيا- العضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو)- قد تأثرت بشكل كبير من تداعيات الأزمة السورية، إذ استقبلت ملايين اللاجئين السوريين وواجهت تهديدات أمنية على حدودها الجنوبية نتيجة لانتشار الجماعات المسلحة الكردية التي تربطها علاقة مع بعض الفصائل في سوريا. ومع تصاعد الضغوط الإقليمية والدولية، وجدت تركيا نفسها في موقع يسمح لها بزيادة نفوذها في المنطقة، من خلال التحركات العسكرية والدبلوماسية التي دفعت بأنقرة إلى تعزيز دورها في شمال سوريا، ما شكل تهديدًا استراتيجيًا لبقاء النظام السوري.
وفي ضوء هذه التحولات، يمكن القول إن سقوط النظام السوري بهذه السرعة كان نتيجة لتآكل الدعم الدولي والإقليمي الذي كان يعتمد عليه. فالدور الذي لعبته روسيا وإيران في دعم الأسد خلال السنوات الماضية قد تراجع بشكل حاد في ظل استنزافهما في ملفات أخرى، بينما بدأ ظهور قوى إقليمية جديدة مثل تركيا التي استغلت هذه اللحظة لتوسيع نفوذها. وبالتالي، فإن انهيار الأسد لم يكن مجرد نتيجة لتداعيات داخلية، بل أيضًا نتيجة لتغيرات استراتيجية كبرى في موازين القوى الإقليمية والدولية.
موقف القوى الدولية والإقليمية:
يشكل سقوط نظام بشار الأسد على يد قوات المعارضة السورية حدثًا محوريًا في سياق النزاع السوري الذي طال أمده، والذي شهد تدخلات إقليمية ودولية متعددة. لقد كان لهذا الحدث تأثيرات عميقة على موازين القوى في المنطقة والعالم، خاصةً في ظل التحالفات المعقدة التي نشأت حول الصراع. فقد عبّرت القوى الإقليمية مثل تركيا، وإيران، والسعودية، والولايات المتحدة وغيرها عن مواقف متباينة تجاه هذا الحدث، بناءً على مصالحها الاستراتيجية وأهدافها السياسية في المنطقة. من ناحية أخرى، كانت القوى الدولية، بما في ذلك الولايات المتحدة وروسيا، تلعب دورًا حاسمًا في تطور الأوضاع، حيث تمثل مصالحها في سوريا تحديات جيو-سياسية متعددة. لذلك، فإن موقف هذه القوى من سقوط النظام السوري يظل محط اهتمام وتحليل، باعتباره قد يغير الديناميكيات الإقليمية بشكل كبير.
روسيا:
تسعى روسيا جاهدة للحفاظ على نفوذها الجيو-سياسي في منطقة الشرق الأوسط، حيث تمثل تطورات الصراع المسلح فى سوريا واحدة من أكبر التحديات الاستراتيجية التي تواجهها في المنطقة. منذ تدخلها العسكري في سوريا في عام 2015 لدعم نظام بشار الأسد، أصبحت روسيا قوة محورية في الصراع السوري، في محاولة لتوسيع دائرة نفوذها الإقليمي وضمان مصالحها الأمنية والاقتصادية. إذ تعتبر موسكو القاعدتين العسكريتين اللتين تحتفظ بهما في سوريا، وهما قاعدة حميميم الجوية في محافظة اللاذقية ومنشآتها البحرية في طرطوس، من الأصول الاستراتيجية الحيوية التي لا يمكن التفريط بها، خاصة في ظل تصاعد التوترات في المنطقة.
وفي إطار سعيها للحفاظ على مصالحها العسكرية والدبلوماسية في سوريا، تحركت موسكو لضمان سلامة القواعد العسكرية الروسية في سوريا. وفي الوقت ذاته، أفادت التقارير أنه تم التوصل إلى اتفاق بين روسيا وزعماء المعارضة السورية لضمان حماية القواعد العسكرية الروسية والمؤسسات الدبلوماسية الروسية داخل الأراضي السورية.
يُظهر الموقف الروسي من الأزمة السورية، وموقفها المستمر في دعم نظام الأسد، التزامًا ثابتًا بمصالحها الاستراتيجية في المنطقة. فمنذ تدخلها في الصراع، قامت موسكو بتوفير الدعم العسكري والسياسي للأسد، مستخدمةً قوتها الجوية والبرية لمساعدته في مواجهة المعارضة المسلحة والمجموعات الإرهابية مثل “داعش” و”جبهة النصرة”. هذا الدعم العسكري كان حاسمًا في تغيير موازين القوى لصالح الأسد، وسمح له باستعادة السيطرة على معظم الأراضي السورية بعد أن كانت قواته مهددة بالانهيار في مواجهة تقدم قوات المعارضة.
وتعتبر القواعد العسكرية الروسية في سوريا، وخاصة قاعدة حميميم الجوية ومنشآت طرطوس البحرية، من الأصول الاستراتيجية الحيوية بالنسبة لموسكو. فهي تمنح روسيا حضورًا عسكريًا دائمًا في البحر الأبيض المتوسط، مما يعزز قدرتها على تنفيذ عمليات بحرية وجوية في المنطقة. وقد تزايدت المخاوف الروسية من تهديد هذه القواعد في ظل التطورات الميدانية المتسارعة، مما دفع بعض المدونين العسكريين الروس، وبعضهم مقرب من وزارة الدفاع الروسية، إلى التحذير من أن هذه القواعد قد تكون مهددة بشكل خطير إذا استمر الوضع العسكري في سوريا في التدهور. وفي إطار هذه التحديات، سعى المسئولون الروس إلى تأمين هذه القواعد الحيوية من خلال ترتيب اتفاقات مع الأطراف المعنية، بما في ذلك ضمان حماية المنشآت العسكرية الروسية من أي تهديدات قد تنشأ من الجماعات المسلحة أو من القوات المعارضة لنظام الأسد. ويعد الاتفاق الأخير مع بعض زعماء المعارضة السورية خطوة نحو ضمان أمن هذه القواعد والمرافق الروسية، وهو ما يعكس استمرار موسكو في تكريس جهودها للحفاظ على نفوذها العسكري والسياسي في سوريا.
في النهاية، يبقى موقف روسيا ثابتًا، حيث ستعمل على تأمين الأوضاع في سوريا بما يضمن الحفاظ على مواقعها العسكرية ومصالحها الإقليمية.
الولايات المتحدة الأمريكية:
في تصريحات أدلى بها الرئيس الأمريكي، جو بايدن، يوم الأحد الماضى، أكد أن الشعب السوري أمام فرصة تاريخية لبناء السلام في بلاده، مشيرًا إلى أن الولايات المتحدة ستسعى للتعاون مع الأطراف السورية لتأسيس مرحلة انتقالية تشهد تحولًا سياسيًا يحقق الاستقرار. وأوضح بايدن أن واشنطن ستقدم دعمها الكامل للدول المجاورة لسوريا خلال الفترة الانتقالية، في إطار تعزيز الأمن الإقليمي وضمان استقرار المنطقة التي تشهد تقلبات مستمرة.
وأشار الرئيس الأمريكي إلى أن بلاده ستتخذ مواقف حازمة في مراقبة أفعال الفصائل المتمردة، وذلك لضمان أن الجماعات التي تم تمكينها حديثًا ستعمل لصالح السلام والعمليات الديمقراطية في سوريا. ولم يغب عن تصريحاته التأكيد على أن الولايات المتحدة ستظل ملتزمة بعدم السماح لتنظيم داعش بإعادة بناء قدراته في المنطقة. وفيما يتعلق بموقف الولايات المتحدة من نظام بشار الأسد، شدد بايدن على أن واشنطن ترى أن روسيا وإيران وحزب الله فشلوا في الدفاع عن النظام السوري. وهذا الموقف عكس إصرار الإدارة الأمريكية على أنه لا يمكن للنظام السوري بقيادة بشار الأسد الاستمرار في الحكم.
تركيا:
في أول تعليق له منذ سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، صرح وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، بأن الشعب السوري سيكون له الدور الأبرز في إعادة تشكيل مستقبل بلاده. وأضاف فيدان أن تركيا ستظل داعمة لهذه العملية، مع التأكيد على أن التحول السياسي في سوريا يجب أن يتم بشكل يحفظ سلامة البلاد واستقرار المنطقة بأسرها. وفي سياق متصل، أعلن فيدان عن خطط لزيارة العاصمة القطرية الدوحة، حيث سيشارك في فعالية دبلوماسية ويجري محادثات مع نظرائه الروس والإيرانيين بشأن الأزمة السورية. من خلال هذه اللقاءات، يسعى فيدان إلى تعزيز التعاون الإقليمي في سياق التطورات الأخيرة التي تشهدها سوريا، خاصة بعد سقوط النظام.
وأكد فيدان خلال مؤتمره الصحفي في الدوحة أن “الأطراف الإقليمية والدولية يجب أن تكون حذرة في تعاملاتها مع الوضع السوري، وأنها لا ينبغي أن تساهم في دفع المنطقة نحو مزيد من عدم الاستقرار.” وأضاف أن تركيا منفتحة على العمل مع الشعب السوري في سبيل ضمان انتقال سلس نحو سوريا جديدة، قادرة على تحقيق الاستقرار الداخلي مع الحفاظ على علاقاتها الإيجابية مع جيرانها.
وأوضح أن “سوريا الجديدة” يجب أن تكون دولة مستقرة وآمنة، ولا تشكل تهديدًا للأمن الإقليمي أو للحدود التركية. تركيا هي من بين الدول التي تأثرت بشكل كبير بالصراع العسكرى على الأراضى السورية، على عدة أصعدة. فقد واجهت أنقرة تدفقًا هائلًا للاجئين السوريين، مما وضع ضغطًا هائلًا على اقتصادها ونظامها الاجتماعي. إضافة إلى ذلك، فإن ظهور الجماعات الكردية المسلحة، مثل وحدات حماية الشعب (YPG)، التي تعتبرها تركيا امتدادًا لجماعة حزب العمال الكردستاني (PKK)، يمثل تهديدًا أمنيًا مباشرًا، خاصة في مناطق الشمال الشرقي من سوريا التي تسيطر عليها هذه الجماعات. ومن أجل التعامل مع هذه التهديدات، سعت تركيا مؤخرًا إلى إعادة تطبيع علاقاتها مع النظام السوري بعد سنوات من التوتر والمقاطعة.
وفيما يتعلق بموقف تركيا تجاه سقوط النظام السوري، أكد فيدان أن بلاده كانت تتابع عن كثب تطورات الأزمة السورية منذ بدايتها في عام 2011. وعلى الرغم من موقف تركيا الذي كان معارضًا بقوة لنظام الأسد بسبب قمعه الوحشي للمعارضة والمظاهرات الشعبية، فقد تمسكت تركيا دوماً بموقفها الداعي إلى الحفاظ على وحدة سوريا وسلامتها الإقليمية. وقد دعت تركيا في أكثر من مناسبة إلى ضرورة إقامة حوار سياسي بين النظام والمعارضة السورية، وذلك بهدف الوصول إلى تسوية سلمية من شأنها ضمان مستقبل ديمقراطي لجميع السوريين.
وأكد فيدان أيضًا على أن الحكومة الجديدة في سوريا يجب أن تكون شاملة لجميع الأطراف السورية، مضيفًا أن القوى المناهضة للنظام يجب أن تتحد في هذه المرحلة الانتقالية. كما شدد على ضرورة الحفاظ على مؤسسات الدولة السورية ووظائفها بشكل فعال، بما يضمن استمرارية الخدمات الأساسية في البلاد. وأشار إلى أن تركيا ستبذل أقصى جهدها لضمان الانتقال السلمي والآمن، مع التأكيد على ضرورة معاملة جميع الأقليات السورية على قدم المساواة.
من جانب آخر، شدد فيدان على أن تركيا ستظل حريصة على الحفاظ على سلامة الأراضي السورية ورفاهية الشعب السوري في أي عملية انتقالية مقبلة. وأشار إلى التحذيرات المتكررة من قبل تركيا بشأن محاولات حزب العمال الكردستاني و”وحدات حماية الشعب” الكردية لفرض “إدارة ذاتية” في الشمال الشرقي من سوريا، وهو ما تراه أنقرة تهديدًا لأمنها القومي. وفي هذا السياق، أكد فيدان أن تركيا ستظل يقظة طوال العملية الانتقالية السورية، مع السعي الحثيث لضمان عدم استفادة جماعات مثل داعش وحزب العمال الكردستاني من الوضع القائم.
إيران:
في أول رد فعل رسمي لها على التطورات الأخيرة في سوريا، دعت إيران إلى إنهاء الصراع المستمر في البلاد، مشددة على ضرورة بدء حوار وطني شامل يكون موجهًا من قبل السوريين أنفسهم، لتحديد مصير بلادهم ومستقبلها.
وجاء هذا الموقف في بيان صادر عن وزارة الخارجية الإيرانية، أكدت فيه أن تقرير مستقبل سوريا “يجب أن يظل في أيدي الشعب السوري”، وأنه من غير المقبول أي تدخلات خارجية قد تؤدي إلى تصعيد الوضع أو فرض حلول من شأنها تعميق الأزمة. واعتبرت إيران أن أي محاولة للتأثير على مستقبل سوريا بشكل قسري ستعتبر تدخلاً مرفوضًا. منذ بداية الانتفاضة السورية في عام 2011، شكلت إيران أحد أبرز حلفاء نظام بشار الأسد. فقد قدمت طهران دعمًا عسكريًا وماليًا وسياسيًا ضخمًا للحفاظ على النظام السوري في مواجهة المعارضة المسلحة والتنظيمات الإرهابية. شمل هذا الدعم إرسال الأسلحة والمساعدات المالية، إضافة إلى إرسال مستشارين عسكريين من الحرس الثوري الإيراني وقواته الخاصة، مثل “فيلق القدس”، فضلاً عن دعم الميليشيات المحلية والإقليمية الموالية للأسد مثل “حزب الله” اللبناني وميليشيات عراقية وأفغانية.
وفي ضوء التطورات الأخيرة بسقوط بشار الأسد فى سوريا، أكدت طهران في بيان لها على ضرورة الحفاظ على سلامة جميع المواطنين السوريين. وأشار البيان إلى أهمية حماية المواقع الدينية والأثرية السورية، بالإضافة إلى ضمان سلامة البعثات الدبلوماسية والقنصلية في البلاد وفقًا للقانون الدولي. كما أعربت إيران عن استعدادها لمواصلة المشاورات مع الأطراف الإقليمية الرئيسية، بما في ذلك الدول المجاورة، من أجل تعزيز الأمن والاستقرار في سوريا. ووصفت طهران العلاقة بين الشعبين الإيراني والسوري بأنها “تاريخية وودية”، وتعهدت بأن هذه العلاقة ستستمر وتتعزز “بنحو حكيم وتطلعي” بما يخدم المصالح المشتركة بين البلدين ويعزز الوفاء بالالتزامات القانونية الدولية.
عند الحديث عن موقف إيران من إسقاط نظام الأسد، يتضح أن طهران تعتبر سقوط هذا النظام تهديدًا مباشرًا لمصالحها الاستراتيجية في المنطقة. فقد سعت إيران إلى الحفاظ على الأسد ليس فقط كحليف سياسي وعسكري، ولكن أيضًا كحاجز أمام محاولات توسيع النفوذ الغربي والعربي في المنطقة. كانت إيران تعتبر بقاء الأسد أمرًا حيويًا لمشروعها الإقليمي في الشرق الأوسط، والذي يشمل تعزيز نفوذها عبر دعم “الهلال الشيعي” الممتد من إيران مرورًا بالعراق وسوريا وصولًا إلى لبنان، حيث تواصل دعم جماعات مثل “حزب الله” اللبناني.
من خلال هذه السياسة، تأمل إيران في منع وقوع سوريا تحت تأثير دول أخرى معادية لها، وخاصة الولايات المتحدة وحلفائها، وهو ما يعتبر بالنسبة لطهران تهديدًا للأمن القومي الإيراني ومصالحها الاستراتيجية في المنطقة.
السيناريوهات المحتملة في سوريا بعد سقوط النظام السوري:
السيناريو الأول- انتقال سياسي تحت رعاية دولية:
في هذا السيناريو، تقود الولايات المتحدة وروسيا عملية انتقال سياسي، بالتنسيق مع القوى الإقليمية (تركيا وإيران)، يتم من خلالها تشكيل حكومة انتقالية شاملة تضم المعارضة والنظام السابق، مع ضمان الحماية الدولية واستقرار الأمن.
1) موقف الولايات المتحدة:
-ستدعم مرحلة انتقالية تضمن مصالحها الإقليمية، مع التركيز على القضاء على بقايا تنظيم داعش ومراقبة تحركات الفصائل المسلحة.
-تسعى لتعزيز دور المؤسسات الديمقراطية لضمان انتقال السلطة إلى حكومة مدنية منتخبة.
التحدي: قد تواجه صعوبات في بناء ثقة مع الأطراف السورية بسبب تاريخ التدخلات الخارجية، إضافة إلى مقاومة إيران وروسيا لأي نفوذ أمريكي موسع.
2) موقف روسيا:
-تسعى لضمان استمرار نفوذها العسكري والسياسي في سوريا من خلال حماية القواعد العسكرية (حميميم وطرطوس) والتأكد من أن الحكومة الانتقالية لا تعادي مصالحها.
-قد تدعم نظامًا ديمقراطيًا مرنًا يوفر مصالحها لكنه يسمح بالتوازن مع الأطراف الأخرى.
التحدي: التوفيق بين مصالحها ومطالب المعارضة والشعب السوري قد يؤدي إلى صراع داخلي أو معارضة إقليمية.
3) موقف تركيا:
-تدفع باتجاه حكومة صديقة تضمن عدم وجود تهديد كردي على حدودها، مع التركيز على إعادة اللاجئين السوريين.
-ستدعم الفصائل المعارضة المتحالفة معها سياسيًا وعسكريًا لضمان دور قوي في العملية الانتقالية.
التحدي: تحقيق التوازن بين دعم المعارضة وحماية حدودها من الجماعات الكردية، خاصة مع تدخلات دولية متباينة.
4) موقف إيران:
-تحاول الحفاظ على وجودها العسكري والسياسي في سوريا، مع ضمان عدم تفكك “الهلال الشيعي” الذي يربطها بالعراق وسوريا ولبنان.
-ستضغط لتضمين حلفائها في الحكومة الانتقالية وضمان استمرار نفوذها الاقتصادي والديني.
التحدي: صعوبة تقبلها لدور أمريكي أكبر أو خسارة حلفائها في النظام القديم.
السيناريو الثاني-استمرار الفوضى والصراع المسلح:
في هذا السيناريو، يتسبب سقوط النظام في فراغ أمني يفتح الباب أمام عودة الجماعات الإرهابية، مثل داعش، واستمرار الاقتتال بين الفصائل المسلحة، مع فشل القوى الدولية والإقليمية في التوصل إلى اتفاق.
1. موقف الولايات المتحدة:
-ستسعى لمنع صعود أي جماعة إرهابية جديدة من خلال تدخلات عسكرية محدودة ودعم حلفائها الإقليميين.
-قد تتجنب التورط العميق في الصراع بسبب الرأي العام الأمريكي المتردد تجاه التدخلات العسكرية الخارجية.
التحدي: إدارة الفوضى دون انجرار إلى صراع طويل الأمد.
2. موقف روسيا:
-ستركز على حماية قواعدها العسكرية، وربما تكتفي بدور عسكري محدود لتأمين مصالحها.
-قد تدعم ميليشيات محلية موالية لضمان بقاء نفوذها، مع تحمل خسائر محتملة بسبب تصاعد العمليات الإرهابية.
-التحدي: تزايد العداء المحلي والإقليمي ضد النفوذ الروسي في ظل غياب نظام مركزي قادر على احتواء الصراع.
3. موقف تركيا:
-ستتدخل عسكريًا في شمال سوريا لمحاربة الميليشيات الكردية ومنع تهديدات أمنية على حدودها.
-قد تسعى لتوسيع مناطق نفوذها في الشمال السوري عبر دعم حلفائها من المعارضة المسلحة.
التحدي: استمرار الفوضى قد يؤدي إلى تدفق لاجئين إضافيين وزيادة الضغط الداخلي على الحكومة التركية.
4. موقف إيران:
-ستعزز دعمها للميليشيات الشيعية في سوريا لضمان بقاء نفوذها على الأرض.
-قد تتحرك عسكريًا ضد الجماعات السنية المسلحة التي تعتبرها تهديدًا لمصالحها.
التحدي: تصاعد العداء مع الولايات المتحدة وتركيا، مما قد يؤدي إلى مواجهات إقليمية مباشرة.
السيناريو الثالث- تقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ:
في هذا السيناريو، يتم تقسيم سوريا فعليًا إلى مناطق نفوذ تديرها القوى الدولية والإقليمية، بحيث تكون الدولة السورية مقسمة بين قوى متنافسة.
1) موقف الولايات المتحدة:
-تركز على تأمين مناطق شرق الفرات، حيث الموارد الطبيعية (النفط والغاز)، وتعمل على تعزيز نفوذها عبر دعم قوات سوريا الديمقراطية (SDF).
التحدي: مواجهة انتقادات حلفائها في المنطقة، مثل تركيا، وتزايد التوتر مع روسيا وإيران.
2) موقف روسيا:
-تدير مناطق سيطرة النظام السابق، مع التركيز على حماية القواعد العسكرية الروسية وضمان استمرارية نفوذها في البحر المتوسط.
التحدي: تعارضها القوى الإقليمية، مثل تركيا وإيران، خاصة إذا حاولت تعزيز نفوذها بشكل أكبر.
3) موقف تركيا:
-تحكم مناطق الشمال السوري، مع إنشاء “منطقة آمنة” على طول حدودها لمنع التهديدات الكردية، وإعادة توطين اللاجئين.
التحدي: تعرضها لانتقادات دولية بسبب سياساتها تجاه الأكراد، وتصاعد العداء مع إيران وروسيا.
4) موقف إيران:
-تحافظ على نفوذها في المناطق الجنوبية والغربية لسوريا، مع التركيز على دمشق والمناطق الحدودية مع لبنان.
التحدي: صعوبة الحفاظ على هذا النفوذ في ظل الضغوط الأمريكية والإسرائيلية المستمرة.
ختامًا، يتضح أن مستقبل سوريا يواجه تحديات مصيرية في ظل التحولات الجذرية التي تشهدها الساحة الدولية والإقليمية. فالصراع الذي امتد لأكثر من عقد لم يكن مجرد نزاع داخلي، بل هو تعبير عن تداخل المصالح الدولية والإقليمية في منطقة ذات أهمية استراتيجية كبيرة. إن سقوط نظام بشار الأسد يشكل نقطة تحول رئيسية، لكنه يفتح الباب أمام سيناريوهات معقدة تتراوح بين انتقال سياسي صعب، واستمرار الفوضى، أو حتى تقسيم البلاد إلى مناطق نفوذ. لذا، فإن المرحلة المقبلة تستدعي جهودًا مكثفة من كافة الأطراف لتحقيق التوازن بين المصالح المتشابكة، وضمان استقرار سوريا بما يخدم شعبها أولاً، ويحافظ على أمن واستقرار المنطقة بأسرها.